في استحضار تجارب الآخرين.. حوار مع حزب “الشين فين”
تساءلتُ أكثر من مرة، لماذا نرغب نحن الفلسطينيين وتحديدا المنخرطين بالنضال أو بالعمل السياسي، بالوصول إلى بلادٍ مرّت أسوةً ببلادنا فلسطين بتجربة استعمارية وحشية ونميل بشدة لاستحضارها في أحاديثنا وفي كتاباتنا كأحد مصادر الإلهام في النضال التحرر الفلسطيني، مع أن التجربة الفلسطينية ضاربة جذورها في وعي حركات التحررية العالمية والشعوب. بل إن الفلسطيني المناضل كان قد تحوّل إلى أيقونة عند هذه الشعوب منذ أواخر الستينيات وامتدادا إلى أوائل الثمانينيات، ليعود مؤخرا إلى التألق بعد تجدّد فعله المقاوم.
لماذا نُكثر من الإشادة بقيادات التجارب الثورية الأجنبية وبشعوبها في حين نحن نشيد بشعبنا ومناضليه وبأسراه، ونتحفظ تجاه قيادات شعبنا بل نعبر يوميا عن خيباتنا المريرة منها ونفورنا الشديد من بعضها. وفي نفس السياق، أو امتدادا له، نكثر من مقارنة قيادات الدول العربية المفلسة والفاسدة والوراثية مع قيادات الدول الغربية المنتخبة ديمقراطيا وكذلك الشرقية رغم اختلافاتنا مع الكثير من أنظمة تلك الدول الأجنبية، فنعبر عن اشمئزازنا من الأولى ونعجب بالثانية. وأشير هنا إلى آخر تجربتين في كل من جنوب إفريقيا وإيرلندا، حيث حققت قيادتا الشعبين هناك انتصارات حقيقية قادت هذين الشعبين إلى مرحلة حاسمة من النضال الطويل الذي يتجدد بطرق أخرى غير عنيفة في مواجهة الإرث الاستعماري الطويل في إطار ما يسمى بحقبة ما بعد الاستعمار.
نُدرك تماما أنه رغم أوجه التشابه والاختلاف لتجارب الشعوب التي خضعت، والتي لا تزال تخضع للكولونيالية أو لإرثها الممتد في الحاضر، أن تلك الانتصارات تحققت بفضل توفر عدة عوامل ومنها ما كان وما زال مفقودا في الحالة الفلسطينية، ألا وهو العامل الدولي، حيث لعب في كلا التجربتين دوراً نوعياً، في إجبار القوى المتورطة في السيطرة والقمع، على التخلي، أو التنازل، كليا او جزئيا عن سيطرتها في حين أن هذه القوى، أي هذا النظام الرأسمالي الكولونيالي هو الذي خلق مأساة فلسطين وتخلص من معظم يهود أوروبا بوحشية منقطعة النظير وبدون ذرة أخلاق، وهو الذي ما زال يدعم ويساند مشروعه الاستعماري الصهيوني في وطننا. ولكن هذا كله، أي تحرر الشعبين في جنوب إفريقيا وإيرلندا لم يكن ليحصل بدون توفر قيادة مختلفة؛ قيادة حكيمة وجريئة وصلبة وحازمة ومثابرة وغير متأرجحة ومتقلبة في مواقفها وسلوكها؛ قيادة ثابرت في نضالها وعملت على تصويب الكثير من أخطائها، ونجحت في إعادة تعبئة شعبها ومخاطبة العالم بطريقة عصرية وبلغة يفهمها أو بالقيم التي يعلن أنه يتبناها. نقول ذلك ونحن ندرك أن بعض شرائح تلك القيادات في كلا البلدين طالها وباء ما بعد الحقبة الاستعمارية من فساد وتكيف مع النظام النيولبرالي، إذ يعاني البلدان فجوات اجتماعية أكثر اتساعا وخطورة في جنوب إفريقيا.
وهنا يكمن الفرق الأساس في حالتنا الفلسطينية أي في مستوى ونوعية القيادة. من ناحية، أثبت شعب فلسطين للصديق والعدو أنه أسطوري في صموده وتضحياته، ومن ناحية أخرى، يفتقر للقيادة المؤهلة لتأدية دور يرتقي لمستوى هذه التضحيات. فالقيادة القديمة والعاجزة والفاسدة والمتواطئة وبعض القيادات الجديدة التي لا تزال تتحكم بالقرار، شكلت وتشكل حائلا دون تجديد وولادة حالة فلسطينية جديدة تتأطر في هيئة تحررية وطنية وديمقراطية، جامعة وشاملة وهو نقص كارثي ومدمر.
