على عتبة فصل جديد: ماذا يجري داخل اليمين الإسرائيليّ؟
ليس سهلًا الخروج باستنتاجات سريعة تتنبّأ بما سيتمخّض عنه المشهد الإسرائيليّ الراهن، خاصّة وأنّنا أمام لحظة متعدّدة الطبقات ومترامية الأطراف، بيد أنّها ليست ضبابيّة طالما بالإمكان فصل الخيوط المركّبة للمشهد برشاقة وإعادة شبكها معًا لاستيضاح الصورة.
ما من شكّ أنّ النظام في إسرائيل يقيم في عتبة فارقة، وفي ذروة مسار فرضتها تحوّلات اجتماعيّة – ديمغرافيّة – سياسيّة عميقة ضربت في عمق المجتمع الإسرائيليّ، ونخبه الحاكمة خلال العقود السابقة، بالتوازي وربّما بالتقاطع، يقف “اليمين الإسرائيليّ” أمام لحظة حسم جديد يبدو أنها باتت عصيّة التأجيل تفرض فرزًا يضبط وجهته ونمط تكتّله القادم.
“لا جديد تحت الشمس، نصوّت لليمين ونحصل على يسار”، هكذا عقّبت النائبة الشعبويّة عن الليكود تالي جوتليف على ما سمّي “تليين الخطّة القضائيّة” الأسبوع الفائت. عبّرت جوتليف في تصريحها عن تصوّر ذاتيّ استقرّ في أوساط اليمين وقواعده، بات ينظر إلى هامش استقلاليّة مؤسّسات الدولة وأجهزتها البيروقراطيّة، خاصّة المؤسّسة القضائيّة وما تفرضه من كوابح على السلطة التنفيذيّة، بوصفها “عقبة أمام إنفاذ حكم اليمين” ورادعًا لفرض تصوّراته، وأجندته الفاشيّة بصورة تامّة.
من هذا المنظور، يرى معسكر نتنياهو، مدفوعًا بأجواء شعبويّة غير مسبوقة، أنّه أمام لحظة حسم تفرض تقليم أظافر هذه المؤسّسات وتقويض استقلاليّتها. يتنقّل اليمين في هذه المعركة من مرحلة الفوز في الصندوق إلى ما يعتبره الهيمنة على مؤسّسات الدولة وأجهزتها البيروقراطيّة وتطويعها إلى أيديولوجيته بصورة مطلقة.
تعبّر معركة الحسم هذه عن لحظة تقاطع بين ثلاث سيرورات جدليّة تجري داخل المجتمع الإسرائيليّ: السيرورة السياسيّة – الأيديولوجيّة – وهي الجانب الظاهر في هذه المعركة، مرتبطة بإزاحات داخليّة في اليمين نفسه إلى ناحية تسميك حدوده الدينيّة والفاشيّة. تتقاطع هذه الإزاحات مع لحظة شعبويّة متّصلة بصعود أوساط شعبويّة ترى أنّ استقلاليّة مؤسّسات الدولة عائقًا أمام أجندات اليمين الفاشي، وهي تصوّرات استشرت بعد فتح النيابة العامّة تحقيقًا ضدّ نتنياهو الّذي محوّلًا الشعبويّة إلى رأس مال في رصيده السياسيّ.
بالتزامن، يتقاطع مع هذين الضلعين تحوّلات في السيرورة الاجتماعيّة المتعلّقة بعمق الفرز الاجتماعيّ وصدوعه الداخليّة، لا سيّما صراع النخب بين كتل مجتمعيّة باتت الحدود الاجتماعيّة -الطبقيّة وحتّى المناطقيّة الفاصلة بينها أكثر سماكة من ذي قبل. تسجّل الحدود بين هذه الكتل درجات من التمايز غير المسبوقة في سماكتها من حيث أنماط التصويت والتوجّهات العامّة المختلفة حول الترتيب الاجتماعيّ الصهيونيّ الداخليّ. يجد هذه الفرز تعبيره السياسيّ مؤخّرًا في صراع بين نخبة جديدة صاعدة تخوض معركة نحو الهيمنة داخل البيت الصهيونيّ.
في فهم اللحظة السياسيّة | صراع جديدة لإعادة رسم حدود اليمين – الخلاصيّ
ترتبط اللحظة السياسيّة الراهنة بإزاحات استرخت داخل اليمين والخارطة السياسيّة عمومًا، وهي تجري في سياق أوسع فرضتها التحوّلات الاجتماعيّة – الديمغرافيّة في المجتمع الإسرائيليّ الّتي ألقت بظلالها على مفهوم الصهيونيّة عمومًا ونمطها، بعد أن اقتربت الأخيرة من يهوديّتها وتطابقت معها، ممّا أدّى إلى تسميك الصهيونيّة لحدودها الدينيّة والاستعماريّة، أو تهويدها تمامًا.
