عن الراعي الإمبرياليّ لجرائم الإبادة
استوقفتني المقابلة الّتي أجراها تلفزيون الجزيرة بالإنجليزيّة مع الرئيس البرازيليّ، لولا دا سيلفا، قبل أيّام، حول حرب الإبادة الّتي تنفّذها إسرائيل برعاية أميركيّة على قطاع غزّة، إذ شنّ فيها هذا الرئيس الاشتراكيّ هجومًا حادًّا على الرئيس الأميركيّ، جو بايدن، واصفًا إيّاه بعديم الإحساس تجاه هذه المذبحة الكبرى، وأنّ هذا لا يليق بقائد أقوى دولة على الأرض. واعتبر أنّ مجلس الأمن والأمم المتّحدة والعالم بلا قيادة. ورفض وصف ما تقوم به إسرائيل بأنّه حرب، بل هي إبادة، كما قال.
لولا دا سيلفا ليس يساريًّا شعبويًّا أو راديكاليًا، بل هو رئيس رصين، ويتبنّى دولة الرفاه الاجتماعيّ، ومناصر للشعوب المستغلّة والمستعمرة، وقد عاد إلى الحكم بعد قضاء عامّ في السجن بانتخابات ديمقراطيّة متغلّبًا على الرئيس اليمينيّ الشعبويّ، جايير بولسانارو. وقد صرّح بذلك رغم أنّه ليس مقاطعًا من قبل الإدارة الأميركيّة الحاليّة، الّتي سارعت إلى الاعتراف بفوزه على خصمه بولسانارو، المحسوب على مدرسة دونالد ترامب، بل التقى بايدن به.
ما استوقفني أمران؛ الأوّل جرأة الخطاب وصراحته وقوّته، مقابل الخطابات الباهتة لمعظم حكّام الأنظمة العربيّة إن لم يكن جميعهم بما فيها السلطة الفلسطينيّة، إزاء مخطّط إباديّ غير مسبوق منذ الحرب العالميّة الثانية. إنّ هؤلاء الحكّام والطبقة السياسيّة المحيطة بهم، ليسوا فقط عاجزين، بل رافضين عن سبق إصرار لاتّخاذ خطوات سياسيّة، فعليّة جريئة لإنقاذ الأطفال من المطحنة الصهيونيّة، بل عاجزين أو ممتنعين حتّى عن التعبير اللفظيّ بما يرتقي لحجم التراجيديا الماثلة أمام العالم كلّه. لقد أظهر الرئيس البرازيليّ معنى أن تكون حاكمًا واثقًا ومستقلًّا وغير تابع، وأن تتحلّى بموقف أخلاقيّ، ولا تخشى أحدًا. طبعًا ليست البرازيل الدولة الوحيدة في أميركا اللاتينيّة الّتي كان لها موقفا هو أشرف من موقف الأنظمة العربيّة، إذ أنّ أكثر من نصف دول القارّة اتّخذت موقفًا مشابهًا، بل هناك من جمّد علاقاته مع إسرائيل. وهذا التطوّر المتدحرج هو من تداعيات الحرب الّتي تحاصر إسرائيل.
الأمر الثاني يتعلّق بفقدان الحساسيّة الإنسانيّة لدى الرئيس الأميركيّ وبخلفيّة هذا السلوك المشين. ويمكن هنا إلقاء المزيد من الضوء على الدور التدميريّ الكونيّ التاريخيّ الّذي تقوم به إدارة جو بايدن، الّتي أعادت أجواء الحرب الباردة، ابتداء من التحرّش بالصين إلى الحرب الأوكرانيّة وصولًا إلى رعاية وتغذية حرب الإبادة في غزّة. ليست إدارة بايدن أو إدارة الحزب الديمقراطيّ أو المنظومة الأميركيّة الحاكمة مقطوعة عن التاريخ الإباديّ القديم أو الإمبرياليّ الحديث للإمبراطوريّة الأميركيّة، المعروف لشعوب أميركا اللاتينيّة والوطن العربيّ، وكلّ الشعوب الّتي عانت في الماضي من الكولونياليّة الغربيّة، وتعاني حاليًّا من وطأة النظام الرأسماليّ المتوحّش. وهذه الشعوب لم تذرف الدموع على وفاة أحد أكبر رموز الحروب الأميركيّة الإمبرياليّة، هنري كيسنجر، وزير الخارجيّة الأميركيّة الأشهر، بل تحسّرت على عدم جلبه لمحكمة الشعوب، قبل رحيله نهاية الشهر الماضي، والحكم عليه بما يستحقّ أيّ مجرم حرب من عقاب قاس يكون عبرة لغيره.