في إحدى محاضراتي في إيرلندا في مدينة دبلن خلال أيار/ مايو الجاري، وفي سياق الاسئلة الموجهة من الجمهور جزم ناشطٌ راديكالي بأن كلا اتفاقي الجمعة العظيمة الإيرلندي الذي وقع عام 1988 واتفاق أسلو الفلسطيني متشابهان من حيث خطورتهما وقال إنهما ببساطة “صفقة بيع” (sell out) للقضيتين الفلسطينية والإيرلندية. والحقيقة أنني فوجئت بهذا التقييم المتطرف لأن منظوري الذي بنيته من خلال متابعاتي عن اتفاق “الجمعة العظيمة” مختلف جوهريا، ولا أرى فيه نسخة لاتفاق أسلو. هذه المحاضرة وغيرها من النشاط كانت ضمن فعاليات إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية التي نُظمت في مدينة دبلن عاصمة جمهورية إيرلندا الجنوبية، وكذلك في مدينتي بلفاست وديري.
ويُذكر أن إيرلندا الجنوبية تحررت من الهيمنة البريطانية عام 1922 بعد ثورة دامية ونضال سياسي وبرلماني طويل، انتهى في حينه بتقسيم الجزيرة الإيرلندية وبالتخلي البريطاني عن الجزء الأكبر منها، والذي انتزع استقلاله السياسي الكامل بعد الحرب العالمية الثانية.
أما في الشمال حيث تعيش أغلبية بروتستانتية موالية لبريطانيا تشكلت بفعل الاستعمار الاستيطاني على مدار قرون، فقد واجهتُ نفس الموقف لدى فئة منشقة عن حزب “الشين فين” وهو الجناح السياسي لمنظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي، الذي اعتمد العنف الثوري ضد الوجود الاستيطاني البريطاني والأغلبية البروتستانتية، ابتداءً من عام 1969 حتى عام 1992، وهو العام الذي بدأت فيه المفاوضات بين “الشين فين” برعاية الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية. فكان لا بد أن أقابل قيادات من حزب “الشين فين” وهو أمر كنت قد قررته قبل الزيارة بهدف فهم الصورة الأقرب للواقع ومعرفة ردهم على هذا التقييم وهذه القراءة. فنحن كفلسطينيين وخصوصا الأجيال الجديدة والصاعدة المرشحة لقيادة المشروع الوطني المستقبلي وفي إطار نضالنا التحرري الذي لم يصل إلى أهدافه حتى الآن، نحتاج للإفادة من هذه التجربة الغنية واللافتة بقدر الإمكان، حتى وإن اختلفت آرائنا وتوجهاتنا سواءً في ما يتعلق بالحلول أو طريقة إدارة النضال أو إدارة المفاوضات السياسية، وهي الأهم في هذه الحالة.
وأصررت رغم سحر التحليل الاجتماعي التقدمي والمناهض للنيولبرالية والموقف المبدئي الصلب تجاه إسرائيل لهذه الجماعات الإيرلندية الراديكالية، أنه لا يجوز شطب حزب كبير مثل “الشين فين” بل أكبر الأحزاب انتخابيا بجرة قلم واعتباره باع القضية رغم، قصوراته وعيوب سياساته الاقتصادية، وإن أغضبنا في السنوات القليلة الماضية بسبب تطرية علاقاته مع إسرائيل التي يحكمها نظام أبارتهايد استعماري واستقباله وفودا من الليكود.
ولذلك تعين علي إبداء موقفي من هذه المقارنة التعسفية والقول إن اتفاق الجمعة العظيمة أفضل بكثير من اتفاق أوسلو. وكان عليّ أن أوجّه كل هذه الانتقادات والأسئلة الصعبة وبطريقة محترمة لأحد أهم قيادات حزب “الشين فين”، بات شيهان، في مكتبه وبحضور مدير مكتبه في العاصمة بلفاست. وبات شاهين وهو حاليا أيضا عضو برلمان كان أحد المضربين عن الطعام عام 1981 مع بوبي ساند وقضى في السجن 18 عاما، وكان مُمكن أن يكون مصيره كساند، كما قال لي. وجرى هذا اللقاء في أوج المعركة الانتخابية للسلطات المحلية في يوم 18 أيار/ مايو الحالي، والتي خرج منها “الشين فين” أقوى الأحزاب.
