عن الجدل المتجدّد بخصوص السابع من أكتوبر وما بعده
لقد بات واضحًا أنّ المعركة السياسيّة الموازية لحرب الإبادة في غزّة، ستستمرّ لسنوات وستكون صعبة ومعقّدة، نظرًا لأنّ هذه الجولة القتاليّة الأعنف والأكثر وحشيّة في تاريخ الصراع، لن تنتهي بحسمها لصالح أحد الطرفين. وقد ظهر أنّ حسابات المقاومة الفلسطينيّة، أو حركة حماس تحديدًا، لم تأخذ بالحسبان مجمل الصورة الكاملة للسيناريوهات المتوقّعة من هذه الجولة، بسبب تداخل المحلّيّ مع الدوليّ والعربيّ والإقليميّ غير المواتي لعمليّة زلزاليّة بهذا الحجم. فمثلما فوجئت إسرائيل بعمليّة 7 أكتوبر ووقعها الصاعق عليها، وكذلك صمود المقاومة للشهر الخامس، فإنّ حركة حماس أيضًا فوجئت بحجم الردّ ووحشيّته منقطعة النظير.
بحسب من يعرف إسرائيل جيّدًا، توقّعوا أنّها لم تكن لتسمح بأنّ أن يمرّ تعرّضها لضربة إستراتيجيّة غير مسبوقة من جانب الّذين يقبعون في أكبر معسكر اعتقال مفتوح في العالم، برد متناسب أو موزون. ليس سهلًا على نظام مشحون من الوريد إلى الوريد بالفوقيّة اليهوديّة، والغطرسة الاستعماريّة، والكراهية لضحاياه من سكّان البلاد، أن يسلّم بانهيار إستراتيجيّته الردعيّة العدوانيّة في لحظة واحدة، والّتي استثمر فيها كلّ شيء، وربط مصيره ومصير هيمنته الاستعماريّة الشاملة بها. لقد استثمر الأموال والسلاح والتكنولوجيا، ومختلف صنوف القمع والحصار والقصف من خلال ما يسمّيه بجزّ العشب، ضدّ شعب مستعمر ومحاصر، ورازح تحت نير نظام رقابة وحشيّ بالغ الشدّة. ولهذا أراد هذا النظام أن يستعيد هيبته وقوّة ردعه بكلّ ثمن، وذلك حتّى لا تتحوّل هذه العمليّة الفلسطينيّة، بالغة التخطيط والتنفيذ والجرأة، إلى نموذج محاكاة للبيئة المحيطة، ولا أن تكون ملهمة لعموم الشعب الفلسطينيّ في كفاحه من أجل التحرّر والحرّيّة.
بالتأكيد، من خطّطوا لعمليّة 7 أكتوبر كانوا يتوقّعون أن يكون الردّ الإسرائيليّ قاسيًا وتدميريًّا، ولكن من المؤكّد، أنّهم لا همّ ولا غيرهم توقّعوا أن يكون الردّ على شكل حرب إبادة بشريّة وثقافيّة ومادّيّة، لا رحمة فيها حتّى للطفل، أو الرضيع، أو للمريض، أو للّذين يتضوّرون جوعًا. وربّما بنوا حساباتهم على إمكانيّة حدوث فزعة من العرب، أو أنّهم عوّلوا على دخول كلّ أطراف “محور الممانعة” في حرب شاملة وبكلّ ما يملك، تشكّل في اعتقادهم بداية حرب التحرير النهائيّة الحاسمة.
وأيضًا، وإن توقّعوا أن يقف الغرب مع إسرائيل بعد عمليّة 7 أكتوبر، جريًا على انحيازه التاريخيّ للمشروع الكولونياليّ الصهيونيّ المعهود، وتعاطفًا مع ضحايا هجوم حماس من النساء والأطفال، فإنّهم لم يتوقّعوا أن يقدّم هذا الغرب الدعم السافر والعلنيّ لحرب إبادة شاملة تنفذ عبر النار والتجويع، ومن دون أدنى مراعاة لقواعد الحرب الدوليّة.
ولكن أيضًا، أذهلت عمليّة حماس بمستوى تخطيطها ودقّة تنفيذها، إسرائيل وحلفائها والعالم، إذ ألحقت ضربة إستراتيجيّة بمكانتها الدوليّة وهيبتها العسكريّة، فضلًا عن تعريتها أخلاقيًّا بالكامل، خصوصًا بعد إيغالها بحرب محو بدائيّة وعديمة الرحمة. وهي ضربة، وفق الخبراء الإستراتيجيّين، لن تنهض منها بسهولة، وربّما قد تكون بداية انهيار “الأسطورة”.
