“عبور الخط”.. واقع التجزئة بصفته التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين
د. بشارة: الكتاب يركز على بعض الممارسات السياسية القائمة في مناطق الـ48 وفي الضفة الغربية، مثلا فكرة النكبة التي توحد كل التجمعات الفلسطينية وتعطينا فرصة لنتعلم عن تجاربنا كفلسطينيين نعيش نكبة مستمرة في المدن والمخيمات والقرى المختلفة.
“عبور الخط: القوانين، العنف والحواجز ضدّ التعبير السياسيّ الفلسطينيّ”، هو عنوان الكتاب الذي صدر حديثا باللغة الإنجليزية لد. آمال بشارة الباحثة وأستاذة علم الاجتماع في جامعة “تافتس” بالولايات المتّحدة الأميركيّة.
يتناول الكتاب التجزئة الجغرافيّة السياسيّة التي فُرِضت على الفلسطينيّين في أعقاب النكبة، وتكرست عبر الجدران والحواجز العسكرية، التي قطعت الوطن الفلسطيني الواحد وخلقت أوضاعا سياسية وقانونية مختلفة لكل تجمع من تجمعاته رغم وقوعها جميعا تحت الهيمنة الإسرائيلية.
بشارة التي تعيش هذه التجربة على جلدها أيضا، هي ابنة لأب فلسطيني من ترشيحا في الجليل الأعلى وزوجة للاجئ فلسطيني من مخيم عايدة قرب بيت لحم، تضطر لعبور الحواجز ذهابا وإيابا في كل زيارة للوطن المقطع بالجدران والحواجز العسكرية والموحد تحت الاحتلال.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” د. آمال بشارة حول الكتاب خلال تواجدها في مخيم عايدة وقبل أن تتجه إلى مسقط رأسها ترشيحا.
“عرب 48”: عبور الخط الذي اتخذته عنوانا للكتاب يأخذنا إلى “الخط الأخضر” الذي يفصل فلسطين عن بعضها البعض والخط الأزرق الذي يفصل فلسطين عن لبنان والكثير من الخطوط الحمر المعززة بالجدران والأسلاك الشائكة والحواجز المدججة بالجنود والآليات العسكرية التي تمزق الجسد الفلسطيني الواحد وتعمل على تجزئة الوطن والشعب بين 48 و67 والشتات وغزة والضفة والجليل والمثلث ومناطق “أ” و”ب” و”ج” إلى ما لا نهاية من التقسيمات؟
د. بشارة: كتابي يدور حول حالة التجزئة المفروضة علينا كفلسطينيين بسبب النكبة وبسبب نظام الأبارتهايد، والتجزئة هي أهم التحديات التي نواجهها اليوم كفلسطينيين باعتبارها وسيلة استعمارية لتفكيك الوطن والشعب والهوية.
هذا الأمر بدأت ألمسه منذ عقد من الزمن وبدأت تظهر هذه الفكرة أيضا في تقارير حقوق الإنسان التي صدرت في السنوات الأخيرة عن “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدلية “أمنستي” وغيرهما، لكن التجزئة كقضية أو فكرة لم تحظ باهتمام كبير في الأبحاث، وأنا كباحثة في علم الإنسان أعتقد أنه من المهم أن نستكشف حال هذه التجزئة من خلال ممارسات سياسية تظهر بين الناس وفي الحياة اليومية.
في كتابي أنا لا أتناول الشعب الفلسطيني ككل بل أركز على الفلسطينيين في الضفة الغربية ومناطق الـ48 بشكل خاص، لأنه من الصعب أن أغطي جميع التجمعات الفلسطينية، ولكن أتأمل أن يفتح الكتاب الباب لمزيد من المناقشات والأبحاث حول هذا الموضوع، لأن مسألة التجزئة تؤثر على كل الشعب الفلسطيني أينما تواجد.
طبعا أساس التجزئة جسدتها نكبة الـ48 ولكننا نعرف أن النكبة مستمرة وكذلك التجزئة مستمرة أيضا، بين لبنان وسورية والأردن وفلسطين التاريخية وليس فقط بين الضفة والـ48 وأيضا بين الجليل والمثلث والنقب داخل الـ48 ومناطق “أ” و”ب” و”ج”.
