شهر من دون هاتف في برلين
أحبّ برلين، مدينة قذرة لا تكترث بما فيها أو بِمَنْ فيها. ترى الأشياء والأشخاص على شاكلة عابري سبيل وإن استقرّوا. هم محطّة مِنْ محطّاتها. منذ زرتها لأوّل مرّة عام 2016 علمتُ أنّني سأعود إليها.
عدتُ إليها بعد عام بالضبط، لكنّها لم تكن مجرّد زيارة، كانت تلك العودة، ولا أعرف إن كانت كلمة ’عودة‘ تفي معناها هنا، تحمل في طيّاتها بوادر بقاء. أردتُ أن أبقى في هذه المدينة.
أتيتُ إليها مِنْ حيفا، حيث شعرتُ بأنّني غريبة، بيد أنّ في برلين كنّا جميعًا غرباء؛ جميع الأشخاص والأشياء، وهذا بخاصّة، كان غريبًا حقًّا.
في حيفا، كنتُ أعلم أنّني فلسطينيّة وهذه فلسطين، لكن فلسطين تلك كانت تظهر لي في زوايا صغيرة، ضيّقة وداكنة، تسترق النظر حينًا ثمّ تختفي.
في برلين، لا أحتاج إلى الإجابة عن سؤال مَنْ أنا وماذا أفعل هنا. جميعنا ضائعون. ولِمَ لا؟ تعلّمتُ أنّ وحده الحقّ لا يضيع، لكنّ الأشياء والأشخاص لا شكّ أو غرابة في ضياعهم.
مثلًا، في أحد الأيّام فقدتُ البوصلة؛ أي ضاعت منّي. كنتُ أجلس في «السوق التركيّ» في «ساحة كارل ماركس»، حيث تغوّطتْ على رأسي حمامة، تطاير الغوط ووقع على أماكن مختلفة مِنْ جسدي. لا أعلم كيف يتغوّط الحمام هكذا بلا حياء. في كلّ مكان وزمان، على رؤوس المارّة والأشياء. تذكّرتُ مباشرة أنّ هذه إشارة للخير، لكنّني تذكّرتُ أيضًا أنّني جالسة في سوق تركيّ في برلين، ولم أكن متأكّدة مِنْ بوصلة الخير ما إذا كانت ستعمل. ورغم أنّ عدد المرّات الّتي اختارني غوط الحمام فيها صدفة، أكثر كثيرًا من الخير الّذي حدث لي، استطاعت سخونة الغوط يومها أن تُدْفِئ رجلي الّتي طالها أيضًا، ولو لحظيًّا، وجعلتْني أشعر بأنّ الخير، ولو أنّ بوصلته ضائعة، قد اقترب. وها أنا أصبر وأصبر.
لعلّ الخير كغوط الحمام، يتساقط هو الآخر عشوائيًّا، لكنّني لا ألتقطه أو يلتقطني.
إذن، ما الّذي التقطتُه؟ الشرّ. أقصد النقيض، أو الإشارة إلى الشرّ، إذا أردتُ أن أكون أكثر دقّة؛ أي الغراب.
ونعيق الغراب، يشبه تغوّط الحمام في عشوائيّته وقلّة حيائه.
لطالما لقّنونا في الصغر معاني المفاهيم والدلالات، لكنّني لم أجدها تمتّ إلى الواقع بصلة عندما كبرتُ.
“نعيق الغراب ينذر بالشؤم”، “لونه الأسود ينذر بالموت”، لكنّه لم يفعل هذا معي. كان الغراب مؤنسي الوحيد في برلين لمدّة طويلة، ولا سيّما عندما كانت تغطّي سماء المدينة قشرة رماديّة تخترق قشرة المخّ بضوئها، وتجعل غيومه تتفرّق.
كان هناك غراب يأتي دائمًا إلى شرفة الشقّة الشاهقة؛ ليصدر نعيقه مِنْ جهة، وصوت خطواته على الحافّة الحديديّة الّتي تشكّل نهاية الشرفة مِنْ جهة أخرى. لا أعلم إن كان هذا الغراب نفسه في كلّ مرّة، لكن تلك الزيارات كانت لطيفة حقًّا.
أصبحتُ أقلّد صوت الغراب، في كلّ صباح ومساء، أصبحتُ أردّده حتّى عندما لم تكن هناك غربان، مع أصدقائي، وفي البيت، وحين أتحدّث إلى أحدهم عبر الهاتف.
