غزّة والحكم المصريّ الملكيّ في مذكّرات عبد الرحمن عوض اللّه (5)
مصاعب ومتاعب في تفاصيل لا تنتهي يتذكّرها عبد الرحمن عوض اللّه في مذكّراته عن أحوال القطاع في ظلّ تحوّله إثر النكبة إلى قطعة جغرافيّة مبتورة من فلسطين، وإلحاقها بالحكم الملكيّ المصريّ…
اشتباك مسلّح بين الجيش المصريّ وجيش الاحتلال الإسرائيليّ في أكبر معركة بعد النكبة (أرشيفيّة ٠ Getty)
(هذه المادّة الخامسة، وهذا الجزء الثاني منها، من سلسلة بعنوان: “استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير”. ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين).
في قطاع غزّة، والّذي غدت مساحته بعد النكبة 360 كم مربّع، كان يعيش فيه حوالي 400 ألف فلسطينيّ حسب إحصائيّات عام 1949 وثلاثة أرباع سكّانه من اللاجئين يقول عبد الرحمن عوض اللّه في مذكّراته “من فيض الذاكرة”. المأوى والغذاء، كانا أكبر مشكلتين قد واجهتا القطاع قبل تسميته القطاع سنتها، وخصوصًا النازحين اللاجئين الّذين هاموا على رمل وجوههم بحثًا عن مأوى، وكذلك أزمة الغذاء الّتي ضربت وقتها القطاع، ومع أنّ لمنظّمة “الكويكرز” الأميركيّة كان لها في توفير وتوزيع المؤن على النازحين اللاجئين. إلّا أنّ لولا البحر، لمات لاجئو غزّة جوعًا بحسب ما يقول جمال زقوت في مذكّراته هو الآخر “غزّة سرديّة الشقاء والأمل”.
لم تقف النكبة في قطاع غزّة عند لاجئيه، إنّما طاولت النكبة أهالي مدينة غزّة الأصليّين، بعد أن فقدوا أراضيهم في ريف مدينتهم المسلوب خلف سياج الصهاينة وبلا رجعة. بقيت مدينة غزّة عربيّة بعد النكبة، لكنّها أكثر مدينة فلسطينيّة باقية فقدت أطرافها، ممّا جعل الغزيّ ابن المدينة يتساوى في حال معيشته مع الغزيّ اللاجئ إلّا في المأوى. وبعد ذلك، بحسب صاحب مذكّرات “من فيض الذاكرة”، كانت مشكلة ثالثة متّصلة بأبناء النازحين اللاجئين للقطاع وتعليمهم قد اعترضت القطاع برمّته. فلم تكن مدارس وكالة الغوث قد أنشأت بعد، لأنّ الأونروا “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين…” لم تكن موجودة أصلًا في سنة 1949، الأمر الّذي ولد نظامًا تعليميًّا استمرّ حتّى مطلع الخمسينيّات يقوم على نظامين في مدارس غزّة المدينة، صباحيّ ومسائيّ، حيث يتعلّم أبناء غزّة الأصليّين في النظام الصباحيّ، بينما أبناء اللاجئين يلتحقون بالمدارس نفسها مساء في محالة لاستيعاب كلّ تلاميذ القطاع في المدارس المتاحة، وقد بقي جزء كبير من بنات أبناء لاجئي القطاع بلا تعليم.
من سياسات الحكم الملكيّ
كان سوء أوضاع القطاع على مستويات مختلفة، الدافع وراء سخط ونقمة سكّانه على الحكم الملكيّ المصريّ الّذي خضع القطاع له منذ عام 1948. وقد تميّزت تلك الفترة بحسب عبد الرحمن عوض اللّه، بحكم عسكريّ ديكتاتوريّ إذ كان ضبّاط مصريّون هم من تولّوا إدارة القطاع معادين لأبسط الحرّيّات كحرّيّة التعبير والتنظيم والاجتماع، كما حظرت التنظيمات السياسيّة، وفرضت إجراءات قمعيّة على سكّان القطاع الغزيّين، كالتوقيف الإداريّ والحجز والاعتقالات بالجملة، والنفي إلى سجون ومعتقلات مصر. وطبّق قانون الطوارئ الّذي كان الاستعمار البريطانيّ قد سنّه سنة 1936 لمطاردة الثوّار وقمع الثورة الفلسطينيّة، بالإضافة إلى إصدار الأحكام القاسية دون مسوّغات قانونيّة أو حتّى المثول أمام المحاكم، وحقّ المتّهمين بالدفاع عن أنفسهم أو تكليف محامين للدفاع عنهم يقول عوض اللّه متذكّرًا تلك الفترة عن القطاع الّذي ألحق بحكم الملكيّة المصريّة.