إنّ أميركا هي امتداد لأوروبا، الكولونياليّة العنصريّة، الّتي نشأت كمستعمرات أوروبّيّة على أنقاض السكّان الأصليّين لتتحوّل لاحقًا إلى دولة موحّدة قويّة، ذات مؤسّسات ديمقراطيّة ليبراليّة متماسكة، فيها فصل للسلطات، بحيث ينظر الفرد العربيّ بحسرة إزاء هذا النجاح المذهل لمهاجرين من عشرات الدول الأوروبّيّة، في توحيد عشرات الولايات في دولة فيدراليّة واحدة، بعد أقلّ من مائتي عام من الغزو، في حين يعجز من أمسكوا بدفّة الدول في الوطن العربيّ من بناء دولة الوحدة القويّة من المحيط إلى الخليج، بل حتّى في بناء دولة قطريّة واحدة، عصريّة حديثة، مستقلّة غير تابعة، وذات نظام ديمقراطيّ ومنظومة عدالة اجتماعيّة.
بعد الثورة الروسيّة عام 1917، نشأ قطب شيوعيّ واشتراكيّ عالميّ، وبعد الحرب العالميّة الثانية، تبلور وتعزّز قطبان مركزيّان عالميّان؛ المعسكر الرأسماليّ بقيادة أميركا والمعسكر الاشتراكيّ بقيادة الاتّحاد السوفييتيّ. وفي عام 1961 تأسّس تيّار ثالث وسطيّ، عرف بدول عدم الانحياز، شكّل أساسًا من دول العالم الثالث، وبرز ثلاثة من قادته؛ الراحل جمال عبد الناصر، (مصر)، جواهر نهرو (الهند)، وجوزيف تيتو (يوغوسلافيا سابقًا)، وتميّزوا بمناهضتهم للاستعمار والإمبرياليّة والتوجّه الاشتراكيّ القوميّ غير الشيوعيّ. لكنّ هذا التيّار لم ينتهج الحياديّة السلبيّة كما يوحي اسمه، بل كان منحازًا إلى الاتّحاد السوفييتيّ الّذي رأوا فيه داعمًا لحركات التحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ في العالم، ومساندًا لسياساتهم المعادية للإمبرياليّة الأميركيّة.
وبعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ عام 1991 برزت أميركا كقوّة متفرّدة في قيادة العالم، وسارع بعض مفكّريها مثل فرانسيس فوكوياما بالقول بنهاية التاريخ، أي بالانتصار النهائيّ للرأسماليّة الّتي تقودها أميركا، وتحدّث صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات، مخصّصًا حديثه عن العرب والإسلام والصين. وهناك من نظر بأنّ الإمبراطوريّة الأميركيّة لا تستطيع أن تعيش بدون عدوّ، حتّى لو كان وهميًّا. وفي وسط هذا الزخم الغربيّ، راحت القيادة الروسيّة الجديدة – القديمة تسعى للانضواء تحت راية النيوليبراليّة تحت قيادة يلتسن غريب الأطوار، الّذي خلّف ميخائيل غورباتشوف، الّذي كان بادر لخطط إصلاح جذريّ داخليّ أدّت إلى انهيار الاتّحاد السوفييتيّ. وحتّى الرئيس الروسيّ بوتين الّذي بدأ حكمه بمجابهة مظاهر التفكّك والفساد وسيطرة المافيا في الدولة الروسيّة، وإعادة تنظيم الدولة، كان لديه توجّه مرن جدًّا تجاه الغرب وأميركا. ففي السنوات الأولى من حكمه في النصف الثاني من التسعينيّات، سعى للانضمام إلى حلف الناتو. ولكنّ جشع الإمبراطوريّة الأميركيّة للتوسّع لم يتوقّف، بل تفاقم، فسعت إلى محاصرة روسيا من خلال ضمّ دول كانت جزءًا من الاتّحاد السوفييتيّ المنهار إلى حلف الناتو. لقد واصلت الاستخفاف بالدبّ الروسيّ، وصولًا إلى مخطّطها بضمّ أوكرانيا إلى الناتو. ولم تستمع الإدارة الأميركيّة إلى نصائح وتحذيرات خبراء إستراتيجيّين أميركيّين، ومن أبرزهم جون ميرشايمر وجيفري شاكس، بأنّ خطوات التوسّع ستؤدّي إلى صدّام وحروب مع روسيا.