نضع هذه المقدّمة في محاولة لإلقاء بعض الضوء على الجدل الدائر والمتجدّد داخل الساحة الفلسطينيّة، وعلى المقاربات المختلفة لعمليّة 7 أكتوبر ولمجرياتها وتداعياتها، الداخليّة والخارجيّة (العربيّة والدوليّة والإسرائيليّة)، والخسائر البشريّة والمادّيّة المهولة، وما يترتّب على ذلك من مهمّات مستعجلة وإستراتيجيّة.
نبدأ بالسلطة في رام اللّه
ظلّت السلطة الفلسطينيّة خلال الحرب، منذ بدايتها، مخلصة لوظيفتها المرسومة ومحكومة بصراعها المرير مع حركة حماس، وأسيرة نهجها الأمنيّ مع المستعمر. وصراعها مع حماس لا يعود إلى كونها حركة دينيّة، بل كونها حركة مقاومة، في مواجهة سلطة مساومة تقاوم الإصلاح، وأيّ نوع من المقاومة سوى العمل الدبلوماسيّ المتردّد والخائف، الّذي لم يتولّد منه سوى تعميق وتجذير عقليّة الهزيمة، وتعميم حالة من الترهّل والجمود والفساد في الطبقة الّتي تهيمن على مؤسّسات السلطة. ولم تكن صادقة أبدًا بخصوص رفع شعار المقاومة السلميّة، والّذي كانت الفصائل الفلسطينيّة قد أقرّته في ختام إحدى جولات الحوار الداخليّ، واعتبرته شكلًا مهمًّا من المقاومة، غير أنّ إسرائيل أعملت القتل والإعدامات بالمحتجّين، كما حصل في مسيرات العودة عام 2018 في قطاع غزّة، ما أدّى إلى إضعاف العمل الشعبيّ، ودفع أفراد ومجموعات في الضفّة الغربيّة إلى المقاومة العنيفة الّتي كانت قد بدأت تتّخذ شكل المقاومة الفرديّة منذ عام 2015.
ولم تظهر السلطة أيّ جدّيّة في اعتماد هذا الخيار الشعبيّ، إذ ظلّت مظاهرات العودة السلميّة محصورة في غزّة، ولم تنتقل إلى الضفّة. وتجلّى عدم الجدّيّة في ردّ رئيس السلطة محمود عبّاس الساخر على منتقديه بالقول “من شان اللّه اعملوا مقاومة شعبيّة”، وكأنّه ليس مسؤولًا عن واجب توفير الشروط لهذه المقاومة الشعبيّة، الّتي كان من الممكن أن توفّر ضحايا كثر، ولا تحمل الشعب فوق طاقته.
ولا يعني عداء حكومة بنيامين نتنياهو ومنظومته الحاكمة للسلطة شهادة وطنيّة يعتزّ بها، فهذه الحكومة العدميّة والإباديّة معادية لأيّ نوع من الوجود الفلسطينيّ، حتّى لو كان متعاونًا. ألم تحرّض الحكومة ذاتها على منصور عبّاس وقيادة الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة داخل الخطّ الأخضر، رغم أنّهم تحالفوا مع أحد أجنحة الحركة الصهيونيّة، متمثّلًا في حكومة نفتالي بينت، بني غانتس ويائير لبيد، وهو جناح لا يقلّ وحشيّة وهمجيّة عن الجناح الآخر.
الموقف الشعبيّ
أظهرت استطلاعات الرأي الّتي يديرها مركز البحوث المسحيّة الفلسطينيّ المستقلّ، أنّ أكثر من 70٪ يؤيّدون عمليّة حركة حماس، ما فسّر بأنّ معظم الشعب الفلسطينيّ يؤيّد المقاومة، حتّى لو كانوا من غير المنتمين لحركة حماس. وقد كانت النسبة الأعلى في الضفّة الغربيّة، وبالتأكيد في أماكن اللجوء والشتات والمهجر. وهذا يعكس شعور الناس باستنفاذ كلّ الطرق السلميّة، المفاوضات والمقاومة الشعبيّة، للحصول على الحرّيّة والتخلّص من نظام القهر. دفع الشعب، خصوصًا في غزّة ثمنًا باهظًا في هذه الحرب الإباديّة، وبصورة أقلّ في الضفّة الغربيّة، ولكنّها عزّزت الكراهية للمشروع الكولونياليّ الإباديّ، وعمقت الوعي بالتحرّر.