شكّل اتّساع التيّار الصهيونيّ – الدينيّ الّذي يريد حسم مسألة التأسيس لفوقيّة يهوديّة في كلّ فلسطين مؤشّرًا لهذا المسار بعد أن ترافق هذا صعود لقطاعات وقوى جديدة متّصلة بهذا التيّار الدينيّ – القومجيّ، وباتت تشكّل ركنًا أساسيًّا في قماشة النخبة المهيمنة ليس في الحكومة فحسب، بل وتسلّلت إلى قطاعات الجيش، الأمن، القضاء والأكاديميّا.
جرت بالتوازي عمليّة صهينة للقواعد الدينيّة والحريديّة في العقود السابقة، إذ تشير المعطيات أنّ كتلة الحريديم تشكّل ما نسبته 33% من مجمل المستوطنين، كما وباتت الأحزاب الدينيّة-الشرقيّة (شاس) أكثر صهيونيّة وتحوّلت إلى جزء من كتلة نتنياهو الانتخابيّة التاريخيّة.
لقد وجدت هذه التحوّلات ذروة تعبيراتها السياسيّة الائتلافيّة عام 2009، عندما تحوّلت إلى كتلة انتخابيّة تاريخيّة بقيادة بنيامين نتنياهو، وضمّت كلّ من: الصهيونيّة الدينيّة، الكتلة الارثوذكسيّة الأشكنازيّة – الحريديم، المتديّنين الشرقيّين، اليمين العلمانيّ الفاشي مثل “يسرائيل بيتيينو”، واليمين التنقيحيّ – التصحيحيّ داخل الليكود- في إشارة إلى اليمين الملتزم بإرث مناحم بيجين الّذي يؤمن باستقلال جهاز القضاء، وينحاز “ليبراليًّا” لحقوق الفرد (اليهوديّ طبعًا). أدّى تشكيل هذا التكتّل إلى تسارع مسار “قوننة الفاشيّة” ومأسسة الفوقيّة اليهوديّة في القانون الّتي شهدناها في العقد الأخير.
ثمّة معطيان استجدّا في الساحة الإسرائيليّة مؤخّرًا، وألقيا بظلالهما على خارطة التحالفات في هذه الكتلة وإعادة ترسيم حدودها في السنوات الأخيرة. أوّلًا – استشراء الفاشيّة وتسميك حدودها واتّساع رقعة تأثير الصهيونيّة الدينيّة داخل صفوف الليكود ذاته- وهو ما بدأ بعد “خطّة الانفصال” عن غزّة. ثانيًا- تقديم النيابة الإسرائيليّة ملفّات جنائيّة ضدّ بنيامين نتنياهو وما تبعه من ارتفاع غير مسبوق في منسوب الشعبويّة.
لقد هضمت كتلة “اليمين الجديد” في حلّتها القديمة أيّ نموذج عام 2009، كلًا من اليمين -التنقيحيّ- الجابوتنسكي، الّذي كان مهيمنًا حتّى وقت سابق داخل الليكود، كما انضوى اليمين العلمانيّ الفاشي المتمثّل بحزب ليبرلمان تحت جناحها. بيد أن التحوّلات الأيديولوجيّة داخل الليكود وارتفاع منسوب الشعوبيّة الّذي جرى خلال السنوات الأخيرة، قد أحدث صدوعًا داخل كتلة اليمين التاريخيّة، ممّا جعلها تتقيّأ هذين التيّارين خارجها، رغم أنّ نتنياهو ذاته قد شقّ عن طوق التصوّرات التنقيحيّة لجابوتنكسي.
وجد اتّباع اليمين التنقيحيّ أمثال جدعون ساعار ويوغاز هندل وقيادات سابقة في الليكود أنفسهم خارج الكتلة اليمينيّة الجديدة، فضلًا عن أعضاء كنيست من اليمين العلمانيّ الفاشي الّذين يرودون كبح قوّة التيّار الدينيّ الأرثوذكسي داخل اليمين مدفوعين جميعهم بجرعات مركّزة من الضغائن الشخصيّة مع نتنياهو.
ليس صدفة أن تجد هذه الشخصيّات نفسها على جانب مقابل من متراس التحالفات، كتفًا بكتف في خندق وائتلاف واحد مع ما يسمّى زورًا “مركز-يسار صهيونيّ” المناوئ لنتنياهو، أو ما يسمّى “المعسكر الدولانيّ- من دولة”. خاصّة وأنّ الفرز الظاهر لم يجر حول الموقف من السياسات الجوهريّة، والّتي يجمع حولها أكثر من 90% من أعضاء الكنيست الحاليّين، بل على سؤال العلاقة بين السلطة التنفيذيّة والسلطة القضائيّة والجهاز البيروقراطيّ.
في فهم اللحظة الشعبويّة
تزامنت هذه التحوّلات السياسيّة مع لحظة مكثّفة من الشعبويّة السياسيّة على أثر الملفّات القضائيّة الجنائيّة ضدّ بنيامين نتنياهو. شهر نتنياهو سيوفه في وجه مؤسّسات الدولة البيروقراطيّة والجهاز القضائيّ والإعلام في محاولة لخلق رأي عامّ لدى قواعده الاجتماعيّة ضدّ هذه المؤسّسات، بوصفها مؤسّسات “تخضع لهيمنة يساريّة” تسعى في الحقيقة إلى “مصادرة صوت الشعب الانتخابيّ” والانقلاب على خيارهم اليمينيّ.
استرخى هذا الخطاب في قطاعات اليمين المجتمعيّة، وتناغم مع صعود قوى شعبيّة يمينيّة-محافظة من داخله، وهي ظاهرة ليست بعيدة تمامًا عن سيرورة صعود اليمين الشعبويّ العالميّ. تعتبر هذه القوى أنّ مؤسّسات الدولة غير المنتخبة (القضاء الإعلام والأجهزة البيرقراطيّة والأمنيّة والاقتصاديّة) وما تفرضه من منظومة رقابة وكبح أمام تسلّط السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة، بوصفها “دولة عميقة” تصادر إرادة الشعب الحقيقيّة المعبّر عنها في صندوق الانتخابات، (نستخدم الاصطلاح هنا مجازًا وصفيًا للتصوّر الذاتيّ لليمين لا تبنيًا معرفيًّا-أكادميًّا له).
تعجّ القواعد الشعبيّة هذه، مدفوعة بمراكز أبحاث يمينيّة مموّلة من قوى أمريكيّة محافظة، بخطاب شعبويّ محافظ يهاجم “حكم الموظّفين” الّذي يصادر “حكم المنتخبين”، و “ديكتاتوريّة ال 15 قاضيًا” الّذي يحارب “ديمقراطيّة ال 120 عضوًا برلمانيًّا”.
كان عنوان كتاب الناشط اليمينيّ-الشعبويّ ايريز تادمور: “لماذا نصوّت لليمين ونحصل على حكم يسار”.، الأشدّ تعبيرًا عن هذه التصوّرات الذاتيّة لليمين الّتي ترى أنّ ثمّة قوّة عميقة ممأسسة داخل الدولة تنضوي تحت هيمنة “اليسار تمكّن “اليسار” من الحكم بصورة دائمة.
عن سؤال الاجتماعيّ تحت وطأة سياسات الهويّة
تشتبك جميع هذه التحوّلات مع لحظة اجتماعيّة تنتشر فيها سياسات الهويّة في المجتمع الإسرائيلي لأسباب كثيرة من بينها اشتداد المسار النيوليبراليّ في الصهيونيّة وغيرها. لقد استدمج نتنياهو بخطابه وممارسته سياسات الهويّة، وحولها إلى رأس مال سياسيّ انتخابيّ، من خلال استمالة قطاعات مجتمعيّة كبيرة (خاصّة غالبيّة المتّديّين، الحريديم والشرقيّين) ضمن كتله الانتخابيّة.
من هذا المنظور، ربطت قطاعات شعبيّة مجتمعيّة واسعة هواجسها الاجتماعيّة والاقتصاديّة باصطفاف سياسيّ مع نتنياهو بوصفه المعبّر عن مظلوميّتها التاريخيّة أمام ما تعتبره هيمنة “الكتلة العلمانيّة الأشكنازيّة” على مفاصل العمق والقوّة في الدولة. تلامس سياسات الهويّة ذروتها اليوم بعد أن استقرّ في وعي غالبيّة هذه القطاعات أنّ مخطّط ياريف لافين للتغييرات القضائيّة هو “رافعة لمصالحها” و”مسار ضروريّ-حتميّ” يمهّد صعودها في سلّم الهرم الاجتماعيّ- الإسرائيليّ. ليس مفاجئًا أن تصل شعبيّة نتنياهو إلى ما نسبته أكثر من 90% في التجمّعات السكنيّة لقطاع المتديّنين الشرقيّين والحريديم-الأشكناز.
