Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

غزّة وأدب التسلّل منها في مذكّرات عبد الرحمن عوض اللّه (5)

كانت رحلة التسلّل إلى أسدود الّتي داوم عليها عبد الرحمن عوّض اللّه في أوّل أسابيع وشهور لجوئه من غزّة، أسوة بكثيرين ممّن مارسوا العودة تسلّلًا في حينه، تقصّ شكل وجوهر نشأة الغزيّ وغزّة ما بعد النكبة…

استعادة الأثر (1/2): غزّة وأدب التسلّل منها في مذكّرات عبد الرحمن عوض اللّه (5)

طابور من الغزيّين أمام ضابط إسرائيليّ عام 1948 (أرشيفيّة-Getty)

(هذه المادّة هي الخامسة، ومن جزأين، من سلسلة بعنوان: استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير”. ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين).

“أسدود هلّت بين زهر البرتقال

بغلالة خضراء، وارفة الظلال

محبوبتي، وآلهتي، أنت الحياة وأنت آلهة الجمال

طيري على موج الندى، وعلى تباريح الهوى وتعطّفي…”

أبيات من جملة أبيات غيرها، نظمها وخطّها عبد الرحمن عوّض اللّه في مذكّراته عن قريته أسدود الساحليّة، قبل أن يتركها مع أهلها عند مطلع بلوغه إلى غزّة، وقد غدت أسدود بلدة قبيل النكبة. من أسدود إلى غزّة ثمّ إلى المنفى تفيض ذاكرة عوّض اللّه الّتي خطّها وحطّها على الورق بجزأين، جاءا بعنوان: “من فيض الذاكرة”، صدرت مذكّراته بطبعتها الأولى عن “مركز فؤاد نصّار/ رام اللّه فلسطين” سنة 2008.

من أسدود

لعائلة فلاحيّة أسدوديّة، ولد عبد الرحمن عوض اللّه مطلع ثلاثينيّات القرن الماضي في قرية أسدود من لواء غزّة الجنوبيّ على ساحل المتوسّط. ولمّا كلّ مرابع صباه ومدارجها كانت في أسدود قبل نكبتها، فقد احتلّت قريته في ذاكرته قسطًا كبيرًا من صفحات مذكّراته، وتحديدًا في الجزء الأوّل منها.

من “تل مر” في أسدود حيث موقع مينائها الرومانيّ القديم، ومن مثوى عبد اللّه بن أبي السرح الّذي ظلّ أهالي أسدود يعرفونه بـ”أمير البحر العربيّ”، ومن حكايات تكسّر السفن على شواطئ أسدود وصواريها الّتي استخدمها الأسدوديّين عمدانا لسقف بيوتهم، وعلب الدخان البحريّ الإنجليزيّ ينطلق صاحب المذكّرات في قصّ سيرة طفولة في قريته قبل تهجيرها. وتكتظّ تفاصيل معالم أسدود وعوالمها بدءًا بمقام الشيخ “المدبولي” الّذي التحف بيّارات البرتقال ليبقى شيخ شيوخ مقامات الجنوب حيث كانت يلوذ به الأسدوديّون، ويقصده أهالي القرى المجاورة كلّما جارت عليهم الأيّام. مرورًا بمقام الشيخ “أحمد أبو اقبال” وصولًا إلى زاوية “الشيخ مخيمر” في داخل القرية. عن البيارات وآبارها، وأبرارها من “فرس النبيّ” يسبح في فضائها طيرانًا من غصن إلى آخر إلى أن ينقضّ على ضفادعها ليمتصّ ماء الحياة من جسدها، وبنات آوى تعوي وتجوس طين البيارات ليملأ عواؤها ليل أسدود البحريّ.

عن قصب الطفطاف الّذي تعوّد أهالي أسدود سقف بيوتهم فيه مترعًا بطين الجنوب، وعن عنب كروم سوافي رمل البحر، واندفاع كلب البحر إلى شاطئ القرية ليلتقط حصّته سمك صيد صيّاديها بحسب ما ظلّ يتذكّر عبد الرحمن عوض اللّه. كما يستعيد عوض اللّه ذاكرة أهالي قريته المخضّبة بالحنّاء والدم منذ أيّام حرب “البرغال” كما ظلّ يسمّيها الأسدوديّون، أي حرب البلغار في زمن السفر برلك وحرب تركيّا في الحرب العالميّة الأولى، وعن أفراح أسدود وجراحها وتشكيلها الاجتماعيّ بين فلّاحين ومصريّين، حيث لم يشعر مصريوها باعتزاز فيها مثلما شعروا يوم دخول الجيش المصريّ لها لإنقاذها عام النكبة. كان بحر أسدود وحده من يذكر القرية في موقعها وواقعها في كلّ صباح، ولمّا اقتلع أهلها منها لم يجدوا غير البحر دليلًا، ليدلّهم على الطريق إلى غزّة عبر خريطة السير أو الإبحار “شطّ الشطّ” أي مع طريق الشاطئ.

غزّة وخرائط التسلّل

“يا ريّتهم كسموا وأخذوا شبر زيادة”… ينقل عبد الرحمن عوض اللّه عن امرأة مجدليّة (مجدل عسقلان) كان قد سمعها أثناء نزوحه مع أهله إلى غزّة، في إشارة من صاحب المذكّرات تشي بلو أنّه تمّ القبول بقرار التقسيم، خصوصا أن صاحب المذكّرات عاش من أحد أبرز ناشطي الحزب الشيوعيّ في غزّة، وقد قبل الحزب عمومًا بقرار التقسيم في الوقت الّذي كان من الطبيعيّ أن يرفض فيه الفلسطينيّون قرار تقسيم حقولهم ومراعيهم مع اليهود. كان سقوط أسدود في يوم 27 تشرين الأوّل/أكتوبر 1948، بعد أيّام من خروج الجيش المصريّ منها. وقد ذبح الصهاينة من الأسدوديّين قبل تهجيرهم عائلتي محمّد الناطور ومحمّد العروقي بحسب صاحب المذكّرات.

