Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

سوريّة: التفاؤل الحذر

تثير الحالة السوريّة بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلّحة على مدن أساسيّة مثل حلب وحماة ومناطق واسعة من الشمال السوريّ، حيرة وبلبلة وتساؤلات إزاء ما يحصل، خصوصًا أنّ من بين الفصائل المتقدّمة تنظيمات ذات توجّهات سلفيّة جهاديّة، بل إنّ منها فصيلًا مركزيًّا ارتبط بتنظيم القاعدة، وهي “هيئة تحرير الشام”، “جبهة النصرة” سابقًا.

وهذا القلق في مكانه، خصوصًا أنّ المجهول أكثر من المعلوم، وأنّ هذه الفصائل غير معروفة لدى معظم الناس، سوى أنّها من مشتقّات “القاعدة” و”داعش”، رغم محاولات هذه الفصائل التأكيد على أنّها مرّت بتحوّلات فكريّة أكثر اعتدالًا، وبأنّ مقاتليها هم أبناء سوريّة، أبناء مهجّرين من دمشق وحلب وحمّص وحماة ودرعا وغيرها، أي أنّها ليست تنظيمات من مقاتلين أجانب كما تنظيم “داعش”.

وقصّة التنظيمات السلفيّة الجهاديّة في سوريّة تطول مع النظام السوريّ، واستعاضته عن الحرّيّة السياسيّة والتعدّديّة الحزبيّة في العقود الماضية ببناء المساجد والتديّن خصوصًا في الأطراف، باعتبار المسجد بديلًا عن الحيّز العامّ الحرّ للتعبير عن الموقف السياسيّ. وقد كتبت عن ذلك دراسات ومؤلّفات عديدة، باستغلال النظام للمساجد والتديّن كبديل عن التداول السياسيّ الحرّ. والنظام نفسه هو الّذي أطلق سراح المئات من الإسلاميّين المتطرّفين من سجونه مع انطلاق الثورة السوريّة بهدف تخريبها، وهو النظام نفسه الّذي استخدم السلفيّين الجهادين في مهاجمة القوّات الأميركيّة بعد احتلالها العراق، بل استخدمهم واستخدم هجماتهم على القوّات الأميركيّة عبر الحدود السوريّة – العراقيّة لتحسين شروط المفاوضات مع الولايات المتّحدة.

فالنظام ليس بريئًا من خلق حالة “السلفيّة الجهاديّة” كبديل عن التيّارات السياسيّة اليساريّة والعلمانيّة. فالسلفيّة الجهاديّة مرتبطة بالأنظمة العربيّة على مستويين؛ الأوّل، بأنّها سمحت لها بالعمل والتنظّم واستخدمتها في مواجهة قوى أخرى، مثل استخدام السعوديّة لـ”أفغان العرب” في أفغانستان لضرب الاتّحاد السوفييتيّ؛ والثاني، بأنّ أبناء هذا التنظيمات ذهبوا بما ذهبوا إليه من تطرّف شديد نتيجة الاستبداد الداخليّ بالتوازي مع الاجتياح الأميركيّ للمنطقة واحتلال العراق.

وقد دعمت أنظمة عربيّة رئيسيّة هذه التنظيمات الجهاديّة في سياق منافستها “على الإسلام” مع إيران بعد الثورة الإسلاميّة منذ نهاية السبعينيّات ومطلع الثمانينيّات، لتجتاح المنطقة “موجة سوداء” من التطرّف الدينيّ، السنّيّ والشيعيّ، في سياق تنافس سعوديّ – إيرانيّ، تجاوز المنطقة العربيّة ليصل إلى باكستان وأفغانستان.

وفي سوريّة تحديدًا، استقطبت التنظيمات الجهاديّة عديدًا من الشباب الثائرين بتوفير السلاح لهم لمواجهة النظام الّذي اجتاح أريافهم ومدنهم، دون أن يدقّقوا بفكر التنظيم وخلفيّاته، بل اهتمّوا بالتسلّح، ومن ثمّ غادر العديد منهم هذه التنظيمات، إذ انخرطوا في الثورة لدوافع مدنيّة مثل رفض الاستبداد، لكنّهم تورّطوا في مواجهات مسلّحة مع النظام. ولا يخفي شباب في الثورة السوريّة أنّهم مرّوا مثلًا بـ”جبهة النصرة” لأنّهم أرادوا صدّ عدوان النظام على أهاليهم، وهم غير ملتحين وليسوا جهاديّين، ولكنّه كان مرورًا مؤقّتًا. هذا الجانب ظلّ مخفيًّا بالثورة السوريّة ومأساتها ولا بدّ من التطرّق إليه، فنظم الاستبداد لا تنتج غالبًا حركات يساريّة ومدنيّة وديمقراطيّة وتنويريّة وإلخ، بل تنتج أيضًا تنظيمات متطرّفة مرتبطة بالواقع الاجتماعيّ المتخلّف والطائفيّة والغبن الّذي شكّله النظام، في موازاة انعدام أيّ أفق لحيّز عامّ للتداول السياسيّ أو الانتقال الاجتماعيّ. يمكن القول إنّ معارضي الاستبداد يتأثّرون به، وقد يشبهونه في نواحي عدّة، فمن أرضيّته السياسيّة والاجتماعيّة البائسة نبتوا، أمّا المنتديات الفكريّة العلمانيّة واليساريّة فهي منتديات نخبويّة في المدن الرئيسيّة، ولم يسمع بها أبناء الريف والأطراف، وحتّى هذه المنتديات خنقها النظام.

