شراكة في ظل الإبادة… غزة كضرر جانبي (3/2)
خطاب العقاب
إذا كان الصمت أحيانًا تعبيرًا عن حالة من الحياة “لا نستطيع ضبطها” استنادًا إلى مخزون شعوريّ وفكريّ مألوف (المقال السابق)، فذلك لأنّ الإصرار على كلام ناتج عن مخزون مألوف في مفصل غير اعتياديّ قد يعبّر عن أزمة، أو قد ينتج أزمة جديدة. يدّعي هذا المقال أنّ أهمّ ما يشير إلى أزمة الداخل حاليًّا ليس حالة الصمت والألم المنكفئ، كما أنّها ليست حالة الهروب والاختباء القهريّ من “الجثث المرصوفة بأناقة” إلى اضطرارات الحياة اليوميّة – والالتصاق بما تبقّى من حماية “نجدها” في المواطنة، كالعرض الوحيد المطروح “جديًّا” رغم معضلاتها. ما يعكس أزمة الداخل وكيف يعيش موقعه السياسيّ وكيف يعيش جدارته في الحياة، جدارته في الفعل الحرّ، إن قبلتم بهذا المنظور، خطابان، سأدعو الأوّل خطاب التداعيات أو خطاب “العواقب”، وسأدعو الثاني خطاب “الشراكة النديّة” لتمييزه عن خطاب الشراكة المألوف.
إنّ أوّل ما نصادفه في الخطاب حول 7 أكتوبر، أنّه لا يدور حول 7 أكتوبر، بل حول “تداعياته”. وهو مصطلح أعتقد أنّه جرى اختياره بدقّة لتأكيد معنى بعدنا عن حدث، ولا أقصد فقط بعدنا عن الحدث المركزيّ: طوفان الأقصى، بل أيضًا بعدنا عن الصراع الذي يمثّله طوفان الأقصى. فـ”التداعيات” التي يقصدها هذا الخطاب لا تتعلّق بتداعيات إستراتيجية تشير إلى تغيّر في علاقة الداخل بالصراع، أو إلى تغيّر في علاقتهم مع الدولة، ولا يقصد هذا الخطاب حالة الوجع والألم الجماعيّة التي يُرشَّح الداخل بشكل طبيعيّ لأن يكون جزءًا منها، بل المقصود التداعيات بالمفهوم السلبيّ والمتلقي للحدث: التداعيات العقابيّة. نستطيع أيضًا أن نسميه “خطاب العقاب” حيث تُحَمَّل “التداعيات” حصريًّا معنى الملاحقات وزيادة العنصريّة والتهديد والعنف والقمع، وكأنّ لا إشكاليّات ومفاهيم جديدة في المواطنة وفي حدود المشروع الصهيونيّ ومآزقه، طرحه في وجهنا 7 أكتوبر بحدّة. المنزوي في الجحر لا يشعر بالتحوّلات الكبيرة ولا يريد أن يكون جزءًا منها.
بؤس الذين “يبيعون الكوابيس” دائمًا
قد يثير هذا الكلام الشعور بالدعوة للاستخفاف بالتداعيات العقابيّة. هذا المقال دعوة للعكس، لكنه يؤكّد أنّ خطورة المرحلة القادمة تتطلّب مواجهة سياقها الواسع. إنّ وضع التداعيات “العقابيّة” على الداخل ضمن سياق الصراع الشامل، وعدم تقزيمها وحصرها في مفاهيم قديمة للعلاقة بيننا وبين الدولة، يوسّع من قدرتنا على الدفاع، ويفتح أمامنا آفاقًا جديدة لدفاع لا يكون إلّا باستهداف مواقع الهشاشة السياسيّة الإسرائيليّة.
خطاب التداعيات المسيطر على معظم منصّات وبيانات الداخل الرسميّة يقرأ الملاحقات والتحريض كعمليّة يمكن – بـ”فضل” المواطنة – أن نفصلها عن إبادة غزّة. هذا الخطاب لا يدعو إلى وقف الإبادة على غزّة، ليس لأنّه لا يرى العلاقة بيننا وبين شعبنا، بل لأنّه يريد فكّ العلاقة، وهو يُطالب الدولة أيضًا أن تفكّ العلاقة في الوقت الذي تعاملنا فيه كشعب واحد. المواطنة هنا إذن في مفهوم هذا الخطاب هي عمليّة فكّ ارتباط عن شعبنا. الإبادة وسياسات الدولة تدفعاننا بشكل غير مقصود باتّجاه عودة التحامنا بشعبنا وخطاب الداخل يسير باتّجاه تأكيد فكّ الارتباط.