ليس بوتين ملاكًا، فهو حاكم سلطويّ، ويفتقر حكمه لجاذبيّة، ولا يشكّل حكمه نموذجًا لنظام عالميّ بديل، وله طموحات إمبراطوريّة قديمة. وليس غزوه لأكرانيا مقبولًا ولا شرعيًّا. لكن، وكما يؤكّد، ميرشايمر وشاكس وسكوت رايتر، ضابط الاستخبارات الأميركيّ سابقًا، وآخرون، فإنّ الإدارة الأميركيّة تتحمّل المسؤوليّة عن كارثة الحرب في أوكرانيا، وأبعادها الإنسانيّة المحلّيّة، والاقتصاديّة العالميّة، وهم حذّروا الإدارة مرارًا وتكرارًا من مغبّة خطورة هذا التوسّع، ونادوا بضرورة حلّ القضيّة عن طريق المفاوضات. ويدين هؤلاء الخبراء نهج الكذب التضليل وعدم قول الحقيقة للناس من قبل الإدارة الأميركيّة، ويؤكّدون بأنّ أوكرانيا خسرت الحرب نهائيًّا، وهي حرب أدّت حتّى الآن إلى موت نصف مليون من الأوكرانيّين، ناهيك عن عشرات ألوف الجنود الروس. وكلّ ذلك لا يحرّك أيّ ذرّة إحساس لدى بايدن وفريقه تجاه مأساة الشعب الأوكرانيّ، إذ لا تزال أميركا تغذّي هذه الحرب بالسلاح والمال، غير عابئة بالدماء والأرواح، فكلّ ما يهمّها هو حاجة الآلة العسكريّة الأميركيّة الضخمة ومافيات المجمّع العسكريّ للمال والنفوذ، ومواجهة المارد الاقتصاديّ الصينيّ الّذي يهدّد مصالح الأوليغارشيّة السياسيّة والماليّة في أميركا. واليوم، بعد عامين تقريبًا من هذه الحرب، بات الدعم الأميركيّ الهائل لهذه الحرب مثار جدل وخلاف كبيرين في الدوائر الأميركيّة والمجتمع الأميركيّ، وحول عبثيّتها، وبات واضحًا للكثيرين أنّها ليست إلّا حربًا بالوكالة، وأنّ بايدن الّذي أعلن أنّه يريد إسقاط حكم بوتين، وأنّ الرئيس الأوكرانيّ ليس إلّا أداة لتنفيذ خطّة بايدن والمجمّع العسكريّ الأميركيّ. وتتزايد علامات الاعتراف بفشل الحرب الأميركيّة في أوكرانيا، وسقوط أوهام تقويض حكم بوتين، بل إنّ كلّ ذلك أدّى إلى تقوية حكم بوتين، وزيادة الفرص أمام تشكّل قطب عالميّ آخر مخالف للقطب الأميركيّ – الأوربيّ يتمثّل بمجموعة البريكس.
وفي فلسطين، نشهد ذلك السلوك الأميركيّ الفاضح والمتوحّش، والّذي يرى بمذبحة المدنيّين بأنّها عارض جانبيّ لحرب صهيونيّة مشروعة. تجري حرب الإبادة برعاية أميركيّة، هذه الرعاية جاءت مدفوعة بعدّة اعتبارات؛ أوّلًا كون إسرائيل جزءًا من المنظومة الإستراتيجيّة في مخطّط الهيمنة الأميركيّ؛ ثانيًا، علاقة بايدن الأيديولوجيّة والعاطفيّة مع إسرائيل فهو القائل عن نفسه بأنّه صهيونيّ؛ ثالثًا، هذا الدعم غير المحدود يهدف إلى توصيل رسالة لنتنياهو الّذي دعم في السابق خصمه دونالد ترامب، بأنّه لا يستطيع أن يحمي دولته من دون أميركا. كلّ ذلك يهدف إلى تعزيز نفوذه في دوائر الحكم في إسرائيل، واستثمار هذا الدعم الأميركيّ في الحكومة الإسرائيليّة القادمة لتليين موقفها من المطالب الفلسطينيّة. هذا الدعم يهدف إلى حماية إسرائيل، وتوطيد التحالف الإسرائيليّ – العربيّ الرجعيّ – الأميركيّ، والّذي يتطلّب استئناف مسار التطبيع وإعادة تشكيل هذا التحالف الّذي تصدّع في السنوات الأخيرة، وتلقّى ضربة على أثر عمليّة حركة حماس في 7 أكتوبر.
لكنّ الجدل والخلاف داخل البيت الأبيض، وفي أوساط الرأي العامّ حول التورّط المتجرّد من أيّ ضابط أو رادع أخلاقيّ في هذين الحربين، سواء بخصوص الصرف الماليّ الهائل، أو على الدعم العسكريّ وتمويل حرب الإبادة في غزّة، يزدادان. في الشهور المقبلة ستجد الإدارة الأميركيّة والمنظومة الأميركيّة كلّها، وكذلك نظام الأبرتهايد الإسرائيليّ، في مواجهة تصاعد حرب الشرعيّة الأخلاقيّة أو مكانتهما في العالم. وهي حرب دائرة أو متجدّدة منذ الثامن من أكتوبر، وبصورة غير مسبوقة في ساحات الشعوب، الّتي باتت ترى أنّ قضيّة فلسطين قضيّة إنسانيّة عالميّة، قضيّة عدالة وتحرّر وحرّيّة، ليس فقط لفلسطين، بل لعموم الشعوب. ما معناه، أنّ الحلف الأميركيّ – الصهيونيّ سيدفع ثمنًا كبيرًا جرّاء هذا الإيغال بدم الشعب الفلسطينيّ، بأطفاله، ونسائه وشيوخه ومرضاه. فالجبهة الشعبيّة العالميّة المفتوحة لن تغلق، وتحمل في طيّاتها مخاض ولادة آمال وآفاق لبدائل تحرّريّة إنسانيّة بديلة.
المصدر: عرب 48