وفي ما يلي ملخص لأجوبة على جزء من الأسئلة ومن الحوار الذي دار معه، في لقاء استمر ساعة ونصف بعد أن قدمتُ له خلفية عن واقع فلسطينيي الـ48 وموقعهم في القضية الفلسطينية وكيفية تعامل إسرائيل معهم في الماضي والحاضر. وقد تعمدتُ التركيز على علاقة إسرائيل بمواطنيها العرب فلسطينيي الـ48 في محاولة لإيصال رسالة لمن تراجعت نظرتهم لإسرائيل، ولإعادة الوعي بكونها نظام أبارتهايد وفصل عنصري ونظام استعماري استيطاني منذ الولادة، ولإشعاره بصورة غير مباشرة بالضرر الذي ينتج عن العلاقة مع نظام كهذا، يُجدد ويعمق منظومته القمعية الوحشية والفاشية كل يوم.
سين: أنا هنا كسياسي فلسطيني سابق حيث شغلت موقعا قياديا لفترة طويلة في حزب التجمع الوطني الديمقراطي وقبلها في حركة أبناء البلد من داخل المنطقة التي احتلتها الحركة الصهيونية عام 1948، أي أنني أحمل المواطنة الإسرائيلية ومع ذلك نعيش تحت حكم دولة تعلن أنها دولة لليهود وتمارس يهوديتها في إطار سياسات كولونيالية عدوانية عنصرية منهجية، إذ تجعل هذا الجزء من شعب فلسطين في حالة من الخوف على مصيره في وطنه. وكما تعرف أننا، أنتم ونحن، ضحية جريمة استعمارية ارتكبتها نفس الإمبراطورية أي البريطانية، والتي لا تزال تدعم وتساند نظام الأبارتهايد في إسرائيل الذي يجدد نفسه ويوسع ويعمق سيطرته على كل فلسطين التاريخية. وأنا حاليا منسّق لحملة تدعو لدولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين على أنقاض نظام عنصري ظالم وأرغب في التعرف على أوجه التشابه والتباين في الطريق السياسي الذي اعتمدتموه مقارنة بالطريق السياسي الذي اعتمدته القيادة الفلسطينية. بمعنى أنه لأوّل وهلة يظهر اتفاق “الجمعة العظيمة” كأنه حل دولتين وليس دولة واحدة أي كأنه بديلٌ عن استرجاع كل الجزيرة وتوحيدها تحت سيادة واحدة مشتركة. فهل توضح لي ذلك؟
إلى ذلك، في الشهر الماضي احتفلتم بمرور 25 عاما على اتفاقية “الجمعة العظيمة”، هل تحقق ما سعيتم إليه خلال هذه الفترة الطويلة، إذ هناك من يقول إن الاستقطاب الطائفي ازداد بدل أن يتلاشى، وما زالت معظم المدارس مقسمة على أساس طائفي، وهناك جدران عنصرية باقية ورأيتها أنا اليوم، ويقال أيضا إن التخلص النهائي من الهيمنة البريطانية لم يتحقق؟
جيم: هذه بالطبع ادعاءات خصومنا. نحن واقعيون، ولا ننظر إلى الأمور في إطار أبيض وأسود كما يفعل غالبية من مارس العمل العسكري لفترة طويلة، مع أنني أنا أيضا مارست هذا العمل. صحيح أن الاستقطاب الطائفي لم يختف ولكنه لم يزداد. ولا يمكن أن ينتهي إرث استمر 800 عام من السيطرة البريطانية بعقدين أو ثلاثة. ولكن الإحصائيات تشير إلى أن جزءا كبيرا من الجيل الجديد لم يعد يصوت وفقا للخلفيات الطائفية، وهذا معطى مهم.
سين: كان من ضمن اتفاق “الجمعة العظيمة” أن يجري استفتاء على مطلبكم بتوحيد إيرلندا الشمالية مع الجنوبية، لتصبح الجزيرة موحدة وذات سيادة كاملة ومستقلة عن المملكة البريطانية المتحدة، لماذا لم يتم ذلك حتى الآن؟
جيم: لا بد من التذكير بأهم ثلاثة من بنود الاتفاق، الأول إلقاء السلاح ووقف العنف، ثانيا خلق مؤسسات دستورية تقر المساواة الكاملة ولا تسمح بأن تسيطر مجموعة على أخرى على خلفية طائفية أو عرقية. ثالثا تحقيق الوحدة الإيرلندية من خلال إجراء استفتاء من خلال التفاهم بين الأطراف المتصارعة. بخصوص الأول تحقق إذ جرى إلقاء السلاح ويجري النضال الآن من خلال السياسة وليس من خلال العنف، وبخصوص الثاني وهو في غاية الأهمية، جرى تفكيك النظام البروتستانتي العنصري وإقامة شراكة متساوية في السلطة بين البرتستانت والكاثوليك، بحيث يتم البت بالقضايا المصيرية بالتوافق وليس من خلال الأغلبية الطائفية العنصرية. (حسب إحصائيات اليوم، تقلصت الفجوة العددية بين الطرفين بحيث بات الكاثوليك يمثلون 44% من سكان إيرلندا الشمالية).
