عملاق “الحرية الانتقائية” وازدواجية معايير البوصلة الأخلاقية
يقوم الذكاء الاصطناعي بالعمل على كلمات مفتاحية معينة، ومن خلالها يتم تقييم المنشور أو الصورة أو الفيديو بأنه يلتزم بمعايير المجتمع الافتراضي أو يخرقها. وفي حالات أخرى قليلة يتم التدخل من قبل فرق في فيسبوك أو إنستغرام مثلًا لتقييم المنشورات
تناقلت وسائل الإعلام، وبعد ما يقارب 11 شهرًا من الحرب التدميريّة التي تنفّذها قوّات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة، خبرًا مفاده أنّ هيئة الإشراف على المحتوى في شركة ميتا، أيّدت السماح بنشر منشورات تحتوي على عبارة “من البحر إلى النهر”، وذلك في قرار جاء بعد حظر شامل على هذا الشعار.
ومنذ بداية الحرب على غزة، استخدمت مثل هذه العبارة، بالإضافة إلى عبارات أخرى مثل “فلسطين حرة”، والتي تخضع في تطبيقات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” وغيرها إلى تقييد متواصل.
مارك المؤسس
من المؤكد أن مارك زوكربيرج، الطالب المميز، الذي لم يكمل دراسته في جامعة هارفارد العريقة، لم يتخيل حجم التأثير الذي سينتج عن تأسيس شبكة فيسبوك. ولد زوكربيرج في مدينة نيويورك عام 1984. ودرس لمدة سنتين في جامعة هارفارد قبل أن ينسحب منها، وأسس المبرمج الشاب منصة فيسبوك لربط جامعات محددة في عام 2004، وسرعان ما انتشر الموقع خارج حدود الجامعات ليصل إلى مليار مستخدم في عام 2012، وطرح زوكربيرج الشركة للاكتتاب العام مع احتفاظه بأغلبية الأسهم، وأصبح أصغر ملياردير في عمر 23 سنة.
تحيط المراحل الأولى من تأسيس الشبكة الاجتماعية الأكبر الكثير من اللغط، إذ تناولت الكثير من المقالات وحتى الأفلام السينمائية القصة، وهوو الأمر لم يخل من الدعاوى القضائية أيضًا، واستمرت الدعوى القضائية التي رفعها الأخوان وينكلوفز لعدة سنوات ولم تكن بالسهلة على زوكربيرج. يتناول الكاتب بين مازرتش في كتابه “مليونيرات بالصدفة: تأسيس فيسبوك” تفاصيل تأسيس المنصة في الدعوى القضائية، وتم لاحقًا تحويل الكتاب إلى نص سينمائي بعنوان “الشبكة الاجتماعية” وأنتج في سنة 2010.
يذكر مازرتش أنه في أحد الاجتماعات مع الأخوين، على خلفية الدعوى القضائية، اشترط زوكربيرج لـ “دواع أمنية،” خوفًا أن يتعرض للضرب، أن يجتمع بأحد الأخوين دون الآخر. “كالنمر في القفص، ابقي بندقية التخدير جاهزة” يقول كاميرون وينكلوفز، وهو أحد الأخوين اللذين ساهما في تأسيس فيسبوك بالاشتراك مع زوكربيرج، للوسيط أنطونيو بياتزا قبل أن يتجه إلى الغرفة ليجتمع مع زوكربيرج بدون محامين أو وسطاء “إذا رأيته متجهًا نحو عنقه، افعل بي وبه معروفًا، وأطلق المخدر نحو سترة أخي الأنيقة.” انتهى الاجتماع، كما اجتماعات أخرى، بدون عنف. وانتهت القضية بعد سنوات بدفع زوكربيرج مبلغ 65 مليون دولار أميركي للأخوين لدورهما في تأسيس فيسبوك.
انفرد مارك زوكربيرج بعد ذلك بالتطبيق والشركة. ليصبح لاحقًا المدير التنفيذي لواحدة من أكبر الشركات في العالم، وتستحوذ على مجموعة تطبيقات مثل واتساب، وتبتكر أخرى مثل إنستغرام وثريدز لتتصدر قوائم تطبيقات التواصل الاجتماعي الأكثر استخدامًا.
نفوذ وسائل التواصل في العصر الرقمي
وصلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى كل منزل وكل هاتف ذكي، وأصبح تأثيرها كبيرًا على الأفراد والمجتمعات والدول. سهولة التواصل وسرعتها التي وفرتها تلك التطبيقات جعلت العمل الجماعي أسهل؛ مثل المظاهرات، والاعتصامات و”اقتحام مبان حكومية” كما حصل في الولايات المتحدة، والثورات والإطاحة بحكومات، والتصدي لانقلابات كما حصل في تركيا والكثير من الحوادث والمنعطفات في السنوات الأخيرة. إذًا، يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت وسيلة فعالة جدًا ولها نفوذ عالمي كبير.
ولكن، منذ سنوات، تطال فيسبوك ومواقع تواصل اجتماعية أخرى اتهامات بالتحيز ضد الأصوات الفلسطينية. التحيز لا يتوقف فقط على شبكات التواصل، وإنما يشمل أيضًا شبكات تلفزة ومنصات أخبار عريقة تدّعى الموضوعية، وتسخر ممن يدّعون أنهم “وسائل إعلام تتحكم فيها الدولة” على غرار بعض القنوات الروسية.
في التقرير “وعود ميتا الكاذبة: الرقابة الممنهجة على المحتوى الفلسطيني على إنستغرام وفيسبوك” والمكون من 51 صفحة في عام 2023، توثق هيومن رايتس ووتش أنماط واضحة للقمع الذي ينتهك حقوق الفلسطينيين، ومنها حقهم بالتعبير عن رأيهم على نحو سلمي ودعم قضيتهم العادلة والحوار العام حول فلسطين وما يتعلق بحقوق الإنسان. تتضمن تلك الأنماط إزالة ممنهجة للمنشورات والمحتوى، ووصفها بمعاداة السامية والعنف. تذكر المنظمة أن المشاكل الرئيسية المتعلقة بشركة ميتا هي أولًا سياسات ميتا التي تشوبها عيوب. ثانيًا، التناقض في تلك السياسات. ثالثًا، الاعتماد شبه الكلي على التطبيق الأتوماتيكي والذكاء الاصطناعي لإدارة المحتوى وأخيرًا الرضوخ تحت ضغط الحكومات للتحكم في المحتوى وإزالته.
“إن مراقبة ميتا للمحتوى الداعم لفلسطين يزيد الطين بلة في الوقت الذي ترتكب فيه أعمال وحشية واضطهاد للفلسطينين وحريتهم في التعبير”، قالت ديبورا براون، القائمة بأعمال إدارة التكنولوجيا في هيومن رايتس ووتش، وأضافت أنّ “مواقع التواصل الاجتماعي هي منصات مهمة للناس ليكونوا شهودًا وليتحدثوا ضد التمييز والإساءة، في حين أن الحجب الذي تقوم به شركة ميتا يزيد طمس معاناة الفلسطينيين”
هيومن رايتس ووتش ليست الوحيدة التي ألقت الضوء على انتهاكات مجموعة ميتا. منظمات مثل أوكسفام وإكس ناو وشبكات أخبار أشارت إلى انتهاك ميتا لحقوق الفلسطينيين في التعبير وإسكات الأصوات غير الفلسطينية التي تتحدث عن الجرائم التي يتعرضون لها. وفي نفس السياق، دعت مجموعة من المنظمات مثل أوكسفام وغيرها أن تتخذ شركات التكنلوجيا تدابير صارمة لحماية المستخدمين من الأذى في ضوء تصاعد وتيرة الصراعات في المنطقة. واتهمت المنظمات شركات مثل ميتا بإدارة المحتوى العربي، خصوصًا بشكل مفرط وتصنيفه كمحتوى عنيف باستمرار حتى عند انتقاد السياسات الإسرائيلية، وفي المقابل، فإن المحتوى العبري غالبًا ما يفلت من تلك القيود.
في عام 2023، منظمة Smex وهي منظمة غير ربحية تسعى إلى النهوض والدفاع عن حقوق الإنسان في العالم الرقمي في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا ومقرها بيروت، وصفت شركات شبكات التواصل الاجتماعي بالرضوخ تحت ضغط الحكومات، الإسرائيلية خصوصًا، لاستهداف المحتوى الفلسطيني بشكل غير متناسب وإزالة المحتوى “غير المرغوب فيه”.
ما بعد السابع من أكتوبر
يمثل السابع من أكتوبر منعطفًا مهمًا في المنطقة، فعند أي طرح أو عند تناول موضوع القضية الفلسطينية مؤخرًا يكون السؤال قبل أم بعد السابع من أكتوبر، ومن تلك المواضيع المطروحة مؤخرًا مواقع التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا التي تقدّم خدمات رقمية، ومع أن عمليات التضييق والقمع والتحيز والمراقبة كانت موجودة قبل السابع من أكتوبر إلا أنها ارتفعت بشكل كبير بعده.
حتى الآن، استشهد ما لا يقل 41 ألف شخص منذ بدء الحرب على غزة، منهم عن 116 صحفيًا، فأصبح إيصال الأخبار والمعلومات أصعب من قبل، وخلال هذه الفترة ظهرت مجموعة من الحسابات على منصة فيسبوك إنستغرام لإيصال المعلومات أولًا بأول من داخل غزة. وحظيت الحسابات بعدد كبير من المتابعين مثل حساب الصحفي معتز عزايزة وآخرين. وبالتالي أصبح الاعتماد على شبكات التواصل كبيرًا لمعرفة ما يدور داخل غزة.
وبشكل عام، ازداد تأثير تلك الشبكات بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وبالتالي أصبح لها نفوذ، وقد تغير قراراتها من مجريات الأمور في الكثير من القضايا عبر تسليط الضوء أو عدمه على تلك القضايا واستمالة الرأي العام نحو سردية واحدة على حساب الأخرى. وعند الحديث عن مثل هكذا نفوذ، فإن شركات مثل مايكروسوفت وجوجل لم تستثن من الاتهامات بالتمييز. مثلًا، طالت الاتهامات شركة مايكروسوفت بسبب قرار حظر الحسابات الفلسطينية وعدم تزويدها بالخدمات الإلكترونية الحيوية. تلك الحسابات كانت للمستخدمين في الولايات المتحدة، وكان يتم استخدامها للاتصال بعائلات داخل غزة وقت الحرب. وقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي إن العديد من “الفلسطينيين المقيمين في الخارج اتهموا مايكروسوفت بإغلاق حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بهم دون سابق إنذار وفصل الخدمات الإلكترونية الحيوية عنهم”.
منصة X لم تقف على الحياد فيما يخص الحرب على غزة والقضية الفلسطينية. فبعد صدور تقارير تشير إلى نية الملياردير إيلون ماسك، المدير التنفيذي للمنصة، تزويد غزة بالإنترنت الفضائي طالت حملات إسرائيلية من ماسك بحجة معاداة السامية. الأمر الذي دفعه إلى زيارة إسرائيل وخوض مباحثات مع الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انتهت بتعهد ماسك بعدم تزويد الإنترنت إلا بموافقة إسرائيلية.
وأغلقت المنصة حسابات حماس بشكل نهائي، وعند سؤال ماسك عن سبب منع حماس من إنشاء حساب على المنصة أجاب “كان قرارًا صعبًا. فبالرغم من أن الكثير من الحكومات تدعو لقتل الناس، ومن ضمنها الولايات المتحدة، نحن نلتزم بقرارات الأمم المتحدة. وبما أن حماس غير معترف بها من الأمم المتحدة فلا يمكن إنشاء حساب”. وفي وقت سابق، أغلقت المنصة الكثير من الحسابات التابعة والمرتبطة بحماس وحزب الله اللبناني، ومنها حساب قناة المنار، وفي نفس الوقت أتاحت للكثير من حسابات اليمين المتطرف بالنشر والتعليق على المنصة. وتعد المنصة من المساحات المستخدمة بشكل كبير، إذ تم تداول أكثر من 50 مليون منشور في اليوم اللاحق السابع من أكتوبر على منصة X.
لا يحتاج الأمر للجنة من الخبراء أو المحللين لاكتشاف ازدواجية المعايير التي تمارسها تلك المنصات. فعند النظر إلى الأرقام والإحصاءات نجد ما يلي: حذفت ميتا ما يقارب 795 ألف منشور خلال الأيام الأولى للحرب على غزة. من جهتها حذفت منصة تيك توك 500 ألف مقطع فيديو، وأغلقت 8 آلاف بث مباشر مرتبطة في الحرب.
“كلمات ليست كالكلمات”
تصنف ميتا مواضيع “الترويج” للعنف، والمضايقة والتنمر، والمحتوى الإباحي، وانتهاك حقوق الملكية، والإشارة إلى محتوى زائف، والتشهير بالإضافة إلى المحتوى المخالف لقوانين الدولة الأسباب الأساسية لحذف المنشورات أو الحد من وصول المستخدمين إليها.
