سورية تُعيد فتح السؤال الكبير
يُضيف المشهد السوري بتطوّراته الدراماتيكية المباغتة مزيدا من السريالية والعبثية إلى المشهد العربي الحزين، مع تواصل آلة الإبادة الصهيونية المتواصلة، المستريحة على فراش الأنظمة العربية، التي قمعت وردعت شعوبها عن التعاطف مع محنة الشعب الفلسطيني والتعبير عن مساندتها لكفاحه.
إن فتح جبهات داخلية عربية هو آخر ما يتمناه الذين يخضعون لعدوان صهيوني غربي خارجي وحشّي ولإبادة يومية. فهذا التطور، أي انفجار الوضع في شمالي سورية، يُعيد التذكير بمشهد بالغ القسوة بالنسبة للشعب السوري والشعوب العربية، خصوصا لجماهير البؤساء التي تكسّرت أحلامهم عديد المرات، وأحلام الثائرين منهم الذين يجدون أنفسهم كل مرة يدحرجون صخرة سيزيف إلى قمة الجبل دون رؤية الخاتمة السعيدة في الأفق. إنّه مؤشر جديد على استمرار استعصاء إصلاح الوضع السوري الداخلي، وانسداد الحالة العربية برمتها، بما فيها الفلسطينية.
الفلسطينيون الذين يكابدون مظالم الاستعمار وغدر الأنظمة العربية منذ أكثر من مئة عام، يخوضون المعركة تلو المعركة بعناد عصي على الكسر لتحرير وطنهم، ولتحقيق العدالة، أو ينخرطون في مبادرات لإصلاح أوضاعهم الداخلية لتسريع عملية التحرر، ووضع القاعدة القوية لمجتمع المستقبل. أما الشعوب العربية، فإنها تفعل نفس الشيء مرة ضد العدوان الخارجي، ومرة ضد أنظمتها الدموية، وبين هذا وذاك حروب داخلية دموية عبثية، دون أن تتمكن من زحزحة النخب الحاكمة المسنودة من الخارج عن سياساتها التدميرية.
لقد أعاد الحدث السوري إشعال النقاش، وتجدد الانقسام داخل التيار القومي العربي، أو أنصار مشروع المقاومة، بين من يرى ذلك استئنافا لكفاح الشعب السوري من أجل التحرر من الاستبداد من جهة، وبين من يرى فيه مؤامرة تستهدف سورية الممانعة أو المقاومة من جهة أخرى. وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل هي مستفيدة من كل ذلك، ولكنه أعاد فتح السؤال الأكبر، ألا وهو علاقة النهضة الداخلية كشرط لتحقيق المناعة ضد الخارج.
تعيش سورية نكبة عظمى منذ قمع ثورتها الشعبية السلمية بوحشية وتغييب وجهها المدني الديمقراطي. هذا القمع الدموي الذي حدث قبل أن تنجرف ثورتها إلى العسكرة والارتهان للقوى الخارجية التي ساهمت، بسبب بطش النظام، في تدمير الثورة. وهذه النكبة هي ذات وجهين؛ وجه يتمثل بالقتل والتهجير والتدمير، وعدم عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى وطنهم؛ ووجه آخر يتمثل في ابتلاء الشعب السوري بنظام متوحش وفاشل مرتهن بقاؤه بالدعم الخارجي من جهة، ومعارضة إسلامية جهادية فاشية ارتهنت للخارج ولأنظمة عربية وإقليمية مرتبطة بالغرب من جهة أخرى. وفي الوسط غابت أو جرى تغييب القوى الوطنية الديمقراطية المدنية إما بالقمع الوحشي أو بالإسكات عبر التخويف والترهيب، أو بالهجرة إلى الخارج.
وبعيدا عن أسباب هذا الانفجار في الشمال السوري، يحدث كل هذا في وقت تتواصل الإبادة الهمجية في غزة، وضد الشعب الفلسطيني كافة، والأكثر إيلاما أن يحدث بعد يوم واحد فقط من وقف إطلاق النار في لبنان الجريح الذي دافع عن نفسه وعن فلسطين في مواجهة العدوان الإسرائيلي بصورة أسطورية، والذي يحتاج شعبه لالتقاط الأنفاس وتضميد الجروح ودفن وتوديع الشهداء. ويذكر أن أقلاما كثيرة استلت لتُدلي بقولها في ما يجري، بين من مهاجم أو متحفظ أو مبتهج. كما صدرت قبل هذا الحدث أصوات تنتقد النظام “الممانع” بسبب النأي بنفسه عن محور المقاومة والمواجهة المندلعة في فلسطين ولبنان، وذلك حفاظا على بقائه وتجنبا لاستدعاء عدوان إسرائيلي شامل عليه، آخذا بنصيحة محور التطبيع المتحالف مع إسرائيل وفي مقدمتها الإمارات، وكذلك بطلب الرئيس الروسي، بوتين. وأصوات أخرى تهاجم المعارضة الإسلامية الجهادية التي كانت تحتفي باغتيال إسرائيل لقادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية، تلك المعارضة المسلحة التي غلّبت مواقفها الأيديولوجية العدمية على المواقف الدينية المستنيرة والقومية والأخلاقية.
تتجاهل وسائل الإعلام الموالية لمحور المقاومة الأسباب الحقيقية لهذا التدهور، سوى قليل منها يتمتع بقدر من الرصانة والموضوعية في هذه الأزمة تحديدا. ولذلك، تهيمن مرة أخرى مقولات المـؤامرة التي تهمل عن قصد جذور الأزمة. كما تحتفل وسائل إعلام أخرى، محسوبة على التيار الديمقراطي، بهجوم فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام، النصرة سابقا، على مدن وأرياف الشمال السوري، دون التأمل بأيديولوجيات تلك الفصائل التي ليس لها علاقة بالديمقراطية أو حقوق الإنسان أو بالثورة.
