عالِم مشروع “مانهاتن” لتطوير القنبلة الذريّة
في عام 1942، بدأت الولايات المتحدة مشروع مانهاتن، وهو برنامج بحثي شديد السرية هدف إلى تطوير قنبلة ذرية، وتم تعيين أوبنهايمر كمدير علمي للمشروع، وكان مسؤولًا عن تنسيق جهود العلماء والمهندسين عبر مواقع متعددة
مع إطلاق فيلم المخرج الأميركي البريطانيّ كريستوفر نولان “أوبنهايمر”، والذي تدور قصّته حول السيرة الذاتيّة للعالم الأميركيّ روبرت أوبنهايمر ودوره في تطوير القنبلة الذريّة، وكيف غيّر مشروع مانهاتن من كلّ شيء في العالم، اتّجهت أنظار العالم للبحث في سيرة حياة هذا الرجل، وكيف غيّر دوره في مشروع “مانهاتن” شكل العالم الذي نعرفه خلال الحرب العالميّة الثانية.
وأوبنهايمر هو أحد أهم الشخصيات في القرن العشرين، كان فيزيائيًا لامعًا وشخصية مركزية في تطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث شكل دوره في مشروع مانهاتن، الذي نجح في بناء أول أسلحة ذرية، لحظة محورية في تاريخ البشرية، إذ جلب كل من إمكانات التقدم الهائل والتهديد بتدمير غير مسبوق.
وتعتبر حياة وعمل روبرت أوبنهايمر بمثابة شهادة على قوة الفكر البشري والمآزق الأخلاقية التي يمكن أن تنشأ من التقدم العلمي، حيث أرسى تألقه في الفيزياء النظرية الأساس للاكتشافات المستقبلية، بينما أظهر دوره في مشروع مانهاتن الإمكانات الهائلة ومخاطر التكنولوجيا النووية، وما زال إرث أوبنهايمر مثار نقاشات في المسؤوليات الأخلاقية للعلماء وتأثير أبحاثهم على المجتمع.
وولد روبرت أوبنهايمر في 22 نيسان/ أبريل 1904 في مدينة نيويورك، ومنذ صغره، أظهر قدرات فكرية وفضول نهم للعالم الطبيعي، حيث أرسى تعليم أوبنهايمر في مدرسة مجتمع الثقافة الأخلاقية ومدرسة ألكوين الأساس لتألقه الأكاديمي، كما برع في الرياضيات والعلوم والتحق بجامعة هارفارد، حيث حصل على درجة علمية في الكيمياء، وبعد حصوله على درجة البكالوريوس، غامر أوبنهايمر بالذهاب إلى أوروبا للدراسة في جامعة كامبريدج، حيث عمل تحت إشراف عالم الفيزياء المرموق جيه جيه طومسون، وعرّضه الوقت الذي أمضاه في أوروبا لأحدث الأبحاث والنظريات التي من شأنها تشكيل مساعيه المستقبلية، بعد عودته إلى الولايات المتحدة، حصل على درجة الدكتوراه. في الفيزياء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) عام 1927.
وكانت أبحاث أوبنهايمر ومساهماته في الفيزياء النظرية واسعة ومؤثرة، إذ كان أحد أوائل أعماله البارزة في مجال ميكانيكا الكم، حيث قطع خطوات كبيرة في فهم سلوك الإلكترونات وتفاعلاتها مع المادة، وأصبحت ورقته البحثية عام 1930 حول “تقريب بورن-أوبنهايمر” مفهومًا أساسيًا في كيمياء الكم، بالإضافة إلى ذلك، لعب أوبنهايمر دورًا مهمًا في تشكيل الأساس النظري للفيزياء الفلكية، حيث كان عمله على البنية النجمية وسلوك النجوم النيوترونية رائدًا.
في عام 1939، أثار اكتشاف العلماء الألمان للانشطار النووي قلق المجتمع العلمي، مما دفع العديد من الفيزيائيين إلى التفكير في إمكانية وجود سلاح جديد مدمر، وكان أوبنهايمر، الذي كان حينها أستاذًا في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، من أوائل من أدركوا إمكانات الانشطار النووي للتطبيقات العسكرية، حيث أصبح مدافعًا بارزًا عن الولايات المتحدة لمتابعة الأبحاث الذرية.
وفي عام 1942، بدأت الولايات المتحدة مشروع مانهاتن، وهو برنامج بحثي شديد السرية هدف إلى تطوير قنبلة ذرية، وتم تعيين أوبنهايمر كمدير علمي للمشروع، وهو مسؤول عن تنسيق جهود العلماء والمهندسين عبر مواقع متعددة، وتحت قيادته، نجح الفريق في بناء واختبار أول قنبلة ذرية في يوليو 1945 في موقع اختبار ترينيتي في نيو مكسيكو.
وعندما أصبحت القدرة التدميرية للقنبلة الذرية واضحة، تصارع أوبنهايمر مع معضلات أخلاقية عميقة وانعكاسات أخلاقية، معربًا عن صراعه الداخلي حول عواقب صنع القنبلة، وأدرك أوبنهايمر المسؤولية التي جاءت مع إطلاق مثل هذا السلاح القوي، ودعا إلى رقابة دولية على التكنولوجيا النووية لمنع إساءة استخدامها، ومع ذلك، على الرغم من مخاوفه، تم إلقاء القنبلة على هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945، مما عجل بنهاية الحرب العالمية الثانية ولكنه تسبب في معاناة بشرية هائلة ودمار.
وتسببت آثار الحرب العالمية الثانية في اندلاع الحرب الباردة وزادت من المشاعر المعادية للشيوعية في الولايات المتحدة، كما أثارت الانتماءات السياسية لأوبنهايمر والارتباطات السابقة بأفراد يساريين شكوك المسؤولين الحكوميين، ووجهت إليه تهمة الخطر الأمني بسبب مشاركته السابقة مع الجماعات الشيوعية، على الرغم من ولائه للولايات المتحدة خلال الحرب.
وفي عام 1954، تم إلغاء التصريح الأمني لأوبنهايمر بعد جلسة استماع مثيرة للجدل إلى حد كبير أمام لجنة الطاقة الذرية (AEC)، إذ كان لهذا القرار تأثير مدمر على حياته المهنية وسمعته، واعتبر الكثيرون معاملة أوبنهايمر بمثابة إجهاض للعدالة، وتحدثت شخصيات بارزة، بما في ذلك ألبرت أينشتاين، لدعمه.
وبعد محنة التصريح الأمني، توقفت مسيرة أوبنهايمر في الفيزياء فعليًا، حيث واصل المساهمة في الفيزياء النظرية، لكن الحادث أثر على صحته وروحه، وأصبح أستاذاً في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيو جيرسي، حيث قام بتوجيه الأجيال القادمة من علماء الفيزياء.
توفي روبرت أوبنهايمر في 18 فبراير 1967، تاركًا وراءه إرثًا معقدًا ودائمًا، وعلى الرغم من الجدل الدائر حول حياته، لا يمكن التقليل من مساهماته في العلوم وتطوير الأسلحة النووية، واليوم، يُذكر أوبنهايمر باعتباره فيزيائيًا لامعًا صاغ مجرى التاريخ وكقصة تحذيرية للتحديات الأخلاقية التي يمكن أن تنشأ في السعي لتحقيق التقدم العلمي.
المصدر: عرب 48