تتبلور هذه القطاعات وتصطفّ سويّة- رغم التمايز بينها، بوصفها تكتّلًا لنخبة صاعدة وطامحة، بعد أن باتت واعية ذاتيًّا لنفسها، تخوض معركة الهيمنة لاستبدال، أو على الأقلّ إحداث توازن مع ما تعتبره هيمنة النخبة الاشكنازيّة – العلمانيّة، وقد عبّر الوزير اليمينيّ عميحاي شيكلي صراحة عن ذلك قائلًا: “أردنا إصلاحًا في القضاء في البداية… لكنّنا نكتشف اليوم أنّنا نحتاج إصلاحا في وحدة الاستخبارات العسكريّة “8200”، إصلاحا في مساقات الطيران الحربيّ، إصلاحًا في الأكاديميّا… إنّه نضال من أجل الحرّيّة”.
نقطة اللا-عودة
يقف المشهد الإسرائيليّ الراهن في نقطة تقاطع بين هذه السيرورات الثلاثة المذكورة آنفا: السياسيّة والشعبويّة والاجتماعيّة معًا، جميعها تتقاطع وتشكّل طبقات المشهد وترسم خيوطه. لا يمكن استشراف ملامح المرسى الّذي ستستقر عنده الأحداث. المؤكّد أن لا حربًا أهليّة في الأفق، وهو تصوّر منفصل عن الواقع، وينتمي إلى عالم الخرافة والخيال العلميّ لا السياسة. مع ذلك، يبدو أنّ النظام والمجتمع والدولة في إسرائيل يخطو في مسار حاسم، ويرصف مرحلة مصيريّة من تاريخه.
ما كان في السابق لن يعود، والترتيب الاجتماعيّ-السياسيّ الحاليّ لن يصمد طويلًا، فالمعادلة تبدو صفريّة إلى حدّ بعيد، ولا بدّ من حسم سيجري في أفق نهاية المسار. ربّما يفتح تعليق التشريعات الحاليّ الباب لعمليّة تسوية، تحت وطأة تدخّل قوى أجهزة الدولة الأمنيّة والاقتصاديّة والبيروقراطيّة، المسكونة بهم “الأمن القوميّ” والحفاظ على ما يسمّى “بالمناعة الاجتماعيّة والقوميّة”.
إلّا أنّ تسوية كهذه لن تكون إلّا مؤقّتة ومرحليّة فالتحوّلات العميقة الضاربة في عمق الصهيونيّة والمجتمع الإسرائيليّ ستفرض حسمًا وفرزًا في إطار تأسيس عقد اجتماعيّ جديد. الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة القادمة لن تشبه السابقة، وستحمل فرزًا أعمق داخل اليمين ذاته. فسفينة اليمين التاريخيّة لم تعد تستطيع أن تحمل التصوّرات التنقيحيّة (الّتي باتت تعرف بـ”اليمين الدولاتيّ-الرسميّ”) إلى جانب التصوّرات الصهيونيّة-الدينيّة-المسيانيّة والأرثوذكسيّة معًا، حتّى وإن تزاوجا وتفاهما مرحليًّا.
ربّما تتمكّن القوى السياسيّة-الاجتماعيّة من الوصول إلى تسوية مؤقّتة وعقد جديد، لكنّها لن يشكّل حسمًا نهائيًّا، فالنظام الإسرائيليّ- ولشدّة التناقض البنيويّ العنصريّ داخل الصهيونية، سيقف، عاجلًا أم آجلًا، في مواجهة أسئلته الملحّة والمتناقضة. سيقف أمامها وجهًا لوجه لا كتفًا لكتف كما اعتاد. فالصراع هو صراع على الهيمنة بين نخب على تصوّرات مختلفة للترتيب الاجتماعيّ-السياسيّ الداخليّ. صراع بين المستوطنين الأوائل ومستوطني اليمين الجديد. تباينا على أنماط العنصريّة لا جوهرها، بين تسميك الحدّ اليهوديّ-الدينيّ للصهيونية مقابل الإسرائيليّ-الصهيونيّ، لا على الديمقراطيّة. باختصار هو خلاف في إطار الصهيونيّة لا عليها. هذا ما يجب أن لا يرحل عن ذهننا ونحن نتمعّن المشهد، ونعمل فكرنا في اجتراح موقفنا السياسيّ إزاءه وأدواتنا النضاليّة في مواجهته.
المصدر: عرب 48