عن معضلة “اليوم التالي” الفلسطينيّ
منذ الأيّام الأولى للحرب الصهيونيّة الإباديّة في غزّة، وقد مرّ الآن ما يقارب السبعة أشهر، ينشغل التحالف الأميركيّ الغربيّ بـ”اليوم التالي”، دون أن يتحقّق هذا “اليوم” وفق ما يريده هذا التحالف الإجراميّ. وفي الضفّة الغربيّة، تنفّذ إسرائيل حربًا دمويّة تدميريّة، غير مسبوقة، في سياق مخطّط شيطانيّ أو تخيّلات خرافيّة همجيّة مستمدّة من إسرائيل التوراتيّة المختلقة. أمّا بخصوص فلسطينيّيّ الـ48 داخل الخطّ الأخضر، وفي سياق عدوانيّتها المتأصّلة ضدّهم، فقد دمجت إسرائيل بين مخطّط نشر وتغذية ظاهرة الجريمة بمنظومة قمع وترهيب وردع أكثر تطوّرًا وخطورة، ضدّ الناس عمومًا والنشطاء والأكاديميّين الملتزمين بصورة خاصّة.
إنّ حجم المعاناة داخل قطاع غزّة، وكذلك في مخيّمات اللاجئين في الضفّة الغربيّة، لا يتراجع مع تراجع الوجود العسكريّ البرّيّ التكتيكيّ، إذ استبدل بالقصف البرّيّ والجوّيّ والتجويع الإباديّ. وتتكشّف كلّ يوم بعد انسحاب أو إعادة انتشار جيش الاحتلال من المستشفيات فظاعات جديدة يندى لها الجبين، لم ترتكبها إلّا أنظمة أوروبّيّة ضدّ شعوب غير أوروبّيّة وضدّ اليهود في القارّة القديمة، وأنظمة غير أوروبّيّة مستبدّة متوحّشة ضدّ شعوبها. ويعلن قادة هذا النظام الّذين يصرّون على اجتياح مدينة رفح، بأنّ الزمن الآتي سيحمل مزيدًا من الدم والقتل، دون أن تعيقها الخلافات الجارية داخل هذا النظام الكولونياليّ ومجتمعه المشحون بنزعة الانتقام اللانهائيّة سوى الاعتبارات التكتيكيّة.
يقول خبراء علم السياسة والعلاقات الدوليّة عن الحالة السكوباتيّة الّتي تمرّ بها إسرائيل، الّذين يستدعون تجارب الأنظمة الفاشيّة والإباديّة البائدة قبل انهيارها، بأنّ السنوات القادمة تحمل نذر فظاعات أشدّ هولًا، أو على الأقل استمرارًا لهذه الفظاعات المهولة أصلًا، قبل أن تحصل انعطافة توقّف كلّ هذا الدم والخراب.
المؤرّخ الإسرائيلي المناهض للصهيونيّة والاستعمار، إيلان بابيه، يرى في هذه الفظاعات المرتكبة عن سبق الإصرار والتخطيط، مرحلة تسبق انهيار المشروع الكولونياليّ الصهيونيّ، معلّلًا ذلك بخطورة الحرب الإباديّة على الكيان نفسه، وليس على الشعب الفلسطينيّ فحسب، وإن كان يعتقد أنّ لعامل التفكّك الداخليّ الباعث الرئيس لتحقّق هذا السيناريو.
أمّا المفكّر والأكاديميّ، جوزيف مسعد، الفلسطيني الأردنيّ، يكتب مقالًا مطوّلًا في موقع ميدل إيست آي، ضمن مساهماته المنتظمة، يستحضر فيه الفظاعات الّتي ارتكبتها الأنظمة الاستعماريّة والفصل العنصريّ الأوروبّيّة الّتي مهّدت لانهيارها، مثل ما حصل في الجزائر، أو جنوب إفريقيا، وكينيا وغيرها.