قبل دخول الجيش المصريّ غزّة في عام النكبة، كان قد تشكّل في المدينة لجنة قوميّة من مندوبي الأحزاب السياسيّة ومنها عصبة التحرّر الوطنيّ، ومؤتمر العمّال، ومجموعة من النوادي والجمعيّات، وكان الشيوعيّون الّذين صار صاحب المذكّرات أحدهم لاحقًا هم العنصر المسيطر فيها. ومع دخول الجيش المصريّ، وفرض حالة الطوارئ حلّت هذه اللجنة، وطارد المصريّون أعضاءها، وشكّلت الإدارة المصريّة لجانًا أخرى أخذت تعدّ كشوفًا بأسماء أعضاء عصبة التحرّر الوطنيّ، وأعضاء مؤتمر العمّال العرب وسلّمتها للجيش المصريّ.
وعلى ذمّة صاحب المذكّرات، كان أحد أفنديّة مدينة غزّة وابن عائلة غزيّة عريقة يركب سيّارة الجيب المصريّة، ويطوف في شوارع غزّة، وحاراتها ويرشد المخابرات الملكيّة المصريّة إلى بيوت وأعضاء عصبة التحرّر الوطنيّ وأنصارها. وقد أشار معين بسيسو أيضًا في دفاتره “دفاتر فلسطين” وهو ابن غزّة المدينة وابن واحدة من أشهر عائلاتها المعروفة، إلى تواطؤ بعض أفنديّة المدينة مع ضبّاط الحكم الملكيّ المصريّ في القطاع. ويكمل عوض اللّه قائلًا: “وطبقًا لتلك الكشوف، جرى شنّ حملة اعتقالات لمن تمكّنوا من القبض عليهم في مدينة غزّة، ونقلهم إلى معتقل أبو عقيلة في سيناء”.
استمرّت حملات الاعتقال على فترات مختلفة، طالت أسماء مختلفة من أعضاء عصبة التحرّر في غزّة، وغيرهم من ناشطين سياسيّين، كان أشهرها في السابع من تمّوز/يوليو 1949، حيث اعتمدت مخابرات الحكم الملكيّ المصريّ في القطاع أسلوب دسّ المنشورات الّتي تتضمّن تحريضًا على سلطات الحكم في القطاع من أجل تبرير مداهمة البيوت واعتقال المشتبهين. وذكر عوض اللّه جملة من أسماء الأعضاء الّذين جرى اعتقالهم يومها ولا مجال لذكرهم هنا، حيث اعتقلوا في سجن سرايا غزّة، ومن ثمّ نقلوا إلى المعتقل بقنطرة شرق المصريّة بعد أن فشلت السلطات في انتزاع اعترافات منهم. وردًّا على حملة اعتقالات ذلك اليوم، اندلعت في اليوم التالي مظاهرة من النساء والأطفال في غزّة المدينة احتجاجًا عليها.
كان صاحب المذكّرات قد انتسب إلى عصبة التحرّر الوطنيّ في سنة 1950 كما يروي، في مرحلة اتّسم الوضع الدوليّ فيه بانتصار الاشتراكيّة وتوطيدها في الاتّحاد السوفييتيّ، وفي بلدان الديمقراطيّات الشعبيّة في أوروبا. وذلك في الوقت الّذي أصيب فيه كلّ من الاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ بضربات شديدة جعلتهما يقعان بدرجات متفاوتة تحت قبضة الإمبريالية الأميركيّة. ثمّ يشير عوض اللّه إلى دور هذه الأخيرة بواسطة الأمم المتّحدة، في إنشاء الوكالة الدوليّة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين سنة 1950، والّتي اعتبرت في حينه بحسب عوض اللّه مقدّمة كانت تهدف لتوطين اللاجئين الفلسطينيّين (الأونروا) خارج وطنهم بما فيهم لاجئو قطاع غزّة. كان التعاون مع الأونروا في مطلع الخمسينيّات في غزّة يعتبر تعاونًا وتواطؤا مع المخطّط الصهيونيّ الاستعماريّ لتوطين اللاجئين خارج فلسطين، وبالتّالي تهمة قد يعاقب عليها المتعاون شعبيًّا.