وتعتمد الشركة بشكل أساسي على الذكاء الاصطناعي لإدارة المحتوى وتصنيفه. وكما هو معروف، فإن الذكاء الاصطناعي “لا يفتي بما لا يعرف.” إذًا لا يجب أن نلوم الذكاء الاصطناعي على ازدواجية المعايير. فتلك المعايير في آخر المطاف وضعت من قبل إدارة المنصة.
يقوم الذكاء الاصطناعي بالعمل على كلمات مفتاحية معينة، ومن خلالها يتم تقييم المنشور أو الصورة أو الفيديو بأنه يلتزم بمعايير المجتمع الافتراضي أو يخرقها. وفي حالات أخرى قليلة يتم التدخل من قبل فرق في فيسبوك أو إنستغرام مثلًا لتقييم المنشورات. ومن الكلمات المفتاحية مثلًا: حماس، القدس، غزة، فلسطين، من البحر إلى النهر، وكلمات وجمل أخرى. ويقابل تلك الكلمات أيضًا معانيها أو كتابتها بالإنجليزية.
الأمر ليس معقدًا جدًا، إن قمت بنشر أي نص أو فيديو أو صورة، واستخدمت كلمات من “اللائحة السوداء” فإن المنشور سيحذف، وإن لم يحذف فستعمل الخوارزمية على الحد من وصول تلك المنشورات وانخفاض عدد المشاهدات لها.
تقول الكاتبة الباكستانية فاطمة بوتو “أنا أتعلم إلى حد بعيد كيف أن الديمقراطيات وشركات التكنولوجيا يعملون معًا للتضليل خلال الحروب غير القانونية التي لا يستطيعون جعل الناس توافق عليها”. ومن جهته يقول أمير الخطاطبة وهو مؤسس ورئيس التحرير لـ ” مسلم”، وهي صفحة تهتم بأخبار المسلمين على منصة إنستغرام، ولديها أكثر من 6 ملايين متابع، أن أعداد المشاهدات انخفضت بشكل قياسي من 1.2 مليون أسبوعيًا إلى 160 ألفًا بعد بداية الحرب على غزة.
معركة الحقيقة وتصدير السردية
إن السياسات التي تتخذها منصات التواصل الضغط والتضييق والتمييز ضد المحتوى الفلسطيني لم تأت من فراغ. تشير التقارير إلى أن المحتوى المتعاطف مع فلسطين والموسوم ب “Free Palestine” إضافة إلى وسوم أخرى، تم نشرها ومشاهدتها بأعداد كبيرة مقارنة بالمحتوى المتعاطف مع إسرائيل. على منصة تيك توك، مثلًا، وفي الأيام الثلاثة التي تلت السابع من أكتوبر، تمت مشاهدة وسم “Free Palestine” ووسم “Stand With Palestine” أكثر من 280 مليون مرة مقارنة بـ 14 مليون مشاهدة لوسم متعاطفة مع إسرائيل. الحال ليس مختلفًا جدًا عن باقي المنصات التي شهدت ارتفاعًا حادًا للمنشورات والوسوم المتعاطفة مع فلسطين، خصوصًا في الفئة العمرية بين 18 و35 سنة. ولأن لكل فعل رد فعل، أتى التضييق الكبير على تلك المنشورات والوسوم للحد من انتشار السردية الفلسطينية.
في نهاية الأمر، عندما يكون الحوار حول السردية والصور التي تتصدر للعالم، فهناك الكثير من الشركات المتواطئة؛ شركات تكنولوجيا عملاقة تتحكم بوسائل التواصل الاجتماعي وترضخ لضغوط الاحتلال الإسرائيلي لتزييف الحقائق والوعي، وشركات تكنولوجيا تزود خدمات مثل مايكروسوفت التي حجبت خدماتها بدون توضيح أسباب، وحكومات وأنظمة “ديمقراطية” تتبنّى السردية الإسرائيلية، وهددت بسجن من يستخدم وسومًا متعاطفة مع فلسطين على حساباته/ها، ووسائل إعلام كبرى تتبنى سردية “الشفافية والموضوعية”، وانتهى بها المطاف إلى ادعاءات كاذبة وتقارير تحوّلت إلى “فضائح إعلامية” ما أجبرها على التراجع عنها لاحقًا.
المصدر: عرب 48