وتساءل بابيه في كتاباته ومحاضراته، ماذا يعدّ الفلسطينيّون لملء الفراغ المتوقّع بعد الانهيار؟ لقد دغدغت هذه الاستشرافات عواطف الكثير من الناس وخاصّة من النشطاء الفلسطينيّين، وجعلتهم يعيشون في حالة من النشوة أو السكينة أو الاسترخاء بأنّ بعد العسر يسر، دون أن يدركوا دائمًا مغزى وخلفيّة هذا السؤال المصيريّ المطروح، مكتفين بالفرجة والانتظار، بديلًا عن العمل المقدام والابتكار والتفكير الخلّاق والمبادرة، ولضرورة السعي للتخفيف من الأهوال القادمة.
طبعًا هناك فئات من المثقّفين والأكاديميّين الفلسطينيّين المرموقين لم يتوقّفوا عن الانشغال النظريّ والعمليّ والاشتباك مع هذا السؤال، بقدر عال من المسؤوليّة والتفكّر والتبصّر، والانخراط في محاولات لتوليد المبادرات. ومن أبرز هؤلاء المفكّر عزمي بشارة، الّذي يقدّم تحليلات رصينة، عميقة ومسؤولة، ويطرح تصوّرات لكيفيّة البناء على ما تحقّق من صمود فلسطينيّ أسطوريّ، وعلى ما تحقّق من التفاف شعبيّ عالميّ حول قضيّة فلسطين، ومن حصار شعبيّ عالميّ لنظام الأبرتهايد، وذلك في سلسلة متواصلة من المقابلات على شاشة تلفزيون العربيّ.
غير أنّه حتّى الآن لم تحدث قفزة نوعيّة أو اختراق في هذه الجهود الهامّة، لا قبل الحرب ولا خلالها. ولكن لا يجب النظر إلى هذه المبادرات الجماعيّة أو الاجتهادات الفرديّة النوعيّة، المتعثّرة حاليًّا على أنّها فشل، بل كانخراط في صراع كولونياليّ مستمرّ، وسعي متواصل لتوليد الجديد، بعد أن نجحت 7 أكتوبر، بتداعياتها المختلفة، بدفن القديم والتمهيد لمشروع متجدّد لا يزال يواجه عوائق ومخاطر جمّة. وجميعها يصبّ في صيرورة متراكمة، لا بدّ أن تصل إلى هدفها.
لقد خلقت عمليّة 7 أكتوبر والحرب الإباديّة واقعًا مركّبًا ومتناقضًا؛ من جهة هناك صمود فلسطينيّ أسطوريّ، أسقط أوهام إسرائيل بإمكانيّة إزالة قضيّة فلسطين عن الأجندة العالميّة. ومن جهة أخرى، هناك إبادة صهيونيّة جماعيّة، بالغة الوحشيّة، مدعومة من الغرب الاستعماريّ، ومن أنظمة عربيّة متواطئة ومحتلّة من إسرائيل، جعلت النصر السياسيّ الحاسم، أو حدوث تغيير جذريّ في معادلة القوّة في المدى المنظور غير ممكن، ومفتوحًا على احتمالات عدّة، منها إطالة الصراع بأشكاله المتعدّدة، العنيفة، والسياسيّة، والثقافيّة، والأيديولوجيّة. ويعود سبب هذا الواقع المركّب جزئيًّا إلى تقديرات خاطئة لم تأخذها المقاومة الفلسطينيّة بالحسبان، على مستوى ردّ الفعل الإسرائيليّ والغربيّ المتوحّش، والعربيّ المتواطئ والعاجز، وكذلك على مستوى الفلسطينيّ الداخليّ الّذي لم يرتق إلى حجم الحدث، أو يتجسّد في وحدة فلسطينيّة شعبيّة ميدانيّة.