خطاب التداعيات والحماية هو خطاب يتنكّر لغزة، لا لأنّه يضع في مركز مسؤوليّته عمليّة “الدفاع” عن الـ48، بل لأنّه يريد ذلك ويرى إمكانيّة لذلك ويحاول فعل ذلك عبر خلق سرديّة ومنطق سياسيّ منعزل ومفصول عمّا يحدث في غزة. نحن بصدد خطاب ونفسيّة ووجدانيّات تريد أن تقطع علاقتها مع أهمّ مفاصل الصراع تاريخيًّا ومع أعنف وكالة ذاتية للفلسطينيّين منذ النكبة.
هذا الفكر يعتمد وينشل من الأعماق قوالب فكريّة جاهزة سلفًا، قوالب في المواطنة معروفة، تحتمي وتلجأ لها بغضّ النظر عن تقلّبات وتحوّلات الواقع. منطق أنّ علينا الاحتماء بالمواطنة هو منطق معروف، وهو المنطق الذي يسكن في الخلفيّة الواعية أو غير الواعية لفصل الملاحقة عن إبادة غزّة وعما يحدث في الصراع الشامل، وهو المنطق الذي يكرّس “الخصوصيّة” التي تفترض وجود دولة عقلانيّة طبيعيّة ترى دورها ومصلحتها في حماية مواطنيها في الوقت الذي تقوم فيه بإبادة شعبهم.
إنّ منطق العقاب/ الحماية هذا، الأكثر قدمًا وتجذّرًا في التفكير السياسيّ للداخل، والذي نُطالب فيه من يعاقبنا نفسه بحمايتنا، يرسم خطًّا واضحًا مع الخوف ومع وضعنا النفسي السلبيّ. إذ يميل الإنسان وفق الأبحاث، للاعتماد على قوالب معروفة موجودة في الذاكرة أو في مخزونه الفكريّ والوجدانيّ. المكتئب يفضّل القوالب المعروفة له على مشقة البحث والتمحيص عن مخارج وأفكار جديدة، فالتجدّد والانفتاح والليونة الفكريّة تحتاج إلى نفسيّة ومزاج إيجابيّ.
الذهنية المتمركزة في الحماية من العقوبات تفصل الداخل عن الواقع، ليمسي طموحنا في أن نحمي أنفسنا من التأجّج ومن الطبيعة العاصفة حولنا؛ الهامشيّة التي لعنّاها كثيرًا تغدو ضمن هذا الخطاب بركة. كآبة هذا الخطاب لا تنبع من الخوف من الاختفاء أو التلاشي السياسي، بل من العكس، من أن نحتسب جزءًا من المشهد العاصف غير المسبوق الذي يدور حولنا.
يعكس تكرار الرؤى والمطالب واللغة والخطابات القديمة من قبل “من يُطلق عليهم صفة الأشخاص الواقعيّين” عدم إبصار للواقع – والذين هم بنظر إيزايا برلين (منظّر اجتماعيّ وسياسيّ وفيلسوف روسيّ – بريطانيّ) “أشبه بالمسرنمين” (الذين يمشون أثناء النوم)-. هؤلاء “الواقعيّين” وفق برلين “متى ما فتحوا أعينهم ورأوا الواقع على حقيقته، قد يخرجون عن أطوارهم لشدة ما سيذهلون”.
غزّة… امتحان الحدود
ليست إذن القسوة الفائضة عن الشرّ الذي تعيشه غزّة اليوم هي فقط من تجعل من الخطابات والرؤى والمطالبات والتحدّيات السابقة إعلان براءة من شعبنا، بل أيضًا الواقع الإستراتيجيّ الجديد الذي ستخلقه هذه القسوة. هذا الهروب الذي نمارسه لن يشكل تذكرة مرور لمنطقة أمان سياسيّ، مهما تقلّصت مكانتنا أمام ذاتنا، ومهما انزوينا وانكمشنا.