والمؤسف كما حدثتني إحدى الزميلات التي تعمل في مركز” لاجئ”، أن الجيل الجديد من الفتية الفلسطينيين لا يعرفون حتى أسماء مخيمات أخرى مع أنهم لاجئون، وهذا أيضا جزء من التجزئة.
“عرب 48”: التجزئة فكرة استعمارية بدأت مع “سايكس بيكو” وورثتها الصهيونية عن الاستعمار البريطاني والفرنسي واستخدمتها كوسيلة لسياسة فرق تسد، لكن كما تحدثت فإن إسرائيل هي التي تفرقنا وهي التي تجمعنا في ذات الوقت، هي تفرقنا لتسهيل عملية السيطرة علينا وتجمعنا موضوعيا في مقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، واللافت في كتابك أن هذه العوامل الموحدة التي أشرت في الهوية والثقافة الفلسطينية تجعل مسألة تفتيتنا مستحيلة وتجعل مقاومتنا دائمة ومستمرة؟
د. بشارة: الكتاب يركز على بعض الممارسات السياسية القائمة في مناطق الـ48 وفي الضفة الغربية، مثلا فكرة النكبة التي توحد كل التجمعات الفلسطينية وتعطينا فرصة لنتعلم عن تجاربنا كفلسطينيين نعيش نكبة مستمرة في المدن والمخيمات والقرى المختلفة.
“عرب 48”: تحدثت عن أمور صغيرة أخرى مثل “صفة السيارة” في ترشيحا وفي مخيم عايدة، تحدثت عن مسألة القرابة وامتداداتها والتي تجعل من عملية التسلسل لتي تربط الـ48 بمخيمات لبنان على سبيل المثال، بسلسلة تمتد حلقاتها التي لا تنقطع وتتشكل منها الهوية الفلسطينية؟
بشارة: لاحظت التشابه في صفة السيارة بين ترشيحا ومخيم عايدة لأن لي أقارب وأحباء في المكانين، وبرغم الاختلافات بينهما في الموقع الجغرافي والقانوني، ترشيحا قرية في شمال فلسطين يحمل سكانها جواز سفر إسرائيلي وعايدة مخيم في جنوب أو وسط فلسطين يقع تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، فإنهما تعانيان من نفس السياسة التي تبتغي تقليص مساحة الأرض التي يعيش عليها الفلسطينيون حتى لا يجدون مكانا لصف السيارة.
“عرب 48”: لاحظت العوامل المشتركة العابرة للحدود ولحواجز التجزئة التي فرضتها إسرائيل، إن كانت عوامل مرتبطة بالهوية الجامعة أو العوامل المرتبطة بالقمع ومصادرة الأرض وانتهاك الحقوق والظلم المشترك الواقع على تجمعات الشعب الفلسطيني المختلفة؟
د. بشارة: نعم، واحدة من الأفكار الأساسية في الكتاب هي التركيز على الاعتداء الذي يمثله نظام الحواجز والإغلاق على حقوق الفرد ليس فقط في المجال الاقتصادي والاجتماعي، بل في مجال حرية التعبير أيضا، ونحن عادة ما نتحدث عن حق العودة بصفته حق قردي وجماعي ولكن حرية التعبير أيضا هي حق فردي وجماعي.
“عرب 48”: يبدو من الكتاب وجود العلاقة الجدلية بين التجزئة والوحدة، بمعنى أنه كلما أمعنت إسرائيل في عملية توحيد الأرض الفلسطينية تحت سيطرتها، كلما زادت من عملية تجزئة الشعب والوطن الفلسطيني؟
د. بشارة: يبرز أيضا بالمقابل العديد من الأمثلة على العمل السياسي الفلسطيني المشترك عبر الخط الأخضر، إذ تحدت “انتفاضة الكرامة” التي عمت كل فلسطين عام 2021 الخط الفاصل بشكل سافر، أيضا حركة “طالعات” التي تطالب بحقوق كل النساء الفلسطينيات والتي تطالب بالوحدة الفلسطينية هي أحد أشكال هذا التحدي.