والأخطر، أنّ كلّ ذلك لم يقد إلى إعادة توحيد الجسم السياسيّ الفلسطينيّ في إطار قياديّ موحّد. فالطرف الّذي يقود المقاومة لم ينتج، أو لم ينضج بعد خطابًا سياسيًّا تحرّريًّا ديمقراطيًّا جامعًا للكلّ الفلسطينيّ، رغم أهمّيّة الوثيقة الّتي صدرت عنه مؤخّرًا يوضّح فيها خلفيّات عمليّة 7 أكتوبر، ويظهر فيها تطويرًا متقدّمًا في خطابه السياسيّ. ومن ناحية ثانية، تواصل سلطة رام اللّه، دون وازع وطنيّ أو أخلاقيّ، في التعاون مع المستعمر، والتكيّف مع دورها الوكيل المشين، معولة على الشرعيّة الّتي تمنحها أنظمة الغرب الإباديّ، لاستبدال المقاومة في إدارة غزّة، بدل العودة إلى شعبها الّذي هو مصدر الشرعيّة.
أمام هذا الواقع شديد التركيب، والمتخن بالجراح والعذاب، يجد المثقّف الفلسطينيّ العضويّ نفسه باحثًا عن المخرج. هو لا يمتلك أدوات تأثير مادّيّة سوى سلطته الأخلاقيّة ورصيده الفكريّ، مضافًا إلى وقوفه في مواجهة فئات من المثقّفين إلى جانب سلطة رام اللّه، أو في مواجهة مثقّفين لاذوا بالصمت المطبق، ما يفقم ثقل التحدّيات الماثلة أمامه.
وبكلمات أوضح، من يمتلك الفعل الميدانيّ، ويهيمن على المشهد ويشكّل محطّ الأنظار، عربيًّا وعالميًّا، جهتان؛ الأولى حركة حماس، ومعها حركة الجهاد الإسلاميّة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ هي الّتي شنّت الهجوم في السابع من أكتوبر، مطلقة تداعيات فلسطينيّة وعربيّة وعالميّة متعدّدة ومتناقضة من حيث التأثير والكلفة، ولكنّها غير قادرة على وقف المجزرة حاليًّا، وجني ثمار صمودها السياسيّة والوطنيّة، ما فتح الباب لتأجيج الخلافات حول تقييم الحدث، والخروج منه، داخل الجسم السياسيّ الفلسطينيّ.
ومن ناحية ثانية، هناك سلطة متعاونة مع الإدارة الأميركيّة ومع الأنظمة العربيّة المرتهنة لإسرائيل والغرب، الّتي عادت لتراهن على تغيّر في مواقف هذه الإدارة، لتصدم مرّة أخرى، بخيبة أمل بعد تفعيل حقّ النقض (الفيتو)، وإحباطها مشروع الاعتراف بعضويّة كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتّحدة.
ويصبح الأمر أشدّ خطورة فيما لو استمرّ غياب وحدة النظام السياسيّ الفلسطينيّ في السنوات المقبلة الّتي، كما أسلفنا، ستكون شديدة الوطأة على الناس، وعلى الفاعلين في مجالات المقاومة ذات الأشكال المتعدّدة، بما فيها الأوساط الشعبيّة والمثقّفة الّتي تعتمد المقاومة الناعمة. وهذه الأخيرة، مجموعات وأفراد، خاصّة تلك الّتي تحمل رؤية تحرّريّة شاملة، عقلانيّة ورصينة، ومتّسقة مع الخطاب التحرّريّ الإنساني المتشكّل على ساحة التضامن العالميّة المبهرة، ينتظر منها دور متفرّد من حيث الإقدام والجرأة والحكمة، في إطلاق حراك وطنيّ، شعبيّ، تنظيميّ يستند إلى عنصر التراكميّة والمثابرة.
إذا كان الفلسطينيّون في الدول الغربيّة، ومعهم أحرار العالم، وفيهم يهود تقدّميّون الّذين تزداد أعدادهم، لا يكلون، وينجحون في اجتراح هذا النموذج من الحراك المتواصل دون تردّد أو تراجع، فكيف لا ننجح هنا داخل الضفّة الغربيّة والقدس، وداخل الخطّ الأخضر في توليد حراك شعبيّ مدنيّ بات حاجة وجوديّة لشعبنا، حراك ينشد التحرّر والعدالة والحياة.
المصدر: عرب 48