ظاهرة “الاختفاء” في تجربة المقاومة الفلسطينية
في مقدمة كتابه “تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي” الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يقول الكاتب حسن الفطافطة، إن “الاختفاء عن عيون العدو ظاهرة نضالية مارسها العشرات إن لم يكن المئات من مناضلي شعبنا الفلسطيني في هذه المرحلة النضالية أو تلك من مراحل النضال الوطني الفلسطيني منذ عام 1967 وحتى اليوم”.
ورأى أن ذلك مقابل المئات بل الآلاف ممن مارسوا المطاردة خلال هذه المحطات النضالية المختلفة، وأن المقاومة الفلسطينية لجأت إلى استخدام هذا الأسلوب (الاختفاء) من المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة منها للاستمرار في أداء رسالتها وفعلها النضالي والثوري بعيدا عن حجز طاقتها خلف جدران الاعتقال أو في المقابر والمنافي في الشتات.
وأشار الفطافطة إلى أن الاختفاء كظاهرة نضالية هي ليست وليدة الحالة الفلسطينية زمن الاحتلال وحسب، بل هي ظاهرة تاريخية مارستها مختلف شعوب العالم في إطار صراعها ضد الغزاة والمحتلين، وضد ملاحقة أنظمة الحكم والطغيان لكل من يعارضها ويناهض سياستها، وقد اتخذت أشكالا وأنماطا مختلفة ارتباطا بالتاريخ والجغرافيا، وقدرة المتخفين على التحرك في مساحات شاسعة أو ضيقة من جهة، وتضاريس وطبوغرافيا مناسبة لهذا الغرض من جهة أخرى، ومع هذا فقد ابتدع العقل الثوري الوسائل والطرائق المناسبة لممارسة الاختفاء وإجادته أحيانا وفقا للظرف الملموس في الواقع الملموس.
ويركز الكتاب على الحالة الفلسطينية في الاختفاء في ظل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 وحتى اليوم، إذ شهدت على امتداد سنوات الاحتلال الإسرائيلي، كما يقول، الكثير من التجارب الفردية التي مارست الاختفاء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في هذه المحطة النضالية أو تلك، والتي اتخذت في بعض الأحيان توجها ومنحى عاما وممنهج لدى بعض القوى والأحزاب الفلسطينية، حيث تم الإعداد لها بشكل مركزي لاحقا رغم انطلاقها بالأصل كمبادرات فردية لهذا الكادر المبادر أو ذاك المسؤول.
ويشير في هذا السياق إلى العديد من المجموعات التي مارست التخفي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة وإبطالها في مراحل مختلفة بينها تجربة “الدوريات”، التي برز من بين أسمائها ياسر عرفات وتجربة “قوات التحرير الشعبية”، وتجربة “محمد الأسود” الملقب بجيفارا غزة في القطاع، وتجربة “الشيوعيين الفلسطينيين” بقيادة عربي عواد وسليمان النجاب، وتجربة “الجبل” بقيادة باجس أبو عطوان، وتجربة “الجبهة الشعبية” بقيادة أبو منصور وكذلك تجربة أحمد قطامش الذي ضرب رقما قياسيا في الاختفاء، وتجربة كتائب القسام التي برز فيها عماد عقل ويحيى عياش وغيرهم.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الكاتب والناشط، حسن الفطافطة، حول الكتاب و”تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي”.
“عرب 48”: الكتاب طرق موضوعا لم يتطرق إليه أحد من قبل بهذا الشمول وبتلك التفاصيل وتناولت فيه تجارب حية لمناضلين ومجموعات أرقّ اختفائهم الاحتلال سنوات طويلة، واصلوا خلالها نشاطهم السري السياسي والتنظيمي والعسكري بفاعلية قبل أن تطال معظمهم يد الاعتقال أو الشهادة؟
الفطافطة: الكتاب يحاول أن يتناول هذه الظاهرة وتعقب مراحلها المختلفة، وقد واجهت خلال البحث بعض الصعوبات بسبب التداخل بين ظاهرتي الاختفاء والمطاردة، وكان الهدف هو التركيز على ظاهرة الاختفاء تحديدا، حيث أوضحت في الكتاب الفرق بين الظاهرتين، علما أن الانطباع العام عند الناس أن كلتيهما واحد.