هناك أيضا أنشطة على مستوى شعبي مثل النشاطات المرتبطة بقضية العودة التي يقوم بها “مركز بديل لحقوق اللاجئين” بين شباب وصبايا من أراضي الـ67 واراضي الـ48 ، وهناك مشروع تصوير الأسواق في البلدة القديمة الذي يسمى “حكايا السوق” ويشمل غزة ونابلس والقدس وعكا وحيفا، وفي مجالي “علم الإنسان” هناك مؤسسة اسمها “إنسانيات” تضم الباحثين الفلسطينيين في علم الإنسان، من مختلف أماكن تواجدهم وأنا أعتقد أن مثل هذه المشاريع الموحدة تزداد أهميتها في هذه الفترة الحساسة.
“عرب 48”: في الآونة الأخيرة وفي ظل تعثر التجربة الفلسطينية في أعقاب أوسلو، تطرح أفكار حول إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، بحيث تشمل كل تجمعات الشعب الفلسطيني بما فيها مناطق الـ48 التي همشت في السابق، وهي أفكار تكتسب مصداقية بعد أن وحدت إسرائيل فلسطين التاريخية تحت هيمنتها وأصبحت لا تميز بين أريئيل وتل أبيب؟
د. بشارة: من الضروري أيضا أن يشمل الفلسطينيين في لبنان وسورية والأردن وسائر الشتات، من السهلان أن نفكر في مشروع يشمل أراضي 67 وأراضي 48 لأن جميعنا نعيش تحت حكم إسرائيلي مباشر، لكن من الواضح أن كلنا فلسطينيين وجزء من نفس القضية ونفس مشروع التحرير الوطني.
ما أوصلته من خلال بحثي أننا كفلسطينيين لنا أدوات ووسائل مختلفة للتعبير في الأماكن المختلفة التي نعيش فيها، لكي نسمع الأشخاص ومراكز القوى، فالفلسطينيين في الضفة الغربية ما زالوا في مركز المشروع الوطني وقد يكون لديهم وسائل اتصال أفضل لإيصال صوتهم للمجتمع الدولي إلا أنهم مقيدون بوجود السلطة.
أما الفلسطينيون في مناطق الـ48 فيصعب إيصال صوتهم للمجتمع الدولي لأن الأخير ينظر إليهم من خلال الحكومة الإسرائيلية ويعتبرها ممثلة لهم كونهم يمتلكون جواز سفر إسرائيلي، لكن هؤلاء لديهم الفرصة للتأثير في الظروف السياسية والاقتصادية داخل إسرائيل، لأن المجتمع الإسرائيلي ينظر إليهم كمواطني دولة وهو يلاحظهم، لأن المتظاهرين الفلسطينيين عندما يغلقون الشوارع يتسببون للإسرائيليين بأزمة سير وعندما يضربون عن العمل يشلون حركة الاقتصاد الإسرائيلي.
بالمقابل فإن الفلسطينيين في غزة منعزلين أكثر من الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي الـ48. الفلسطينيون في لبنان وسورية منعزلون أكثر من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، في حين أن الفلسطينيين في الشتات خارج الشرق الأوسط في وضع مختلف تماما، لكن لنا مبادئ وأهداف مشتركة أهمها حق العودة وإنهاء الاحتلال.
ومن البديهي أن يكون لدينا تباينات وأصوات مختلفة ولكن من المهم أن نسمع بعضنا وندعم بعضنا لكي نفهم بعضنا ولكي نفهم الآخرين قضيتنا، ولذلك علينا إيجاد طرق جديدة لنتواصل مع بعض مع احترام اختلافاتنا وتنوعاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية عندها يمكن أن نتغلب على التجزئة وإعادة بناء الهوية والوطن.
د. آمال بشارة: أستاذة علم الإنسان في جامعة “تافتس” في الولايات المتحدة الأميركية. كتابها الأول يدور حول الأخبار الأميركية والسياسة الفلسطينية (نشر مع جامعة ستانفورة للنشر 2013)، إثنوغرافيا عن إنتاج الأخبار الأميركية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أما كتابها الثاني بعنوان عبور الخط: القوانين، العنف والحواجز ضد التعبير السياسي الفلسطيني (نشر مع ستانفورد 2022).
المصدر: عرب 48