سوريون يصفون “اليأس” في زنازين “فرع فلسطين”
معتقل سابق: “يكفي كنتيجة لهذه الثورة كلها، إنهاء الاعتقال القسري والعرفي من دون أي تهمة واضحة”.
(سوريون في سجن صيدنايا/ Getty Images)
في زنزانة واقعة تحت الأرض في “فرع فلسطين”، أحد فروع المخابرات العسكرية السورية في دمشق، في عمارة كبيرة مؤلفة من طوابق عدة، تنتشر رائحة العفن ومياه الصرف الصحي الجارية في الأروقة بين الزنزانات.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
لا نافذة تدخل الضوء من الجدران السوداء المليئة بالدبق في الغرفة الضيقة التي بالكاد اتسعت لأكثر من مئة شخص.
وهذا الفرع، الذي يخشاه السوريون كثيرًا، كان يستقبل خصوصًا موقوفين بتهم “الارهاب”؛ كثر دخلوا إليه على قيد التحقيق ثم “تنقطع أخبارهم تمامًا” عن ذويهم.
الصحافي محمد درويش (34 عامًا) دخل إلى السجن في فرع فلسطين لمدة 120 يومًا قيد التحقيق في العام 2018 بتهمة “تمويل الإرهاب بالمعلومات، والترويج للإرهاب”.
في الزنزانة رقم تسعة، يتذكّر البقعة الضيقة التي حجر فيها مع خمسين آخرين لإصابتهم بالسلّ. يتذكّر الشاب التركي الذي كان موقوفًا معهم وأصيب بـ”الجنون” على حدّ قوله من كثرة الضرب.
يقول درويش: “أنا من أكثر الأشخاص الذين حققوا معهم، لأن تهمتي بالنسبة لهم كانت كبيرة جدًا، تهمة الإعلام، كانوا يحققون معي مرة في الصباح ومرة في المساء”.
ويضيف: “كانوا يقولون لي إن المسلح برصاصة يقتل شخصًا واحدًا، بينما أنا بكلمتي أقتل الآلاف”، بينما يقول إنه كان يصور تقارير عن الواقع الخدمي في دمشق. وبعدما نقل إلى سجن آخر، خرج بعد عام وأكثر من “التوقيف العرفي”.
ويصف الشعور خلف القضبان “بشعور فقدان الأمل واليأس، عندما يغلقون هذا الباب عليك، تفقد الأمل بالغد، هذه البقعة شهدت مآسي، عائلات فقدت معيلها فقدت أبوها فقدت أخوها”.
ويتابع: “يكفي كنتيجة لهذه الثورة كلها، إنهاء الاعتقال القسري والعرفي من دون أي تهمة واضحة”.
وفرغ “فرع فلسطين” أو الفرع 235 في المخابرات العسكرية، تمامًا من كلّ العناصر الأمنية التي كانت موجودة فيه منذ الأحد. لكنّ زواره الآن على غرار محمد، هم موقوفون سابقون جاؤوا تحديًا للألم الذي عانوه هنا، أو تحديًا للخوف.
آخرون قرروا زيارة المكان للبحث في الوثائق والأوراق والملفات التي تركت فيه علّهم يجدون قريبًا لهم فقد في السجون السورية ولم يسمعوا عنه خبرًا، كما فعل كثر منذ سقط حكم حزب البعث قبل أيام.
في غرفة سوداء توزعت فيها آلاف الأوراق والملفات، وقفت امرأة وهي تقلب بين بطاقات هوية بحثًا عن قريب لها. وتقول فيما غطت وجهها بوشاح رمادي إن “اليائس يبحث عن أي خيط” يوصله إلى ما يريد، مفضلة عدم كشف اسمها.
آلاف فعلوا مثلها منذ الأحد حين فتحت أبواب السجون والمقرات الأمنية في مناطق مختلفة من سورية، لا سيما سجن صيدنايا السيئ الصيت.
عند مدخل “فرع فلسطين”، شاحنة عسكرية متوقفة، فرش مبعثرة، وأوراق خضراء وصفراء صغيرة رميت على الأرض. تركت بعض البدلات العسكرية والأحذية في مكانها.
“رقم 7”
أدهم بجبوج (32 عامًا) عاد أيضا لزيارة زنزانته السابقة، الزنزانة رقم سبعة.
ويقول الشاب المتحدر من درعا، والذي سجن في 2019 لانشقاقه عن الجيش مع بداية خروج التظاهرات المناهضة للسلطة في العام 2011: “قيل لنا إن دخولنا هنا إلى (فرع) فلسطين، من الشرطة العسكرية، لن يتعدى السؤال والجواب، لكنني بقيت 35 يومًا، أو 32 يومًا، لم أعد أذكر، في الزنزانة هذه”.
يقاطعه شقيقه الذي كان يقف قربه قائلاً “دخل وزنه 85 كيلوغرامًا، وخرج 50 كيلوغراما”.
كانت وظيفة القابعين في هذه الزنزانة تحديدًا هي “السخرة” وفق أدهم. ويقول “نخرج من الخامسة صباحًا، نمسح الأرضيات، ننظف مكان التعذيب، نخرج الموتى من الزنزانات، ننظف الحمامات والمكاتب”.
ويضيف أدهم، النحيل الجسد، أنه عاد إلى هنا الآن تحديًا للخوف الذي كان يشعر به من هذه الأروقة. ويروي الرجل “بعدما خرجت من هنا… بتّ أخاف أن أمر من قربه، حتى لو كان على طريقي، أبدل الطريق وأختار طريقًا أطول لكي لا أمر من أمامه”.
ويتذكر اللحظة الأولى التي دخل فيها الفرع، ويقول: “ضربونا ضربتين أو ثلاث بالكرباج… يحتاج المرء لعلاج يومين من بعدها من شدّة قوتها”.
في الطابق الأعلى، “غرف التعذيب” كما يصفها المساجين السابقون. غرف معتمة رمادية، على أحد جدرانها نافذة زجاجية كبيرة، لكن “كانوا يعذبوننا في الرواق أيضًا” يقول أحدهم.
في الجناح الآخر من المبنى الضخم، مكاتب وغرف الضباط والمسؤولين التي حرقت بالكامل. تنبعث رائحة دخان قوية من المكان الذي خلّعت أبوابه وتحوّل أثاثه إلى رماد.
في غرفة بالكاد فتح بابها، تظهر رفوف وزّعت عليها آلاف الأوراق المحروقة التي يعتقد زوار المقر أنها أوراق “مهمة” و”سرية” أحرقها المسؤولون قبل فرارهم.
من بين تلك الأوراق، رسالة من القيادة العامة للجيش إلى “النيابة العامة المختصة بمعالجة قضايا الإرهاب” تحتوي على تفاصيل توقيف مجند في الجيش لملاحقته “بجرم علاقته بالمجموعات الإرهابية المسلحة وبكل جرم يظهر بحقه خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة” موقعة من رئيس شعبة المخابرات في العام 2022.
“رقم 9”
يقول وائل صالح (42 عامًا) الذي جاء أيضًا لزيارة زنزانته رقم تسعة “جرّموني بالإرهاب، حتى اللحظة أنا مجرم بالإرهاب”.
ويضيف الرجل فيما حدّق بسجنه السابق “كانت مأساة، حتى هذه اللحظة أتذكر الأيام التي كنا فيها هنا، كنا 103 أشخاص، كنا نقف نحن ونترك الكبار في السن ينامون”.
المصدر: عرب 48