في صيف 2021، اختار هاتفي النقّال أن يضيع هو الآخر، ويخرج عن صمته، ويسلّم الشعلة. تقاعد فجأة، ولم يَعُدْ يعمل. لكنّه لم يجد هاتفًا آخر ولا حتّى شعلة. أمّا أنا بدوري فلم أواجهه، بل قابلتُه بالصمت.
وضعتُه في جارور مع أوراق تجلس في غياهب الزمن، وتمنّيتُ له الراحة والسكينة، لكنّني في تلك اللحظة، لم أدرك ما الّذي جنيتُه؛ أو بالأحرى ما الّذي جناه هو.
انطلقتُ في رحلتي إلى المجهول في برلين؛ المدينة الّتي ترى الأشياء والأشخاص على شاكلة عابري سبيل وإن استقرّوا. الفرق الوحيد أنّني بدون هاتف. وما معنى هاتف في زمن كهذا، وفي مدينة كهذه؟
بالطبع لا مشكلة في التنقّل بين الأماكن المألوفة؛ فأنا ولو كنتُ أستعين بنظام تطبيق الخرائط على هاتفي مِنْ قبل، أصبحتُ أحفظ بعض الشوارع والأماكن، وأرقام القطارات ومساراتها، وأسماء المحطّات. في بعض الأحيان حفظتُ أيضًا عدد المحطّات الّتي تفصل بين نقطة أ ونقطة ب، أو الزمن الّذي يفصل بينهما. أمّا في المرّات الّتي كنتُ أذهب فيها إلى أماكن غير مألوفة، فهناك كانت تكمن الحكاية. توجّب عليّ دراسة الخريطة عبر الحاسوب قبل أيّ تحرّك. أيّ قطار سأستقلّ؛ رقمه؛ اتّجاهه؛ اسم المحطّة الّتي سأترك القطار أو أبدّله فيها؛ اسم المَخْرَج؛ أسماء الشوارع واتّجاهاتها؛ ورقم العنوان المحدّد، وحتمًا، طريق العودة تضمّنت الحكاية نفسها دون شكّ.
كيف أخبر شخصًا أنّني متأخّرة أو أنّني ضللتُ الطريق؟ لا أخبره.
كيف أعتذر عن عدم حضوري لسبب طارئ؟ لا أعتذر.
كيف أتحدّث إلى عائلتي أو أصدقائي أو حتّى زملائي؟ لا أتحدّث إلّا وقت الضرورة، عبر الإيميل.
شعرتُ بأنّني عدتُ إلى طريقة الحمام الزاجل؛ من أجل توصيل المراسيل وتلقّيها، وكان هذا أحد أسباب سعادتي.
طيّب، كيف أصبحتِ العلاقات الاجتماعيّة؟ سيّئة للغاية، لكنّها جيّدة للغاية مع نفسي وذاتي ودواخلي. فجأة، سمعتُ أنّ ثمّة صوتًا في داخلي يصرخ ويستغيث، لكنّني لم أعِه مِنْ قبل؛ مِنْ ضجّة الحياة الّتي لا تترك لنا بقعة ساكنة واحدة.
أذكر أنّني في أحد تلك الأيّام الجميلة، توجّب عليّ إجراء فحص كورونا سريع. ذهبتُ إلى المختبر، ودفعتُ الباب كأنّني أقتحم منزل عائلتي لمفاجأتهم بقدومي، حتّى سمعتُ صوت الموظّفة يصدح: هالو هالو! إلى أين؟ هل لديك موعد؟
فأجبتُ بكلّ سذاجة: لا، هل يمكنني أن أحصل على موعد؟
لا، ولكن يمكنك التسجيل والدخول مباشرة.
حسنًا.
تقدّمتُ باتّجاه مكتبها، مومئة بأنّني أطالبها بتسجيلي.
عفوًا، يجب عليك أن تخرجي وتصوّري ’الكود‘؛ لتنتقلي إلى صفحة التسجيل.
إمممم … لا أملك هاتفًا.
نظرتِ الموظّفة إليّ باستغراب وكأنّها لا تصدّق شيئًا ممّا أقول. اعتذرتْ إليّ قائلة إنّ العمليّة تحصل فقط إلكترونيًّا، رغم أنّها تحتاج فقط إلى بطاقة هويّتي الملموسة، الّتي كنتُ أحملها طبعًا.
