“طوفان الأقصى” مباغتًا الوعي
المطبوع في وعينا المشكّل من تاريخيّة الصراع العربيّ مع إسرائيل، هو مبادرة هذه الأخيرة دائمًا لفعل العدوان والحرب تحت عنوان ما يعرف في العقيدة الحربيّة الإسرائيليّة بـ”الضربة الاستباقيّة”، وذلك منذ حرب النكبة عام 1948 وصولًا إلى الحروب العدوانيّة على غزّة في العقدين الأخيرين، باستثناء حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر في سنة 1973، إذ بادر الجيش المصريّ في حينه إلى هجوم الحرب في صبيحة يوم الغفران اليهوديّ.
ليس هجوم صباح أمس السبت الّذي نفّذته فصائل المقاومة في غزّة على المستوطنات الإسرائيليّة في غلاف القطاع مجرّد قلبًا لمعادلة الصراع بمعناه العسكريّ، بقدر ما كان فتلًا لحركة سيرورة الصراع برمّتها، إذ ما تزال إسرائيل بكافّة أجهزتها وعدّتها وعتادها ترزح تحت صدمة هجوم لم تتنبّه له أدقّ أجهزتها الاستخباراتيّة، ولم يتوقّعه كبار المسؤولين والخبراء العسكريّين؛ اقتحام مباغت لعشرات المستوطنات والمواقع، مئات القتلى من بينهم ضبّاط برتب عسكريّة عالية وجنود، وعشرات الرهائن ومئات المفقودين حتّى الساعة.
ربّما ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي تبادر فيها فصائل المقاومة في غزّة الهجوم، فقد بادرت كتائب القسّام ومعها باقي الفصائل في دخول مواجهة ما أطلق عليها قبل سنتين معركة “سيف القدس”، وسمّتها إسرائيل بـ”عمليّة حارس الأسوار” في أثناء أحداث هبة الكرامة في أيّار/ مايو 2021، لكنّها مبادرة كانت في ظلّ مواجهة قائمة أصلًا على المستوى الفلسطينيّ الشعبيّ في القدس والأراضي المحتلّة عام 1948؛ فيما كان هجوم “طوفان الأقصى” كما أطلقت عليه حماس أكبر، لا بل وأغرب من أن يستوعبه قاموس الصراع في تاريخه. ففي ذاكرة الحرب مع إسرائيل تاريخيًّا اعتدنا واعتادت الأمّة كلّها الاستيقاظ على نبأ “جيش إسرائيل يشنّ عدوانًا أو حربًا”، فيما استيقظنا السبت على نبأ حماس تشنّ هجومًا.
تقف إسرائيل مشدوهة ومكتوفة الأيدي حتّى اللحظة، ليس إزاء فشل أجهزتها العسكريّة والاستخباراتيّة فقط، بل من ناحية قدرة الدولة ومجتمعها على استيعاب صدمة الهجوم، وليس الهجوم بوصفه مفاجئة في توقيته صباح سبت يوم العيد فقط، إنّما الصدمة من فكرة التفكير بالهجوم ذاته، ثمّ من موقعه وحجمه أيضًا، فالحديث هنا ليس عن استهداف دوريّة أو التسلّل لثكنة عسكريّة أو إغراق سفينة أو إسقاط طائرة، بل كان هجومًا شاملًا من البرّ والجوّ والبحر معًا. وهذا، وصل إلى الحدّ الّذي يجعلنا ندرك بأنّ ردًّا إسرائيليًّا لئيمًا قادمًا بلا شكّ، خصوصًا بعد حجم القتلى الّذي خلّفه الهجوم ومعه كمّ الرهائن والمفقودين.
ولكنّنا في الوقت ذاته غير قادرين على تخيّل حجم الردّ وشكل انتقاميّته ووحشيّته، وذلك ببساطة، لأنّه ليس هناك ما يمكن القياس عليه، علمًا بأنّنا نعي جيّدًا عدوانيّة إسرائيل وجيشها تاريخيًّا عند ردّهما على كلّ عمليّة فدائيّة قام بها فدائيّون سابقًا، فيما يتحسّس كلّ منّا اليوم رأسه في سؤال: ما الّذي سيحلّ بغزّة في الأيّام المقبلة؟
استفردت إسرائيل مؤخّرًا في حركة الجهاد الإسلاميّ في غزّة والضفّة الغربيّة بأكثر من عدوان، كان آخرها “السهم الواقي ” الّذي شنّه سلاح جوّ جيش الاحتلال في أيّار/ مايو الماضي، الأمر الّذي ظنّ فيه بعض المحلّلين والمتابعين بأنّ إسرائيل تعمل على تحييد حركة حماس من واجهة المقاومة في غزّة، ومحاولة عزل حركة الجهاد عنها والاستفراد بها عسكريًّا، وذلك إلى درجة الظنّ بأنّ حماس “لن” تخوض مواجهة مع إسرائيل من غزّة إلّا في سياق حرب إقليميّة.
وهذا ما يبقينا تحت وطأة سؤال آخر مفاده: هل يكون هجوم “طوفان الأقصى” مقدّمة لحرب أكبر وأوسع من أن تظلّ محصورة في مواجهة بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزّة؟
نهاية، لقد باغتت حركة حماس والحشود الغزيّة المساندة لها إسرائيل على مستوى الدولة والمجتمع، كما باغت “طوفان الأقصى” الوعي العربيّ والإسلاميّ عبر هذا العكس لحركة تاريخ الصراع في عدّة مناح، وستجيب الأيّام المقبلة، عن كلّ أسئلتنا المولودة من تفاجئنا، وصدمة إسرائيل؛ فالّذي علينا تذكّره دائمًا بأنّ هجوم “طوفان الأقصى” هو وليد سؤال القضيّة والأمّة عمومًا، بما يتخلّله من تفكّك دول ومجتمعات، وتراخ وتواطؤ وتطبيع؛ ثمّ غزّة خصوصًا وحصارها المستمرّ بوصفه فعلًا عدوانيًّا دائمًا على القطاع وأهله منذ سنين.
المصدر: عرب 48