وقمت من خلال البحث برصد التجربة العملية في أكثر من محطة، وخصوصا في بداية السبعينيات وبداية الانتفاضة الأولى وبداية الانتفاضة الثانية، إذ كان هناك تداخل كبير في الحالتين، حيث أن نفس الأشخاص الذين مارسوا الاختفاء في لحظات معينة كانوا مطاردين وبعدها مارسوا الاختفاء وبالعكس.
“عرب 48”: أنت تقصد أن ناشط ليس مطاردا يقرر أن يحتجب عن الأنظار ويمارس نشاطه التنظيمي والسياسي وربما العسكري أيضا في الخفاء؟
الفطافطة: هو عادة يكون مطلوبا ويقرر الاحتجاب الكلي عن المجتمع والناس وتصبح علاقته محصورة فقط بالناس ذوي العلاقة بنشاطه وأصحاب الشأن الذين يتابعوه أو يتابعهم تنظيميا، وإذا أخذنا نماذج حاضرة في مخيم جنين أو البلدة القديمة نرى أن هؤلاء يأتون ويذهبون بين الناس ولكنهم يختارون أماكن من الصعب على الاحتلال الوصول إليها، وبالعادة فإن المختفي لا يعرف أحد عن كونه مختفيا أو مطلوبا، ويسكن عادة إما في المغاور في الجبال أو في بيوت سرية.
المحطة الأولى من الاختفاء السياسي بدأت في عام 1967 بعد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة وعرفت بـ”الدوريات”، وتمثلت بقدوم نشطاء من خارج فلسطين إلى الأراضي المحتلة والمكوث “متخفين” لفترات معينة في مناطق شمال الضفة تحديدا مثل بيت فوريك وقباطيا وغيرها، كان من ضمنهم ياسر عرفات وأبو علي مصطفى وآخرون، هؤلاء خرجوا في أعقاب تزايد الملاحقة الإسرائيلية لهذه الظاهرة.
التجربة الثانية قادها أناس من داخل الأراضي المحتلة وهي تجربة “جبال الخليل” التي ضمت خلايا لحركة “فتح”، برز من بين رموزها باجس أبو عطوان ووالده من قبله وعلي أبو مريحة ونشطوا في جنوب الخليل في منطقة دورا وما حولها، ثم كانت تجربة أبو منصور في شرق الخليل وهي مجموعات تابعة للجبهة الشعبية دامت لبضع سنوات وكانت عبارة عن مزيج بين الاختفاء والمطاردة حيث كان الناس يعرفون أنهم مطاردون ولكنهم لا يأتون باحتكاك مباشر مع الناس.
أما التجربة الثالثة فكانت في السبعينيات وهي تجربة الشيوعيين، أبرزهم عربي عواد وعبد الله السرياني وسايمان النجاب، الذين اختفوا في فترة ملاحقة الاحتلال لـ”الجبهة الوطنية” وتم إلقاء القبض عليهم في 1973 و1974 حيث جرى اعتقال بعضهم ومن ثم إبعادهم خارج الوطن.
إلا أن التجربة التي شكلت النموذج الأكثر وضوحا في ظاهرة الاختفاء كانت تجربة “الجبهة الشعبية” في أواخر السبعينيات، التي بدأها أحمد قطامش وانضم إليها مجموعة من النشطاء بينهم زكريا النحاس ووسام الرفيدي وغيرهما. الظاهرة تواصلت من عام 1976 وحتى عام 1992 وسجلت بواسطة أحمد قطامش، الذي اختفى لمدة 17 عاما وهو رقم قياسي.