سين: ولكن يتهمونكم خصومكم بأن ربع قرن قد انقَضى دون أن يتحقق ذلك، فماذا تفعلون من أجل الوصول إلى ذلك؟ أي ما هي الخطوات التي تقومون بها لتسريع تنفيذ جميع بنود الاتفاق؟
جيم: كان من الأهمية بمكان أن نجعل بند توحيد الجزيرة مطلبا وطنيا من البنود المركزية لا يجوز التنازل عنه، ولكن عملية التنفيذ تحتاج إلى جهد وعمل دؤوب وكذلك لعامل الزمن دور مهم ولا يمكن حرق المراحل. وتشير نتائج استطلاعات الرأي إلى التحولات في الرأي العام داخل الشعب الإيرلندي، إذ تتجه نحو الوحدة. كما أن هناك إطار يسمى Citizens’Assembly شكلناه مؤخرا كآلية عمل ويقوده القائد السابق لحزب “الشين فين”، جيري أدم، بهدف تحقيق وحدة دستورية بين الشطرين. ونحن نعتقد أن هذا الهدف سيتحقق في غضون العشر سنوات القادمة.
سين: لماذا تدعمون حل الدولتين في فلسطين الذي أدى إلى اعتراف وإسباغ الشرعية على نظام الفصل العنصري أو ما نسميه يهودية الدولة، في حين أنكم لم تقبلوا حل الدولتين وكحل مرحلي كما أفهم في بلادكم إيرلندا، إذ اشترطتم من خلال اتفاق “الجمعة العظيمة” تفكيك النظام البروتستانتي الطائفي الذي كان يُميز دستوريا ضد الأقلية القومية الكاثوليكية التي تنتمون إليها؟ كما أنكم لم تتنازلوا مبدئيا عن حل الدولة الواحدة، وها أنتم كما تقول تعملون بثبات لتحقيقه عبر استفتاء عام؟
جيم: نحن لا نقول للفلسطينيين ماذا عليهم أن يفعلوا وليس من مبادئنا التدخل في قرارات أي شعب آخر مثلما نحن أيضا لا نحب أن يتدخل آخرون في شؤوننا.
سين: هذا ما كانت تقوله قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي حتى فترة قريبة، لكن ما تقوم به إسرائيل من ممارسة كولونيالية استيطانية أدى إلى توطيد نظام قهر بين البحر والنهر، وكذلك حفز النخب الفلسطينية على العمل على إحياء المشروع التحرري الفلسطيني لاستعادة فلسطين وإحياء حل الدولة الديمقراطية الواحدة القديم، كما تعملون أنتم الآن على استعادة كامل وطنكم وغير مستعدين للمساومة على هذا الهدف. وفي السياق، لماذا تلتقون بالإسرائيليين، (كنت رأيت له صورة مع وفد من حزب الليكود) ولا تنتهجون المقاطعة؟
جيم: إذا كان الفلسطينيون سينتقلون إلى حل آخر أكثر عدالة فسنحترم خياراتهم. أما بخصوص العلاقة مع الإسرائيليين فقد أوقفناها بعد أن اكتشفنا أنهم يسعون لاستغلال هذه العلاقة لصالحهم من خلال الادعاء أنهم يساهمون أو يلعبون دورا في المصالحة الداخلية.
سين: وماذا عن المقاطعة لماذا لم يصدر قرار حتى الآن بهذا الخصوص؟
جيم: أبشرك بأننا غدا أو بعد غد سنقدم اقتراحا للبرلمان يفرض قيودا على استيراد البضائع الإسرائيلية المصنعة في المستوطنات، ومنسق حركة المقاطعة، عمر البرغوثي، في الصورة ويتابع نشاطنا وكنا قد دعوناه لإلقاء كلمة في مؤتمرنا الصيف الماضي ولدينا علاقة تنسيق جيدة معه. وسأعطيك نسخة عن اقتراح القرار. (وأشار إلى مدير مكتبه الذي كان حاضرا بالدخول إلى الحاسوب لإخراج نسخة، لأطّلع عليها).
المصدر: عرب 48