تحت شجرة سدر (نبق) في حاكورة تعود ملكيّتها لآل المصريّ الغزيّين، اتّخذت أسرة عبد الرحمن شكل لجوئها الأوّل في غزّة، بعد أن اكتظّت مساجد ومدارس المدينة بالنازحين اللاجئين، فضلًا عمّن اتّخذوا من بقايا عنابر المعسكرات البريطانيّة وعنابر “الكلبوش” ملاذًا لهم، وقد أنجبت تلك العنابر المتبقّية الخيام والمخيّمات الغزيّة لاحقًا. وبحسب إحصاء يورده عبد الرحمن عوض اللّه كان يعيش في قطاع غزّة سنة 1949 نحو 400 ألف فلسطينيّ ثلاثة أرباعهم من اللاجئين النازحين، ما دفع إلى انتشار الفاقة والعوز والجوع، والسلب والنهب والفوضى في حينه، الأمر الّذي استدعى التسلّل إلى الديار المنكوبة لإغاثة المنكوبين من جوع محقّق على رمال اللجوء.

وحده ضباب شتاء أواخر عام النكبة ومطلع العام الّذي تلاه من كان يعيل المتسلّلين النازحين في غزّة بالعودة نهارًا، وتسلّلًا إلى قراهم المهجّرين منها في ريف المدينة الّتي افتقدت أطرافها. بينما ليل البحريّ الساحليّ كان أكثر عونًا في حجب عبد الرحمن نفسه عن أعين الصهاينة في رحلة تسلّله بحثه عن قمح أسدود المطمور فيها بعد نكبة أهلها. يتحايل المتسلّل على الطرقات الرسميّة ونقاط الرقابة الصهيونيّة عليها، ليصل إلى قريته أسدود أو المجدل أو الجورة وغيرها، ليكون تبان البيت المهجور أوّل ما يلوذ فيه، ثمّ الانتظار إلى أن يسكن الليل، ليبدأ في حفر مطمورة القمح، فمطامير القمح كانت تقليدًا متعارف عليه في السهل الساحليّ، حيث يجري خزن القمح في حفرة في الأرض صيفًا، إلى أن يحلّ الشتاء فيستخرج منها.

قد لا يستعين المتسلّل ببندقيّة، أساسًا، إذ لم يبق المصريّون على بندقيّة او مسدّس واحد في أيدي الغزيّين بعد دخولهم غزّة ولواء الجنوب، خصوصًا منذ أواخر سنة 1949 ومطلع عام 1950. غير أنّ الاستعانة بشمعة، ضرورة في رحلة التسلّل، ليس لتنير طريق المتسلّلين العائدين إلى قمحهم بالتأكيد، إنّما حفر مطمورة القمح واستخراجه منها كان يتطلّب إشعال شمعة للتأكّد من خروج الغازات مثل ثاني أكسيد الكربون المنبعث من المطمورة عند فتحها، وتفاديًا لاختناق الداخل فيها. فإذا انطفأت الشمعة بعد إشعالها في المطمورة يعني خطر النزول فيها، وإذا ظلّت مشتعلة يعني خروج الغازات والإذن بالنزول إليها. وهذا تقليد متعارف عليه في عالم خزن القمح واستخراجه من مطاميره في فلسطين قبل النكبة.

كان التسلّل بحسب صاحب المذكّرات، يرسم خرائط مبكّرة لشكل العودة، لتغدوا طرق ومسالك التسلّل خفيّة خرائط للفدائيّين في ظلّ العمل الفدائيّ ضدّ المستعمرات الصهيونيّة في الجنوب لاحقًا. وكم من متسلّل جعلت منه خرائط التسلّل فدائيًّا ما بين رحلتي القمح والرصاص منذ خمسينيّات القرن الماضي. فحكاية “جابر النبّاهين” الّذي جاء على ذكره الطبيب المصريّ أحمد شوقي الفنجري في مطلع مذكّراته “إسرائيل كما عرفتها” بعد أوّل يوم من وصوله القطاع سنة 1953، هي حكاية متسلّل من مخيّمات القطاع إلى حقوله المسلوبة خلف السياج، دفعه التسلّل وملاحقته من قبل الصهاينة إلى أن يتحوّل إلى فدائي لا يقصد حقله إنّما سالبيه من أيضًا.

كانت رحلة التسلّل إلى أسدود الّتي داوم عليها عبد الرحمن عوّض اللّه في أوّل أسابيع وشهور لجوئه من غزّة، أسوة بكثيرين ممّن مارسوا العودة تسلّلًا في حينه، تقصّ شكل وجوهر نشأة الغزيّ وغزّة ما بعد النكبة، المدينة الّتي تحوّلت من مركز لواء في الجنوب إلى قطاع مكتظّ بخيام اللاجئين. فالتحايل على فكرة سياج الفصل الّذي أقامه الصهاينة ما بين الأرض وأصحابها تعود إلى تلك الأيّام وما زالت ممارسة التحايل على ذات السياج حيّة ترزق إلى هذه الأيّام.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *