عنف المستعمر اللانهائيّ…
تتعاظم حالة الألم بصورة مهولة في فلسطين والمنطقة، خاصّة أنّه كلّما ظهر بصيص أمل بانفراجة، يعقبه توسّع في العنف والإجرام بصورة أشدّ من ذي قبل، لدرجة ما يجعل المرء يتخيّل أنّ ذلك المجرم خلق فقط لهذه المهمّة لا غير، وأنّ كلّ ما يفعله في الحياة العاديّة مجرّد أداة لقتل بني جنسه. أو أنّه لا يستطيع أن يعيش أو يتمتّع بحياته بدون ممارسة هذه الهواية الهمجيّة. وقد لا يكون مثيلًا في التاريخ، لهذا القاتل، من حيث مستوى الذهنيّة الإجراميّة الّتي تشكّلت مع تقدّم مرور الزمن. لا ضابط لهذا التعطّش للانتقام والثأر وإشباع الغريزة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البشر. نحن أمام مرحلة الحرب المفتوحة، كما يقول الخبراء، بل مرحلة من الإجرام اللانهائيّ.
يطال هذا الألم، بكافّة أشكاله، الفيزيائيّة والنفسيّة والمعنويّة، الضحايا المباشرين للإجرام المنظّم والممأسس في منظومة رسميّة وغير رسميّة كبرى بات تشابكها الإقليميّ والدوليّ واضحًا أكثر من ذي قبل، لدرجة أنّ مفكّرين، كانوا متوهّمين بإنسانيّة الغرب، أو بنخبة السياسيّة والثقافيّة الحاكمة، باتوا نادمين على دأبهم تسويق قيم الغرب، والآن يتنصّلون ممّا تعلّموه ودرسوه في مؤسّساته. مع ذلك ليس الغرب طائفة واحدة، فتلك الملايين من الناس الّتي تتظاهر وتحتجّ، نصرة للحقّ الفلسطينيّ وللعدالة الكونيّة، تمنعنا من فقدان توازننا الأخلاقيّ والسياسيّ. هؤلاء حلفاء فلسطين والشعوب العربيّة، وكلّ شعوب العالم وأحراره، بما فيهم الأحرار اليهود.
في لبنان يطلق نظام الأبرتهايد الاستعماريّ، الصهيونيّ، وليد منظومة الاستعمار العالميّ، حربًا وحشيّة إباديّة إضافيّة، بعد أن طبّق نظريّته الإباديّة على غزّة، لأنّه يعتقد أنّه لم يحقّق كلّ أهدافه، الّتي كان قد أعلنها عند بدء حربه الإباديّة، مثل إعادة المحتجزين، والوصول إلى استسلام المقاومة الفلسطينيّة بغضّ النظر عمّن يمارس هذه المقاومة، وبغضّ النظر عن أشكالها حتّى لو كانت شعبيّة غير مسلّحة. فالحرب هي ضدّ شعب فلسطين بأكمله، وحقّه في تقرير المصير.
لقد رفض الجناح اليمينيّ الفاشي الحاكم في إسرائيل وقف الحرب الإجراميّة، دون أدنى اعتبار لحياة الفلسطينيّين، وحتّى لأسراه من الإسرائيليّين، العسكريّين والمدنيّين، ورفض مطلب المقاومة اللبنانيّة بإنهاء الحرب في غزّة، كشرط لإنهاء المواجهة في الشمال. رفض هذا الجناح الحاكم، بقيادة بنيامين نتنياهو، موقف الجناح الصهيونيّ المطالب بقبول الصفقة مع حركة حماس، مع أنّ هذا الجناح المعارض لا يختلف في سياسة الإبادة والمحو، بل واظب على اتّهام نتنياهو بالجبن لعدم التصدّي لحزب اللّه، وإعادة المستوطنين إلى بيوتهم. وكانت القبيلة قد بدأت تتصدّع، على خلفيّة حسابات نتنياهو الشخصيّة والأيديلوجيّة والفئويّة. وها هي الآن تتّحد مجدّدًا مستمدّة طاقة جديدة من الإجرام والعنف المهول.