تركيا ليست بريئة مما يحصل، بل هي راضية عن ذلك على الأقل، ومشجعة على ذلك، رغم أن ليس لها سطوة على هيئة تحرير الشام، كما هو الحال مع “الجيش السوري الوطني”. وهي راضية أو داعمة عن هذا الحراك العسكري لاعتقادها أن ذلك قد يحرّك الوضع ويدفع إلى عقد تسوية داخلية تنعكس إيجابيا على الوضع التركي الداخلي، وذلك بعد أن رفض بشار الأسد توجهات أردوغان المتكررة بالمصالحة بين الدولتين.
ويرى العديد من المحللين أنه كان بإمكان نظام الأسد أن ُيجنب سورية هذا الهجوم واجتياح فصائل المعارضة لو أنه أبدى مرونة، كما فعل مع أنظمة التطبيع، مع توجهات أردوغان الذي ظل لعام كامل يستجدي رئيس النظام لعقد مصالحة وذهابه نحو التركيز على الخطر الإسرائيلي، الذي كان يهدد “سورية والأمن التركي”، بحسبه.
صحيح أن الخوف لدى أردوغان هو من الخطر الإسرائيلي المتمثل في إمكانية دعم إسرائيل لحركة “قسد” (“قوات سورية الديمقراطية” الكردية)، وفكرة الدولة الكردية على حدود تركيا، أكثر منه حرصا على سورية من إسرائيل. كما أن تركيا منخرطة في مراجعة لسياساتها التي ورطت البلد بصراعات وحروب دموية نتج عنها وجود ملايين اللاجئين على أراضيها، وبالتالي هي بحاجة للعودة إلى السياسة السابقة، أي تصفير المشاكل مع الجيران والإقليم. فهكذا تتقاطع مصالح الدول أو الأنظمة في محطات صعبة.
ولكن، إذا وضعنا الحدث، هجوم فصائل المعارضة على مدينة حلب وأريافها في سياقه وأسباب حدوثه، فإنه يعود إلى انسداد المسار السياسي، وتحديدا مسار أستانة، الذي يقتضي معالجة الأزمة الداخلية عبر الإصلاح الدستوري، ولم شمل السوريين، وإجراء مصالحة شاملة. لقد تمسك النظام السوري بموقفه المتصلب ورفضه للمصالحة الداخلية؛ فمنذ توقف القتال الداخلي عام 2016، ظلّت الأزمة مستمرة دون الإقدام على أي تغيير أو إصلاح، وظلّ ملايين اللاجئين السوريين غير قادرين على العودة من أماكن اللجوء، ناهيك عن المهجرين الداخليين. هذا بالإضافة إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي بصورة خطيرة. كما نشأت أسئلة، بل عتاب شديد في أوساط القواعد الاجتماعية لمحور المقاومة بخصوص غيابه عن ميدان المعركة في فلسطين ولبنان، وهو الذي يخضع جزء عزيز من أراضيه، الجولان، تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من خمسين عاما. ولسان حالهم يقول، إذا كان كل هذا القتل، وهذه الدماء أريقت في سورية على مدار عشرة أعوام تحت شعار الممانعة، ومن أجل فلسطين، كما كان يقال، فلماذا هذا النأي بالنفس، و”النتيجة الماثلة أمامنا هو أننا لا أصلحنا الدولة السورية، ولا ساهمنا في معركة فلسطين”. بل يضيف هؤلاء أنه كيف يمكن التفرج على حزب الله، وهو يتعرض لمذبحة بسبب فتحه جبهة إسناد للفلسطينيين، وهو الذي كان ورّط قواته في الدفاع عن بقاء النظام؛ وبسبب ذلك خسر الكثير من شعبيته في العالم العربي، ليعود ويستعيد هذه الشعبية بعد اتخاذه قرار مساندة الشعب الفلسطيني، وصموده لأكثر من عام في وجه الآلة الإسرائيلية الحربية، وتكبّده تضحيات هائلة؟
ماذا يقول كل ذلك؟ يقول إنه لا يمكن تحقيق الانتصار على مشروع الهيمنة الخارجية طالما مجتمعاتنا منقسمة، وبتـأثير من تدخل الخارج، الإقليمي والدولي، ولا التغلب على التخلف الحضاري، بمعناه السياسي والاقتصادي والصناعي والثقافي والسياسي، من دون ديمقراطية وتنمية اقتصادية مستدامة وعدالة اجتماعية، أي لا نهضة عربية من دون إصلاح جذري للداخل، وتحرير المواطن من الاستبداد والإذلال ومن الفقر، وبالتالي لا يمكن تحقيق الانتصار النهائي على الصهيونية ومشروع الهيمنة الغربي، وما تمثله من قتل وسلب وفصل عنصري، وإبادة.
لقد مرّ على التغلب على الثورات العربية أكثر من عقد، تغولت خلاله الثورة المضادة، التي أعادت ترسيخ نظام القمع والاستبداد، وأدت إلى تعميق الشرخ المجتمعي الداخلي واتساع الفجوة بين الحاكم والمحكوم. لقد وضعت أنظمة الثورات المضادة المواطن بين خيارين، إما الاستبداد العسكري “العلماني”، أو الاستبداد الديني. ولكن هناك التوجه النهضوي الديمقراطي، والتحرري، والمناهض للديكتاتورية وللاستعمار والكولونيالية، الذي لا بد أن يظهر ويتبلور ويصبح لاعبا رئيسيا في الحياة العربية.
المصدر: عرب 48