لولا روح التعاون
ومع أنّ الأونروا قد باشرت أعمال إغاثتها في القطاع في أيّار/مايو سنة 1950، إلا أنّ التعاضد الأهليّ بين النازحين اللاجئين ومعهم أهالي غزّة الأصليّين هو من ساعد على البدء في تنظيم شؤون القطاع وسكّانه. خصوصًا أن الأونروا كانت محلّ تحوّط وتوجّس سياسيّ، ولم يكن مرحباً فيها وتحديدًا لدى سكّان المخيّمات. ولم تكن تسمية “المخيّم” قد درجت بعد على موقع إقامة النازحين اللاجئين، إنّما “المعسكر” مثل “معسكر النصيرات” هي التسمية الّتي تداولها سكّان القطاع في حينه، نسبة لمعسكرات الجيش البريطانيّ المتروكة الّتي أقام فيها اللاجئون فور نزوحهم إلى غزّة. وحتّى مطلع الخمسينيّات، كانت عائلة صاحب المذكّرات النازحة من أسدود إلى القطاع تقيم في بركيات كانت للجيش البريطانيّ قبل مغادرته غزّة وفلسطين، ثمّ انتقلت عائلته بعد ذلك كما يتذكّر بيت كري (مستأجر) مبنيّ من الآجر.
يصف عوض اللّه، حال التعليم بين أبناء اللاجئين في الخيام الّتي كانت تنصب وقتها في ساحات المدارس الّتي لم تكن تتّسع لكلّ الطلّاب، حيث يجلس الطلّاب الصغار على الحجارة، ويكتب المعلّمون على السبّورة بقطع من الحوار (الكلس) بدلًا من الطباشير. وذلك إلى أن أخذت وكالة الغوث تبني مدارس جديدة. ويذكر عوض اللّه فضل الأستاذ خليل صالح عويضة مدير التربية والتعليم في القطاع، الّذي قام واتّصل بأعيان العشائر والمخاتير وملاك الأراضي في غزّة، ودعاهم للتبرّع بقطع من الأرض لإقامة المدارس عليها. وفعلًا كانت معظم المدارس الّتي أنشئت على مدار عقد الخمسينيّات لتعليم أبناء وبنات لاجئيّ القطاع، قد أقيمت على قطع أراض تبرّع بها أصحابها الغزيّون. ممّا مكّن ذلك، ليس سير العمليّة التعليمة في القطاع فحسب، إنّما متّن كذلك أواصر الروابط الأهليّة والوطنيّة بين أبناء مدن مثل غزّة وخان يونس وغيرها وبين نازحي ولاجئي القطاع في حينه.
مصاعب ومتاعب في تفاصيل لا تنتهي يتذكّرها عبد الرحمن عوض اللّه في مذكّراته عن أحوال القطاع في ظلّ تحوّله إثر النكبة إلى قطعة جغرافيّة مبتورة من فلسطين، وإلحاقها بالحكم الملكيّ المصريّ. وهي حكاية نشأة لسؤال القطاع الّذي ظلّت تجيب عليه الأحداث إلى يوم حرب الإبادة عليه هذا. ولمّا سقطت الملكيّة في مصر في تمّوز/يوليو سنة 1952، وانتصرت ثورة ضبّاط جيش أحرار مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وصفّيت الملكيّة وقامت الجمهوريّة، ودشّنت عهدًا جديدًا في تاريخ الأمّة العربيّة بما فيها قطاع غزّة، سقطت الملكيّة المصريّة وممارساتها من ذاكرة سكّان القطاع، ولم يبق منها غير شعارات خطّها ضدّها الغزيّون على جدران الجامع العمريّ الكبير في غزّة.
المصدر: عرب 48