تفضح الأحداث الكبرى حدود الإنسان والشعوب والجماعات؛ إنّ بعض من يغضب على 7 أكتوبر أو يلومه من الفلسطينيين، يفعل ذلك ليس فقط للأسباب التي يصرح بها؛ يغضب على 7 أكتوبر من يريد أن يهرب من امتحانات مرحلة ما بعد 7 أكتوبر. ستحمل لنا المرحلة المقبلة امتحانًا ثقيلًا، ونحن نغضب على من بوسعه أن يفضح أو أن يكتشف قدرتنا على الاحتمال. نحن نغضب على من يكشف حدودنا. تمتحن غزة حدودنا في كلّ الاتّجاهات… تمتحن غزة حدود العالم الراهن في كل الاتّجاهات.
“عندما تبدأ البربريّة، على التزاماتنا الوجوديّة أن تنتهي”
شكل آخر من الخطاب المأزوم يطرح نفسه بشكل أكثر ثقة وجدَّة وراديكاليّة، وبشعور من الأكتيفيزم السياسي الراديكاليّ، فيما هو يمارس في النهاية عملية نزع لفلسطنة الداخل، “الفلسطنة”التي هي الآن تحديدًا عنوان كل أكتيفيزم حقيقيّ.
لقد وجد هذا الخطاب منصّاته أو أوجدته منصّات معاهد الأبحاث الإسرائيليّة ومؤسّسات إسرائيليّة، يقف على رأسها معهد فان – لير، الذي يأخذ على عاتقه الآن، وبشكل خاصّ ومدرك يقرأ المرحلة، استيعاب الطاقة “الراديكاليّة” الفلسطينيّة بهدف احتوائها. الدور الاحتوائيّ للمعهد في هذه المرحلة ينعكس أيضًا في هروب العقول اليهوديّة الراديكاليّة منه.
اجتهد معهد فان – لير منذ بداية حرب الإبادة على إستراتيجية فصل الذي لا يُفصل، الفصل (التمييز) بين القسوة والبهيميّة الإسرائيليّة وبين “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بمعنى أنّ لإسرائيل (الحصار والاحتلال والاستعمار) الحقّ في الدفاع عن نفسها فيما ليس لها الحق في الإبادة. وهو فصل (خالٍ) يُنكر التطابق الذي تجريه إسرائيل منذ نشوئها بين “الدفاع” وبين “الجرائم”. التمييز الذي يجريه فان-لير وغيره بين جرائم إسرائيل وبين حقّها في الدفاع عن نفسها ينكر حقيقة أنّ الجرائم هي الشكل الوحيد الذي تعرفه إسرائيل للدفاع عن نفسها وتثبيت وجودها، وهو ما أنشأها على الأرض.
رغم ذلك، يظنّ هذا الشكل “الراديكاليّ” من الخطاب الفلسطينيّ المأزوم أنه “يثأر” وفق تصوّره لمكانتنا وموقعنا التاريخيّ كفلسطينيّين، وأنّه يقدم تصوّرًا يبدو “متحديًا” لوكالة فلسطينيّة ذاتيّة تشخّص إسرائيل كمشروع استعماريّ ضمنيا أحيانًا، وصراحة أحيانًا أخرى، وتدعو لـ”شراكة نديّة” تلغي امتيازات المجموعة اليهوديّة وتقوم على مساواة كاملة، شراكة غير صهيونيّة.
يدّعي هذا المقال أنّنا بصدد محاولة إعادة طرح “دولة المواطنين” كسدّ لردكلة الفلسطينيين بفكر أكثر التصاقًا بشموليّة القضيّة الفلسطينيّة تدفع إليه إبادة غزّة والتحوّلات الجارية في إسرائيل وخروج الدولة الصهيونيّة عن نقاط توازنها، في الوقت الذي نشأت فيه فكرة دولة المواطنين (الأصليّة) كتعبير وكدفع لردكلة وكمقاومة لمناخ أوسلو الذي كان يدعونا ويطالبنا بفكّ ارتباطنا مع القضيّة الفلسطينيّة.
“دولة المواطنين” في ظلّ أوسلو وفي ظلّ تحويل القضيّة الفلسطينيّة إلى قضيّة حدود هي نقيض “دولة المواطنين” في ظلّ إبادة غزّة و”اكتشاف” الصهيونيّة كدولة مستحيلة، وعدم إمكانيّة إحياء القضيّة الفلسطينيّة إلا كقضيّة تحرّر وطنيّ شامل. للمفاهيم حياتها كما يقال، وقيمة الفكرة السياسيّة لا تكمن في مضمونها وفي مطالباتها، بل في وظيفتها وفي توظيفها السياسيّ في العصر العَينيّ الذي نبتت فيه، وضمن التحدّيات العينيّة التي أتت لتجيب عليها.
ضمن الحاضنة الفكريّة لمنطق “الشراكة النديّة” هذه، عقدت مؤخّرًا صحيفة “هآرتس” مؤتمرًا عكس خطابًا وضع في مركزه نقد التوجّهات العسكريّة، القامعة، العنصريّة للدولة الصهيونيّة، أي أنّه قرأ الحدث – كما هو متوقع – من باب “تداعياته العقابية” البعيدة عن المعاني الكبرى للمرحلة المقبلة.
صحيح أنّ الخطاب بدا “راديكاليًّا”، إذ طرح رؤية ولم يلتصق بالتداعيات، وحملت الرؤية ضمنيًّا أو صراحة لدى كثيرين تحديًا يقوم على رفض الفلسطينيين في الداخل أي نوع من التسوية، أقل من نزع الطابع الصهيونيّ عن الدولة. لكنّ غزّة غابت عن هذا التحدّي.
غزّة المُبادَة وغزّة التي تفتح الآن عصرًا جديدًا في الصراع، والتي لا يمكن الكلام في السياسة دون أن تكون في مركزها، كانت غائبة عنه. غزّة المحاصرة والمُبادة التي هي من ستحدّد مصير الصراع ومصير هذه الدولة ومصيرنا، بدت وكأنّها مشهد تصوير لخلفيّة فيلم تجري أحداثه الرئيسية على منصة “هآرتس”. إبادة غزّة من النقاش السياسيّ كما هي تباد على الأرض، يجعل الحديث عن المساواة أكبر عمليّة استعلاء ومحو.
مشارك واحد فقط من حوالي 13 مشاركًا فلسطينيًّا بدأ كلمته ومَحوَر مداخلته حول غزّة. نقاشات سياسيّة كثيرة لي مع أسعد غانم، البروفيسور في جامعة حيفا، لكنّ غزة والاستعمار الصهيونيّ حضرا حصريًّا وبقوة في مداخلتِه، فبدت مداخلَتُه وكأنّها تنتمي لمنصّة أخرى أكثر جدارة بنا.
مصيبتنا في المؤسّسات البحثيّة الإسرائيليّة ليس أنها مؤسرِلة (بكسر الراء) بقوّة، بل على العكس، مصيبتنا أنّها تحتضن أفكارًا راديكاليّة ثم تجهضها في مرحلة حاسمة. هي تحتضن قاموسًا – وليس خطابا – راديكاليًّا يذهب إلى أقصى التحليل المعرفيّ، فيؤطّر الصراع كاستعمار استيطانيّ، يتحدّث عن الصهيونيّة كمشروع كولونياليّ، ويتحدث عن أصحاب الوطن والنكبة وجرائم تاريخيّة، ويقدّم لنا تصنيفات تجعله أكثر راديكاليّة ومجابهة للصهيونيّة من سقف الخطاب السياسيّ الرسميّ للجنة المتابعة بكثير، لكنه مع ذلك يرى في منصور عبّاس نموذجًا لشراكة من الممكن أن تقدمنا إلى الأمام.
الفكرة القائلة بعدم وجود علاقة متلاصقة بين توصيف الواقع وبين الحلّ الذي يطرحه، تحوّلت في خطاب المعاهد الإسرائيليّة إلى فكرة مفادها أن لا علاقة بتاتًا بين توصيف الواقع وبين الحلّ المطروح؛
الأولى، طُرحت لكي تبرّر فكريًّا أنّ كون إسرائيل أكبر عملية سرقة في التاريخ الحديث، لا يعني أنّه يمكننا الوصول إلى استعادة كاملة للتاريخ: فلسطين للفلسطينيين ولا مكان لسواهم، وأنّ علينا احتساب وقائع على الأرض: البشر. وأنّ البشر هم الحقيقة الوحيدة التي لا يمكننا محوها. إنّ الإبادة ليست واردة في الخيال الفلسطينيّ. كان يكفي لهذه الحقيقة أن تطرح في الأستوديوهات الإسرائيليّة لكي نحافظ على التمييز الأخلاقيّ بين الضحيّة وأقصى طموحاتها، وبين المجرم وأقصى طموحاته، بدل أن نجتهد في المساواة بينهما، تحت غطاء من “الموقف الأخلاقي” ومن أطنان المتفجرات.
الثانية، طُرحت لا لتحمي البشر، بل لتحمي مخلّفاتهم الاستعماريّة، وصولًا لتبرير “شراكة” الضحيّة مع استعماره.
يؤسّس هذا المنطق لعملية نزع القيمة التحرريّة عن المعرفة، يؤسّس لعملية إجهاض معنى “المعرفة التحرريّة”. أكاديميّو فان – لير هم منتج للأكاديميا الإسرائيليّة التي تعرف أنّها لا تستطيع إسكات أو إخراس المعرفة، ولا تستطيع منع تطوّر الخطاب الأكاديميّ العالميّ والفلسطينيّ بخصوص حقيقة وجوهر إسرائيل كاستعمار، لكنّها تستطيع تدجينه واحتواءه بنزع قيمته التحرريّة عبر تطوير طروحات سياسيّة معاقة لا تمتّ للمعرفة النقديّة بصلة واقعيّة.
شراكة رغم الإبادة
أكاديميّو “الاستعمار الاستيطانيّ” هؤلاء لا يوقّعون الآن على عرائض دوليّة ضدّ إسرائيل، ولا يدعون ما يجري في غزّة على منصّات “هآرتس” وغيرها إبادة، ولا يدعون لفلسطنة النضال، ولا ينادون بتحرير وعدالة شاملة من النهر إلى البحر، ولا يطالبون بمقاطعة إسرائيل، بل يدعون “لشراكة ندية”، أو يزورون رئيس الدولة الصهيونيّة الذي وقّع على صاروخ أهداه لأطفال غزة. يفعلون أشياء كثيرة في شبه “خبيصة”… المهمّ، بعيدًا عن غزة.
وظيفة خطاب “الشراكة النديّة” الآن واضح إذن: سحب البعد الفلسطينيّ الذي ترفعه غزّة حاليًّا على أكتاف شهدائها من نضالنا من قضية تحرّرنا وحريّتنا. ففيما يدعو نتنياهو إلى de radicalization لغزّة، يعمل اليسار على de radicalization للناصرة وأمّ الفحم واللدّ ورهط وحيفا. لقد مثّل مؤتمر “هآرتس” دعوة للشراكة مع الفئة الإسرائيليّة التي تحمل على أكتافها الاقتصاد والثقافة والأكاديميا والأمن الإسرائيليّ، لقد اختاروا لحظة غزة ليدعوا لشراكة مع الفئة التي تسكت وتشارك بمذابح بـ”مقياس صناعيّ”، لقد اختاروا أن يتحدّثوا عن الشراكة في منصّة أخذت على عاتقها حصريًّا مهمّة إنتاج الشرعيّة الأسرائيليّة دوليًّا.
تُقتبس “يديعوت أحرونوت” في لاهاي لكي يؤكِّد المتضامن مع الفلسطينيّين نيّة الإبادة التي تحملها إسرائيل تجاه غزة، في المقابل تُقتبس “هآرتس” لكي يؤكِّد المتضامن مع إسرائيل أنّنا بصدد ديمقراطيّة لها الحقّ في الدفاع عن نفسها. يجري من قبل هذا الخطاب تعويم “شراكة “اليسار لليمين في إبادة غزّة بالكلام عن شراكة “اليسار” مع فلسطينيّي الداخل.
صحيفة اليسار المنخرطة “بشكل نقديّ” في إبادة شعبنا في غزّة، تصفّق للفلسطينيّ الذي يتحدّث أنّه صاحب الوطن؛ هل غزّة هي جزء من هذا الوطن الذي نحن أصحابُه؟ ثمّ يجري على المنصّة تأكيد خطورة صعود اليمين، وكأنّ إبادتنا الجارية الآن بانخراط مراكز القوى “اليساريّة” هي ضرر جانبيّ. إنّ تضخيم دورنا بأن “الليبراليّين” لا يستطيعون دوننا دحر اليمين يبدو تعويضًا عن حقيقة كم يستطيعون دوننا إبادة غزة، إنّه تعويض جدير لأناس لا يتمتّعون بالجدارة.
“عندما تبدأ البربريّة… على التزاماتنا الوجوديّة أن تنتهي”؛ كانت هذه إحدى الجمل الأخيرة للكاتب النمساوي اليهوديّ الناجي من النازيّة جان أميري (هانز ماير) قبل أن ينتحر عام 1977، معبّرًا عن نهاية تضامنه مع الدولة اليهوديّة بعد اطّلاعه على التقارير “السطحيّة” حول تعذيب الأسرى الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة (“المحرقة بعد غزة”، بانكاج ميشرا).
يستعرض ميشرا تاريخ صناعة التضامن مع الدولة اليهوديّة ويربطها بتاريخ صناعة ذاكرة المحرقة، ثمّ يستعرض تاريخ اليهود الذين قاموا بعد الاطّلاع على الفظائع الإسرائيليّة بفكّ ارتباطهم الوجدانيّ العميق بالدولة اليهوديّة. بعضهم انتحر عندما خسر اليقين الأعمق في حياته. أمام مشهد غزّة، وأمام اليهود المنتحرين إثر ضياع التزامهم الأكبر، يتجدّد النقيض: الالتزام “الوجوديّ” الفلسطينيّ تجاه “يسار” ما.
يبتزّ هذا اليسار، الفلسطيني، عبر جملة “مفين أت هكيئيف” (أتفهّم الألم) أو عبر جملة أغرب “مَسكيم عِم هكيئيف” – ماذا تعني جملة “موافق مع الألم” بالضبط؟ هل تعني الموافقة أنّك معنا طالما نحن نتألّم؟ هل تعني أنّك تقبلنا شركاء طالما نحن ضحايا ضعفاء؟ هل تعني أنّ مقاومتنا قد تُبطِل شراكتنا؟ ثمّ ما هي وظيفة “نحن ضدّ قتل الأبرياء من الطرفين” التي تقال إسرائيليًّا عندما يُقتل “ما يكفي” من الفلسطينيّين؟
اليسار الحقيقيّ، هو ذاك الذي لا ينتظر منّا أي التزام، وأيّ تطمينات ولا يشترط علينا موقفًا ما من الكفاح المسلّح، ولا ينتظر منّا توضيحات ولا تبريرات، ولا اعتذارات ولا استنكارات عندما يقوم الفلسطينيّ بانتهاك القانون الدوليّ. هذا اليسار غير موجود في منصّات “هآرتس” ولا في مؤتمرات فان – لير. إنّه اليسار الذي كان أوّل من تظاهر في شوارع تل أبيب وحيفا، قبل مظاهرة قيادات المتابعة بشهر، والذي حمل لافتات داعية لوقف الإبادة، ومحاكمة الجنود القتلة، ما لم تقدم عليه لافتات وبيانات الفعاليّات السياسيّة الفلسطينيّة في الداخل. اليسار الحقيقي يُضرب ويُلاحق من قبل الشرطة الإسرائيليّة، ويوقّع على عرائض تطالب بمحاكمة إسرائيل، ويدعو لمقاطعة إسرائيل، ويستقيل من مناصبه الإداريّة في الجامعة العبريّة احتجاجًا على طرد بروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان، ويصدر عريضة يتّهم فيها الجامعة بالمشاركة في مخطّط إبادة الفلسطينيّين.
أمّا اليسار الذي ينتظر منّا “التزامات”، هذا الـ”اليساريّ موجود إذًا أنا موجود”، هذا الارتباط الوجودي المضادّ لمناهضة الجرائم والإبادة، هذه الشراكة التي أصبحت تعريفًا للمواطنة وليست مجرّد رؤية سياسيّة، وبالتالي، فهي لا تسقط ولا تهتزّ وقت الإبادة، هذا “النجاح الإسرائيليّ” الغافل عن الإبادة، هو ما يمنعنا من أدراك دورنا الإستراتيجيّ، وهو ما يمنع اكتشافنا واشتباكنا مع المتضامنين الأحرار من المجتمع الإسرائيليّ، وهو ما يحوّلنا حتى الآن إلى ملاحظة هامشيّة في تاريخ الصراع أو إلى مرتزقة سياسيّة.