لم تحصل العمليّة أو تنتهِ بأيّ نتيجة تقترب من النجاح، بل أرادت الموظّفة أن تثبتَ لي أنّ عهد الروبوتات قد تربّع على عرش الحاضر بثقة منقطعة النظير، وأنّ المنطق السابق سيبقى سابقًا، وأنّ المنطق الجديد قد لا يأخذ بعين الاعتبار أيّ خروج عن القاعدة، بل يصبح الخارجون عن القاعدة مسطبة أو سجّادة حمراء، تتلقّى دعسات هذا العهد المربك.
عدتُ إلى بيتي مطأطأة الرأس، عالمة أنّه لن يمكنني الخروج في ذلك اليوم الجميل لبقائي وحيدة، والعصيب لتفكيري فيه. غير أنّ شعورًا كان يقطن في داخلي، يودّ التواطؤ أكثر مع هذه الحالة الفريدة، واستخدام هاتفي المتمرّد حجّة دائمة للانطواء والمراقبة عن بُعْد؛ ففي المسافة عن الواقع، فهْم له وتفكّر فيما ينطق.
في يوم جميل آخر، تذكّرتُ أنّ صديقتي كانت قد أعطتْني لعبة فيها خمس خرزات وخمس دوائر فارغة، ولكي أنجح في لعبها؛ كان عليّ أن أضع كلّ خرزة في دائرة من خلال تحريك اليدين فقط؛ إذ يفصل زجاجة بين يديّ والخرزات. وتلك اللعبة كانت قمّة في الاستفزاز؛ إذ إنّه أحيانًا، قد تخرج خرزة مِنْ موقعها كنتُ قد وضعتُها فيه للتوّ، وبذلك أعاود الكرّة حتّى أنجح. في تلك الفترة، كنتُ أستخدم هذه اللعبة كثيرًا، وخاصّة أثناء وجودي في أيّ وسيلة نقل كانت. ولا بدّ مِنْ أنّني شعرتُ بشيء مِنَ الغرابة والغربة في مدينة مثل برلين، وفي مواصلاتها الّتي تعجّ بالكائنات، حيث يلتصق وجه جميع الخارجين والداخلين والسائرين والجالسين بأنواع شاشات مختلفة، أمّا أنا فيلتصق وجهي بهذه الزجاجة الصغيرة الّتي تُصدر صوتًا كلّما حرّكتها؛ في محاولة منّي لإدخال خرزة ما في دائرة ما.
ذلك الصوت، أصبح أليفًا؛ ففي كلّ مرّة كنتُ أمشي، كان صوت اللعبة يصدح مِنْ زاوية ما في حقيبتي. وفي كلّ مرّة غيّرتُ فيها حقيبتي، نقلتُ تلك اللعبة إلى الجديدة الّتي سأحمل. أصبحتُ أشعر بأمان كلّما سمعتُ ذلك الصوت، ولا سيّما كلّما عدتُ مِنْ مكان أثناء الليل مشيًا على الأقدام، كأنّني عنزة، علّق لها الراعي جرسًا حول رقبتها لكي يجدها لو ضاعت، وفكّرتُ أنّه ربّما في ظلّ كلّ ذلك الضياع سيتمكّن الراعي مِنْ إيجادي.
أنا أحبّ برلين، لكن أحيانًا أنسى أنّني أعيش فيها؛ أي في مدينة كبيرة، عاصمة ألمانيا؛ أنسى أنّني في مدينة متوحّشة قذرة؛ ضخمة ومظلمة، رغم أنّ فيها زوايا صغيرة مشرقة؛ أنسى أنّني أعيش تحت سقف رماديّ بارد يدغدغ سراديب دماغي.
أنسى هذا كلّه، وحين أتذكّره أرتبك.
برلين بالنسبة إليّ، ركن صغير دافئ، يعيش فيه ويتردّد إليه أصدقاء مِنْ أماكن، لا يمكنني حتّى أن أحلم بزيارتها بسبب تفاهات الحدود وجوازات السفر، وبلاهة حاكمي هذه التفاهات. بَيْدَ أنّ في هذا الركن الصغير زرتُ جميع تلك الأماكن في عيون أصدقائي؛ في بيوتهم؛ وفي قصصهم.
* ترجمت هذه المادّة إلى الإنجليزيّة رنا عصفور، ونُشِرَت مساهَمة في ملحق عن برلين في موقع The Markaz Review.
كاتبة وطاهية من فلسطين. تدرّس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها. ناشطة سياسيّة، من مؤسّسي حراك «ارفض».
المصدر: عرب 48