مواقف النخب
إنّ آراء النخب منقسمة أو متفاوتة. الفئة الأولى ترى أنّ حسابات حماس كانت خاطئة، وصوتها ليس عاليًا، لكون الحرب لا تزال في أوجها، ونظرًا لكون الشعب الفلسطينيّ يتعرّض لأبشع جريمة إبادة في التاريخ، ولذا هناك تهيّب أو خشية من أن يؤدّي الإعلان عن موقفها بصورة أوضح إلى الإساءة إلى الروح المعنويّة. وهي فئة ملتزمة بقضيّة فلسطين وبوحدة الأرض والقضيّة والمصير، وهي أيضًا تختلف عن تلك الشريحة المثقّفة المتضائلة، حجمًا ومضمونًا، المقرّبة من السلطة في رام اللّه. تميل هذه الفئة الوطنيّة إلى تبنّي المقاومة الشعبيّة كإستراتيجيّة مركزيّة في عموم فلسطين، وتطوير المقاومة المدنيّة في الساحة العالميّة، من خلال حركة المقاطعة وحركات التضامن.
أمّا بخصوص موقفها من الحلّ السياسيّ، فيتراوح بين مواصلة تبنّي حلّ الدولة المستقلّة في الضفّة والقطاع وحقّ عودة اللاجئين، دون التخلّي عن تفكيك نظام الأبرتهايد وإقامة دولة ديمقراطيّة واحدة في فلسطين، وبين تبنّي حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة كهدف نهائيّ للتحرّر، وكإستراتيجيّة عمل ومقاومة شعبيّة أساسًا، دون إسقاط خيار المقاومة العسكريّة بشرط إخضاعه لحسابات عقلانيّة ومدروسة.
الفئة المحسوبة على محور المقاومة، وتحديدًا فئة المثقّفين والمعلّقين والمحلّلين منهم، وليس القادة، خطابها العامّ هو أنّ إسرائيل تكبّدت هزيمة، وأنّها على طريق الهزيمة النهائيّة، ولكن ليس في المدى المنظور. يميل خطاب هذه الفئة إلى التقليل من التركيز على الأهوال الإنسانيّة الكارثيّة لصالح تلك الرؤية الانتصاريّة، ولكنّ تشديد هذا الخطاب على مطلب وقف الحرب أسوة بموقف سائر مكوّنات الشعب الفلسطينيّ، وإدخال المساعدات الإنسانيّة وإعادة النازحين إلى شماليّ غزّة، لا يتّسق مع خطاب النصر القريب الّذي كانت تتحدّث فيه. وقد تكون هذه الفئة مدركة في قرارة نفسها عجز أو امتناع المحور عن التدخّل الشامل في المعركة على عكس ما كانت تتوقّع. وهي مع ذلك تظهر رضاها عن تدخّل جزء من المنظّمات المحسوبة على المحور، خصوصًا حزب اللّه في لبنان والحوثيّين في اليمن، الّتي تقدّم تضحيات كبيرة من أجل وقف الحرب على غزّة، مقارنة مع الدور المتواطئ للأنظمة العربيّة المطبّعة، والدور العاجز لأنظمة عربيّة غير مطبعة، ولكنّها مستبدّة وفاشلة داخليًّا وخارجيًّا. وهناك من يرى بهذه المساندة من جانب قوى المقاومة في اليمن ولبنان، الممهورة بالدماء والأرواح، تجسيدًا للروابط العروبيّة الّتي تخلّت عنها الأنظمة العربيّة، المستبدّة، المطبعة وغير المطبعة. ولكن لها موقفًا نقديًّا للمشروع الإيرانيّ في المنطقة، خصوصًا في ما يتعلّق بالأوضاع الداخليّة لأقطار عربيّة.