نحن لا نريد من يستمع ويحتوي ويتفهّم ويفهم الألم، نحن لا نريد من يصفّق لخطاب الأصلانيّ وهو يتحدّث عن نديّة وعن شراكة صاحب الوطن، فيما الوطن يفرغ من أصحابه للمرة الثانية.
إسرائيل ككيان استعماريّ، من الخطاب إلى العقاب
يحوّل الخطاب السياسي المأزوم بكل صياغاته المتفاوتة قضية نادرة شلهوب كيفوركيان إلى قضيّة حرية تعبير. هذا الخطاب توجّه ويتوجّه إلى الجامعة العبريّة طالبًا منها احترام حريّة التعبير.
رسالة لجنة قضايا التعليم العليا للجامعة العبريّة بشأن نادرة شلهوب كيفوركيان، اختارت أن تفعل ما فعلته منصّة “هآرتس”: تغييب غزّة وتغييب الإبادة، وتغييب معنى منع حريّة التعبير في ظلّ الإبادة. هذا التغييب غطّى على حقيقة الدور الذي تلعبه الجامعة العبريّة، لتحوّل رسائل احتجاجيّة كهذه دور الجامعة من مساهمة في الإبادة عبر شرعنتها وتغطيتها وإسكات منتقديها، إلى مجرّد “منتهكة لحريّة التعبير”، أي من متّهمة بالجريمة الأولى ضد الإنسانيّة، إلى متّهمة بانتهاك ليبراليّ “جدير” بدول ديمقراطيّة.
لكي يقف هذا الخطاب المأزوم ضدّ إقصاء شلهوب – كيفوركيان كان عليه هو أن يقصيها أولا، أن يقصي خطابها وأن يتبنّى خطابًا آخر في معرض دفاعه عنها، أن يحوّلها من أكاديميّة تحارب الإبادة إلى أكاديميّة تدافع عن حقّها في حريّة التعبير، ومن أكاديميّة تخاطب دولة غير طبيعيّة، بهيمية وشرسة، إلى أكاديميّة تخاطب دولة عقلانيّة وليبراليّة.
رسائل الاحتجاج التي تغطّي على دور الجامعة (والجامعات الإسرائيلية جميعها) في الإبادة هي بمثابة لوائح دفاع عن الجامعات الإسرائيليّة وليست لوائح اتّهام، وهي تضعف موقف شلهوب كيفوركيان لكونها تضعف سرديّة الإبادة وسرديّة الاستعمار الاستيطانيّ التي تمثّلها كيفوركيان، والتي بدأت إسرائيل بالخوف منها.
اختارت عريضة خرّيجي الجامعة العبريّة أن تفعل العكس؛ لقد قامت هي نفسها باتّهام الجامعة العبريّة بالمساهمة في إبادة غزّة، وبالتالي عزّزت من موقف وخطاب من تريد الدفاع عنه. إنّ قيام الجامعة العبريّة بتجميد عمل محاضرين عرب بسبب مواقفهم وخطابهم عن العمل، هو ليس تغييرًا أو تدهورًا في أخلاق الجامعة العبريّة ونزاهتها أو تحوّلًا في دورها، بل هو تغيير وتحوّل في مكانة إسرائيل ومؤشّر خوف لإمكانية تغيير في مكانة الجامعة نفسها عالميًّا. لقد أدركت الجامعة العبريّة ومعها كلّ الجامعات الإسرائيليّة أنّ محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة تفتح مرحلة أخرى أمام شرعيّة الدولة الصهيونيّة، الأمر الذي يعني أنّ الفكر الأكاديميّ النقديّ أصبح مرشّحًا للتأثير الفعليّ على خطاب قانونيّ دوليّ.
إنّ عدم قراءة هذه التغييرات على مكانة إسرائيل وعلى غطائها الأوّل: “ديمقراطيّة تدافع عن نفسها” وعلى التحوّلات الجارية داخلها، وانشغالنا الأعمى في كابوس “صعود اليمين”، يعمينا عن دورنا وعن قوّتنا الإستراتيجيّة الحقيقيّة، ويعمينا أيضًا عن الواقع المتشكّل أمامنا: انتصار اليمين يحدث الآن، والشراكة ضدّ “اليمين” التي تحوّل غزة إلى “ضرر جانبيّ” هي كابوسنا الحقيقيّ.
المصدر: عرب 48