عودة على بدء؛ لا شكّ بأنّ النظام السوريّ لم يعد صالحًا لعصرنا، ولا يوجد فيه جانب إيجابيّ واحد، فهو عبارة عن مافيا أسريّة، تعيش على أوكسجين وفّرته إيران مقابل سماحه بنقل الأسلحة لحزب اللّه، ومنح إيران نفوذًا على الساحل المتوسّط، وكذلك بالنسبة لروسيا؛ لكنّه بات عبئًا على إيران ومحورها، بل إنّ الحرب لمنع سقوطه كلّف حزب اللّه غاليًا، إذ جعلته الحرب في سوريّة مكشوفًا أمام إسرائيل والولايات المتّحدة، بل منكشفًا لجهات في أجهزة الأمن السوريّة الّتي تسمسر بالمعلومات عن إيران وحزب اللّه مقابل المال. وبطبيعة الحال إضعاف النظام وسقوطه سيعني إضعافًا للنفوذ الإيرانيّ ولحزب اللّه، وتقوية لتركيّا ولإسرائيل في المقابل. هذا بمثابة معطى، لكن لا يجوز اختزال ما يحصل بهذا الأمر، ولا يمكن أن تقوم قائمة لمحور مناهض للغرب يستند إلى مافيا أسريّة فاسدة، فهو عقب أو كعب أخيل، بحيث تبيّن أنّه كان منفذًا لاختراق وضرب المحور الإيرانيّ، لأنّه فاسد ومهلهل، لا يريد مقاومة إسرائيل، بل يتكسّب مادّيًّا وسياسيًّا من نقل الأسلحة لحركات مقاومة إسرائيل، تمامًا مثلما يتكسّب من التجارة بالمخدّرات.

رفض بشّار الأسد إجراء أيّ مفاوضات مع تركيّا مشترطًا انسحابًا أوّلًا من الأراضي السوريّة، لكنّه لم يمانع من إجراء مفاوضات مع إسرائيل، وهي تحتلّ الجولان منذ خمسة عقود، ولم يشترط أوّلًا انسحابها من الأراضي السوريّة. كما أنّه أجرى مؤخّرًا مفاوضات مع الولايات المتّحدة بواسطة الإمارات، دون أن يشترط انسحاب القوّات الأميركيّة من الأراضي السوريّة. لقد كان أوّل اتّصال أجراه بشّار الأسد مع بدء هجوم المعارضة السوريّة، لحاكم الإمارات، وليس لحكّام طهران.

والحال كذلك، لا يوجد مؤيّدون كثر للنظام السوريّ سوى الّذين يصرّون على إقناع أنفسهم بأنّه قلب العروبة النابض. صحيح أنّ سوريّة قلب العروبة النابض، وليس النظام؛ ومنهم من يؤيّد بقاء النظام بسبب ارتباطه بمحور المقاومة، لكنّه تبيّن أنّه عبء على هذا المحور ومصدر اختراق. هو عبء لأنّه فاسد ومخترق ولأنّه لا يحظى بدعم شعبه، بل قتل شعبه، وزجّ محور المقاومة في عداء مع الشعب السوريّ ليبقى حاكمًا لدمشق.

أخيرًا؛ إيجابيّ هذا التريّث والحذر بعدم الإسراع بإعلان الفرح والابتهاج لسقوط النظام في حلب وحماة وغيرها، وهو نابع من أمرين: الأوّل جهل بطبيعة الفصائل المتقدّمة، وتخوّف من خلفيّاتها الجهاديّة؛ وثانيًا، نضوج بعد تجربة الفرح والابتهاج بالثورات العربيّة وسقوط أنظمة الّتي تلتها مآسي وثورات مضادّة وحروب أهليّة.

تبقى الحالة السوريّة مفتوحة على احتمالات كثيرة، رغم تهاوي قوّات النظام بهذه السرعة، وزيادة فرص سقوط النظام، لكنّ التجربة أثبتت أنّ هذا النظام لن يتردّد بإشعال حرب أهليّة دمويّة تحجب الحرّيّة عن السوريّين. كذلك تبقى مسألة إدارة المناطق المحرّرة من النظام غير واضحة حاليًّا، فهذه مناطق سيفوق عدد السكّان فيها، عدد السكّان في مناطق النظام، رغم أنّ الفصائل المعارضة أظهرت قدرة على إدارة وتنظيم حياة الناس وتوفير المقوّمات الأساسيّة في المناطق الّتي سيطرت عليها في شماليّ سوريّة منذ سنوات.

يستخدمون بالصحافة تعبير “التفاؤل الحذر”، ويصحّ ذلك على الحالة السوريّة أيضًا، رغم أنّ القادم غير واضح المعالم، بل قد يكون أكثر دمويّة. لكن بالنهاية الحلّ في سوريّة ليس عسكريًّا، بل سياسيًّا، وبعودة السوريّين إلى أراضيهم والعيش بحرّيّة والتخلّص من حكم المافيا، الّذي بات عبئًا ثقيلًا جدًّا على السوريّين، بل على المقاومين أكثر وأكثر.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *