في غزّة… كما في اليرموك
مع أنّني من مواليد التسعينات، إلّا أنّي عرفت مجزرة تلّ الزعتر جيّدًا. حتّى أنّني رأيتها بأمّ عينيّ في عام 2012، لحظة نظرتُ مصادفة إلى وجه رضيع جارتنا، وهي تعبر شوارع مخيّم اليرموك، هاربة به من مخيّم إلى مخيّم، ومن موت إلى موت.
مضى عشرة أعوام على كتابتي عن جارتنا أمّ غياث الغزّاويّة في «فيسبوك». وكانت عبارتا “من مخيّم إلى مخيّم، ومن موت إلى موت” قد صارتا “حدثًا ماضيًا” بحسب تعبيري. وهكذا حتّى ذهبتُ قبل أشهر للمرّة الأولى إلى رام الله. في أوّل نهار لي هناك، وبعد استراحة قصيرة في شقّة عند أطراف المدينة، تواعدت وصديقي غسّان بأن نلتقي وسط البلد. قلت له: أريد أن أمشي. فعلًا، مشيت قرابة الـ 5 كم نازلًا من المصايف، آخذًا طريق الإرسال الرئيسيّ. ولمّا وصلت المنعطف المطلّ على المدينة، توقّفت عنده، وأشعلت سيجارة لأتأمّل جمال رام الله أوّل الليل. هناك انتبهت لفتاتين جالستين على يمين المنعطف، ألقت إحداهما السلام، وسألتني إن كان الطريق بعد المفترق إلى اليمين يؤدّي إلى البلد.
قلت: لست من هنا أيضًا، لكن حسب الخريطة؛ عليكما أخذ الطريق حتّى نهايته.
– أوّل مرّة هون؟
– إي، أوّل مرّة، اليوم وصلت.
– وإحنا من شوي وصلنا.
سكتت قليلًا، وأضافت:
– منين حضرتك؟
– من مخيّم اليرموك.
وقبل أن أتفوّه بجملة ثانية حول المخيّم، وقبل أن أفكّر حتّى في سؤالها “من أين أنتِ؟”، ردّت مسرعة:
– وأنا من غزّة، أهلا وسهلا فيك بأرضك، درب السلامة.
لم أعرف كيف أردّ. ابتسمت في وجهها. وكان وجهها أجمل من ليل رام الله. تجمّعتْ دمعة في عينيّ. استحيت، ثمّ انتبهت لدمعة في عينيها، كأنّها دمعة واحدة. ارتبكت، فأدرت بوجهي إلى الوادي لأكمل السيجارة.
كان كلانا يتطلّع إلى رام الله بصمت، كما لو أنّ وجهينا، كانا – اليرموك وغزّة، وحيدان لمصيرهما أمام قرص القمر الّذي كان قد تضخّم فجأة في السماء، حتّى بدا كما لو أنّه سينفجر أمامنا – في كلّ لحظة قادمة!
قلت: صديقي ينتظرني في البلد، وانسحبت، مُخفيًا دموعي، ماشيًا إلى رام الله، متذكّرًا وجه أمّ غياث، وعبارتَي: من مخيّم إلى مخيّم، ومن موت إلى موت. دومًا ما حدّثنا أهلنا عن مدننا الجميلة، لكن غزّة كانت وحدها دومًا مَنْ شاركتنا مصائرنا.
أنظر اليوم إلى صور أوّل مخيّم أنشأته الأونروا للنازحين من مدينة غزّة، جنوبًا في خان يونس، فأتذكّر ما ظنّه كثير من سكّان المخيّم، لحظة قصف الأسد بيوتهم بالطائرات، وفجّر من حولهم المدارس والجوامع والمستشفيات. في تلك الأيّام، ظنّ كثيرون أنّ العالم سينتهي حتمًا، وليس في هذا الظنّ يأس، بل إيمان شديد بأنّهم ذاقوا أسوأ ما قد يذوقه الإنسان من علامات القيامة، حسب رواية أبي هريرة عن النبيّ محمّد: “لا تقوم الساعة حتّى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج. قلت: وما الهرج؟ قال: القتل”.
ظنّ الناس، إذن، أنّ تهجيرهم للمرّة الثانية، على التوالي، لا بدّ من أن يكون نهاية العالم، لا محالة. وكانت الفجعة: لم ينتهِ العالم، أو على الأقلّ لمَنْ ظلّ منهم حيًّا؛ ليشهد استمرار ظلمه وبؤسه.