“عرب 48”: أشرت إلى تجربة جيفارا غزة أيضا؟
الفطافطة: في قطاع غزة هناك تجربتين، الأولى هي تجربة جيش “التحرير الفلسطيني” بقيادة زياد الحسيني وتجربة محمد الأسود الملقب بجيفارا غزة الذي نشط في صفوف “الجبهة الشعبية”، ولكل تجربة خصائصها وأنماطها، وهي تجارب عمرت لسنوات.
“عرب 48”: التجارب عادة ما كانت تنتهي بالاعتقال أو الاستشهاد؟
الفطافطة: صحيح معظم التجارب انتهت بالاعتقال أو الاستشهاد، الكتاب تناول أيضا تجربة كتائب القسام في الضفة الغربية المحتلة وفي قطاع غزة، والتي كان من أبرز رموزها عماد عقل ويحيى عياش وإبراهيم حامد وغيرهم، والذين تنقلوا في إطار عملية الاختفاء بين الضفة الغربية وقطاع غزة، هذا علما أن فكرة الكتاب الأساسية تمحورت حول التركيز على الظاهرة والطرق والوسائل التي استخدمها المناضلون، من خلال الأمثلة الحية المتمثلة بالنشطاء الذين مارسوا هذا الأسلوب.
“عرب 48”: خلال فترة الاختفاء مارس النشطاء عملهم السياسي والتنظيمي وحتى العسكري؟
الفطافطة: الهدف من وراء الاختفاء لم يكن منع الاعتقال بل استكمال ومواصلة النشاط والمقاومة، وهو أسلوب مارسته معظم التنظيمات الفلسطينية خصوصا في فترتي الانتفاضة الأولى والثانية، وفي الانتفاضة الثانية بالذات برز الدور الكبير للوسائل التكنولوجية التي استخدمها الاحتلال في ملاحقة المتخفين والمطاردين، مثل الهواتف الخليوية والإنترنت والطائرات المسيرة وغيرها.
“عرب 48”: عملية اغتيال يحيى عياش كانت مثالا بارزا في هذا المجال؟
الفطافطة: صحيح، وهناك العديد من النماذج الأخرى، فمثلا إبراهيم حامد تم إلقاء القبض عليه بعد رصد موقع الإنترنت الذي بعث منه رسالة إلى زوجته في الأردن، وهناك العديد من المناضلين الذين جرى تعقبهم واستهدافهم بهذه الوسائل.
هذا علما أن الفكرة الأساسية للكتاب هي تأريخ وتدوين تجربة الاختفاء في النضال الفلسطيني ودور هذه التجربة في رفد المقاومة وتعزيزها وتواصلها لفترة أطول، والتي بدونها ما كان يمكن لها تحقيق هذه الإنجازات.
“عرب 48”: نلاحظ أن التجارب راوحت بين العمل العسكري والعمل السياسي والتنظيمي؟
الفطافطة: الهدف الأساسي للاختفاء هو تفويت الفرصة على الاحتلال بقطع التجربة، فهناك فرق بين أن تقوم بعملية ويتم إلقاء القبض عليك مباشرة، أو أن تختفي وتمارس نشاطك لسنوات إضافية، علما أن بعض التجارب كانت بهدف ممارسة العمل السياسي التنظيمي مثل تجربة الشيوعيين وبعض تجارب “الجبهة الشعبية”.
ظاهرة الاختفاء أفشلت تحويل كادرات أساسية في العمل الوطني إلى لقمة سائغة للاحتلال، ومكنتهم من مواصلة نشاطهم المقاوم لسنوات إضافية سهلت خلق بدائل تحل مكانهم بعد غيابهم وتحفظ استمرارية العمل النضالي.
حسن نعمان الفطافطة: كاتب وروائي من بلدة ترقوميا قضاء الخليل، مواليد سنة 1961، حائز على بكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة بيرزيت، عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، اعتقل في سجون الاحتلال ما مجموعه 24 عاما، صدر له العديد من الكتب الروائية والقصص والدراسات المسحية في الحقل الاجتماعي.
المصدر: عرب 48