واستنادًا إلى هذا الاستعراض العامّ والمختصر، فإنّ المشهد الميدانيّ لم ينتج معادلة تسمح لحركة حماس، الّتي لا يزال مقاتلوها يقاومون، حتّى الآن بفرض جميع مطالبها على إسرائيل والولايات المتّحدة، بل إنّ التحالف الأميركيّ – الإسرائيليّ، والعربيّ الرجعيّ، يواصل تنفيذ المخطّط لاستئصال حركة حماس، عسكريًّا وسياسيًّا، وبتواطؤ من السلطة في رام اللّه، ليس من خلال استهداف بنيتها العسكريّة أساسًا، بل من خلال الإبادة الجماعيّة المنهجيّة، وهو أمر لم تواجه مثيلًا له أيّة حركة تحرّر وطنيّ في العصر الحديث.
ولهذا يبدو حتّى الآن أنّ الاستثمار السياسيّ لحرب الإبادة بيد القوى الخارجيّة، وليس حتّى بيد سلطة رام اللّه، الّتي نفّذت، الأسبوع الماضي، أوّل إملاء فرضته الإمبراطوريّة الأميركيّة، المتمثّل باستقالة رئيس حكومة السلطة، محمّد شتية، ليفسح المجال لشخصيّة أخرى تنتمي إلى نفس الطبقة السياسيّة، وهو محمّد مصطفى. وهذا يندرج ضمن مخطّط إعادة تأهيل السلطة، لتكون أكثر مطواعة لإملاءات لهذا التحالف، بحيث يتمّ نقل نموذج سلطة رام اللّه إلى قطاع غزّة. لكن رغم قساوة الظروف في قطاع غزّة، ليس بالضرورة أن تنجح هذه المخطّطات، خصوصًا أنّ السلطة باتت ضعيفة وعاجزة في أعين معظم الشعب الفلسطينيّ، حتّى في نظر الكثيرين من منتقدي حركة حماس.
على ماذا التعويل؟
في مواجهة ما أنتجته حرب الإبادة من أهوال ودمار ومعاناة إنسانيّة، وانعكاس ذلك على القدرة على المناورة السياسيّة، تجعل التحوّلات الإستراتيجيّة الّتي أحدثتها عمليّة 7 أكتوبر وحرب الإبادة في الرأي العامّ بين شعوب العالم، وتمزيق أسطورة إسرائيل عن الديمقراطيّة والتحضّر، وهزّ مكانتها العسكريّة، ساحة الشعوب هي الساحة الأهمّ في الاستثمار فيها، والدفع نحو تنظيمها وتوطيدها لتكون قادرة على مراكمة تأثيرها وممارسة الضغط على الحكومات. فمنذ الأيّام الأولى لحرب الإبادة تفجّر طوفان شعبيّ عالميّ متواصل، ويسجّل زخمًا غير منقطع، وقد سبقه صدور تقارير لمنظّمات حقوق إنسان دوليّة تجرّم إسرائيل كنظام فصل عنصريّ، والّذي أخذ يتصاعد بعد حرب الإبادة الّتي قادت إلى جلب إسرائيل، ولأوّل مرّة في تاريخها، إلى محكمة العدل الدوليّة، لمحاسبتها وإدانتها.
هذا هو أحد أهمّ التحوّلات الّتي أفرزتها غزّة، والّذي يعتبره حتّى بعض حلفاء إسرائيل، فضلًا عن خبراء إسرائيليّين، بأنّه ضرر إستراتيجيّ غير قابل للإصلاح في المدى المنظور والمتوسّط، بل ربّما على المدى البعيد. بل إنّ وزير الدفاع الأميركيّ، لويد أوستن، تحدّث عن هزيمة إستراتيجيّة لإسرائيل. لقد انكشفت إسرائيل أمام شعوب العالم، وأوساط واسعة من يهود أميركا، على حقيقتها منذ تأسيسها على أنقاض شعب، كمشروع استعماريّ استيطانيّ، وفصل عنصريّ، رفض بعناد وبمنهجيّة وبتصميم مسبق، أيّ نوع من الحلّ الوسط مع سكّان البلد الأصليّين، الشعب الفلسطينيّ.
يظلّ التحدّي الأكبر والأخطر أمام الشعب الفلسطينيّ وحركته الوطنيّة، بلورة قيادة وطنيّة فلسطينيّة موحّدة، تمتلك برنامجًا سياسيًّا واضحًا، وتتبنّى خطابًا وطنيًّا إنسانيًّا وعصريًّا، وإستراتيجيّة تحرير تؤدّي إلى تحقيق العدالة والحرّيّة والسلام المستدام.
المصدر: عرب 48