لم يتغيّر العالم بعد ذلك قيد أنملة، بل استمرّ في إبعاد ناظريه عن جرائم حصار أحد أكبر مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في الشتات، وتجويعه وتهجيره، غير مكترث للمأساة الكامنة في تشريد مَنْ شُرِّد قبلها مرّات ومرّات.
جدّة صديقي، الّتي قالت: “آمنت باقتراب القيامة، لا محالة”، جُنَّ جنونها لحظة هُجِّرت للمرّة الثانية. لم تحتمل مرارة اللجوء مرّتين في حياة واحدة، مثلما لم تقبل فكرة استمرار العالم، في العام الّذي ركضت المنظّمات الدوليّة تجمع التبرّعات؛ لتبني المزيد من المخيّمات في لبنان والأردنّ وتركيا، ولتمدّ الناس بأقمشة صفراء، يبنونها؛ فيظهر حرفا الـ (UN)، ويظهر حرف النون. اللعنة على النون؛ حرف مَنْ كُتِب عليهم أن يسبحوا في دمهم أبدًا، إلى «سفر الخروج».
واليوم، مثل أمس، لا يريد العالم أن يرى الحقيقة التاريخيّة برغبة في إخراج الفلسطينيّين والفلسطينيّات إلى صحراء سيناء، ولا يريد التوقّف أيضًا عن النظر إلى كلّ ما حدث ويحدث في فلسطين؛ من استعمار، وتهجير، وإبادة عرقيّة، وتغيير ديموغرافيّ، على أنّه مجرّد “نزاع شرق أوسطيّ؟”.
لا، لن يرى العالم الحقيقة، مثلما لن ينتهي بعد أن تُقْصَف فيه الحقيقة بالقنابل الفوسفوريّة، ويُباد المدنيّون والمدنيّات والأطفال في استهداف واحد لمستشفًى تكوّمت فيه الأبدان حيّة لتموت.
لا، لن يستوعب العالم رغبتنا في انتهائه؛ إذ تلاحق شرطة برلين أجيالًا من لاجئي الشتات، وممَّنْ هرب من قمع بشّار الأسد، وتهدّده بسحب إقامته وحرمانه من حقوقه المدنيّة، واصفةً كلّ مظاهرة تندّد بآلة القتل الإسرائيليّة بالإرهاب.
لا، لن يستوعب العالم رغبتنا في انتهائه، في اللحظة الّتي نشهد فيها إرسال غزّة إلى الصحراء؛ لبناء المخيّمات، وخلق جيل جديد من اللاجئين. ونحن، لن نطالب العالم بأن يفهم موتنا؛ الموت، لا يُفَسَّر، بل يُرى، ومَنْ لا يراه غلّف قلبه بالحديد كي لا يرى.
بل سنظلّ نكتب ونترجم ونجادل ونتضامن لأجلنا نحن، ليس لإيمان بأنّ حكومة هنا، أو جمعيّة إنسانيّة هناك، ستشرعن حقّنا بفتح أفواهنا لحظة نُقْتَل، بل لإيماننا في الشتات، بأنّنا كنّا دومًا متروكين إمّا لصوتنا، وإمّا لنبوءة ولإلهٍ تركنا لنصيبنا من وعود قيامته، في غزّة، كما في المخيّم.
***
في غزّة، كما في المخيّم
كان كلّ شيءٍ من أجل لا شيء
الصلاة والسور
وعيون فاطمة وكفّها
وسكّين اليد في جيب القميص
وابتسامات أطفال تعوم في زرقة شارة الأخبار
لتُبعد أصحابها عن شرّ قادمٍ يجهلونه.
كان كلّ شيء من أجل لا شيء
الرفض أو الصمت أو الانتظار أو الهروب أو البقاء أو الانتصار – كما الموت!
أو الموت بترجمةٍ أو بدون
كان كلّ شيءٍ من أجل لا شيء
فقد دعونا جميعًا لحظة الموت… كلٌّ بما كان يؤمن به…
أن نحظى بالخروج الكبير إلى الأرض… أرضنا!
وكانت وجوه الأمّهات مضطربة
من الحزن والفرح
واليقين بالتقاء المجهول ما بين الحاجزَين.
وما بين الحاجز والآخر رأيت وجه أمّ غياث
بدت صغيرة وهشّة
أو أقصر قامة من جبهة الجنديّ
وبدت وهي تلفّ رضيعًا بذراعيها
مثل آلهة مكسورة
مثل آلهة تظلّ تحاول أن ترفع شعبًا
كلّما هوى
من مفصل الدنيا.
شاعر فلسطينيّ، من مواليد 1997، يدرس علوم الثقافة والجمال التطبيقيّ والدراسات المسرحيّة في «جامعة هيلدسهايم».
المصدر: عرب 48