فبعد أن بدأت الصدوع تطال جدار القبيلة، على خلفيّة استمرار الحرب في غزّة دون قبول صفقة تبادل مع حركة حماس، عاد الجناح “المنشقّ” إلى بيت الطاعة بإرادته الكاملة، ملتفًّا حول حملة الإجرام الإباديّ الجديدة في لبنان، في وحدة تشبه تلك الّتي كانت في الأشهر الأولى لحرب الإبادة في غزّة، ممّا يدلّل على طبيعة هذه المعارضة. إذ يسعى النظام الإباديّ، حكومة ومعارضة، إلى نقل حرب الإبادة من هناك، تدريجيًّا إلى الضفّة، والآن إلى لبنان حتّى يتمكّن من تأمين تحقيق الهدف الاستراتيجيّ، أي تكريس فلسطين حقًّا حصريًّا للمستعمرين الصهاينة، وإعادة تأهيل نفسه كمسيطر على المنطقة. ولهذا مطلوب فصل جبهة الشمال عن غزّة والضفّة، حتّى يستمرّ الإجرام والتطهير بدون عوائق. يساعده على ذلك تحالفه المتين مع الإمبراطوريّة الأميركيّة وحلفائها. وهذا الهدف الصهيونيّ بات سافرًا ومعلنًا لا يحتاج إلى تأويل.
هكذا يصبح المشهد الدامي أكثر تعقيدًا وأكثر خطورة. وقد بات من الصعب معرفة منتهى ومـآلات هذا التصعيد الجديد الّذي قد يتوسّع ليشمل المنطقة كلّها.
لكنّ ما يعرفه الكثيرون، ومنهم أصوات إسرائيليّة ناقدة ذات خبرة في الحروب، ومعرفتهم بحركات المقاومة، واستنادًا إلى التاريخ الطويل من الصراع، والحروب العدوانيّة والإباديّة، الصهيونيّة، أنّ الشعوب، لا يمكن أن تسلّم ببقاء الاستعمار، حتّى لو تكبّدت خسائر فادحة، أو خسرت معارك مهمّة. وأنّ المقاومة اللبنانيّة، كما يصرّح قادتها، ذاهبة نحو خيارات إمّا النصر أو الشهادة، ما معناه أنّها ستستمرّ في المقاومة، ولن تتوقّف إلّا إذا توقّفت الحرب على غزّة. في عام 2000 تحرّر الشعب اللبنانيّ، ومن خلال حركة مقاومته، بعد نضال امتدّ ل 18 عامًا.
والشعب الفلسطينيّ، وخاصّة في غزّة، الّذي يتعرّض لأقسى صنوف الإجرام، يرفض مغادرة وطنه، ويرفض الاستسلام. وهو الّذي يواصل مقاومة الخضوع للاستعمار والعبوديّة، منذ صدور وعد بلفور المشؤوم، والّذي تبعته الغزوة الصهيونيّة المكثّفة، المدعومة خارجيًّا. وقد جرّب الاحتجاج السلميّ لسنوات طويلة، عبر العرائض، والتظاهرات والإضرابات، وإرسال الوفود إلى حكومة بريطانيا العظمى، لثنيها عن مشروعها العدوانيّ بلا جدوى، إذ قوبلت مطالبه العادلة بالحديد والنار، ممّا أجبره على التسلّح والانخراط في مقاومة المشروع الكولونياليّ الإحلاليّ، عبر جميع أشكال النضال.
يعيد العدوان الإسرائيليّ الحاليّ المستمرّ على لبنان وفلسطين، التذكير بالتشابك التاريخيّ، وترابط المصير بين الشعبين. إنّ لبنان يدفع ثمن العدوان الصهيونيّ بدون توقّف، منذ النكبة. وهو البلد العربيّ الأكثر تضرّرًا، في الأرواح والممتلكات، من المشروع الصهيونيّ العدوانيّ. ولهذا يحظى بمكانة خاصّة في وجدان الشعب الفلسطينيّ، والشعوب العربيّة، الطامحة إلى الحرّيّة والتحرّر والتنمية.
اقرأ/ي أيضًا | “النصر المطلق” أم الهزيمة الاستراتيجيّة؟
هذا ما لا يفهمه نظام الأبرتهايد الإباديّ.
المصدر: عرب 48