في مديح “الحالة الطبيعية”: الطبيعي كاحتياج كولونيالي
يدعي هذا المقال أن الأزمة الحالية مرشحة أن تظهر لجميع الأطراف الإسرائيلية معنى الاتفاق الداخلي للمجتمع الإسرائيلي في ظل اتضاح انعدام كيانية للدولة خارجه (أي خارج المجتمع). إن عدم وجود وحدة سياسية عليا (دستور) ووحدة جغرافية (حدود) في ظل مشروع أيديولوجي لا حدود له أيضا، أي في ظل مشروع أيديولوجي يتجدد ويتوسع باستمرار بناء على تغييرات في تركيبة المجتمع، يجعل المجتمع أهم من الدولة، عمليا لا دولة سوى المجتمع الذي يعيد إنتاجها، ودون وحدة هذا المجتمع يتفكك حتى مفهوم الدولة.
هذا الاستنتاج الخطير الذي ظنت النخب الأشكنازية أن احترام المؤسسات وقوتها ستعوض عنه سيؤثر على الأغلب في سلوك المجتمع الإسرائيلي بكافة أطيافه، وهنالك أساس للتفكير بأن هذا التأثير سيتناسب عكسيا مع مستوى الحماس الأيديولوجي للفئات المختلفة، حيث يدخل المتظاهرون، وفق ادعاء هذا المقال، هذا الصراع بمستوى منخفض من الحماس الأيديولوجي (أي الكولونيالي) وبمستوى مرتفع من القلق في نفس الوقت. لقد وصلوا لتخمة كولونيالية حيث بات همهم الأكبر تطبيع وتحصين ما حصلوه ضمن نظام يبدو أنه ما فوق السياسة. إذا صح ذلك فقد ينشأ عن هذه المظاهرات إدراكا لفئات أوسع من معارضي الريفورما ومن مؤيديها معا، أي إدراكا يشمل قواعد اجتماعية من اليمين ذاته، أي اليمين “المعتدل” (أن تقليص الجزء اليساري من المجتمع يوسع الاختلافات والتمايزات داخل اليمين)، مفاده بأن الاختلاف الأيديولوجي هو ليس الأهم حاليا. بالتالي قد تحمل المظاهرات بمعنى المسار والمعاني التي أنتجتها من مؤشرات للمستقبل أكثر مما يحمله نجاح “الريفورما” أو فشلها بالطريقة التي طرحت بها.
يدعي هذا المقال أيضا أنه لكي نفهم المظاهرات وتوسعها والمعاني والدوافع المختلة والمتفاوتة التي قادتها علينا الفرز بين فئتين أساسيتين شكلتا السواد الأعظم للمتظاهرين: القطاعات التي دخلت للتظاهرات بحضورها المعنوي ودعمها المادي والرمزي والتي شكلت “الريفورما” بالنسبة لها انهيارا لعالمها، وتدخل هنا أولا النخب الاقتصادية والأمنية (بما في ذلك ضباط وجنود الاحتياط) والفكرية والأكاديمية، وثانيا القطاعات الواسعة التي حمّلت المظاهرات معارك اجتماعية قديمة والتي تضم علمانيين وعلمانيين محافظين ومتدينين غير متشددين، ضمن فرز يتماشى مع التغييرات الاجتماعية التي حلت بالمجتمع الإسرائيلي خلال العقدين الأخيرين والتي أنهت الفرز التقليدي الأكثر وضوحا وتضادا علمانيا – متدينا. لقد شهدت مدن عديدة خلال أكثر من عقد، معارك وصراعات اجتماعية محلية بين قوى واسعة وبين الحريديين في الأساس، رأى نشطاؤها أن المظاهرات هي فرصة لرفعها كجزء من أجندة قطرية اجتماعية أوسع. تبني هذا التشخيص للقطاعات التي دخلت المظاهرات وشكلت حصة الأسد في تمثيل دوافعها وشعاراتها معناه تهميش المضمون الأيديولوجي للمظاهرات نفسها. وهو ادعاء يحمله هذا المقال.
لم تكن الأيديولوجيا السياسية ولا حتى الصراع على السيطرة السياسية هي صلب ما دفع المتظاهرين للخروج من لامبالاتهم واسترخائهم السياسي الذي ميزهم خلال العقدين الأخيرين، فهؤلاء في غالبيتهم العظمى تقاعدوا عمليا من السياسية ومن الأيديولوجيا، والخروج من السياسة ضمن سياق مشروع كولونيالي لم ينته بعد يعني الخروج من عملية تحديد ملامح المشروع الكولونيالي، هذا لا يعني أن هذه الفئات ليس لديها القناعات الخاصة السياسية بها، لكنه يعني أن هذه القناعات الفردية لا تحضر كمشروع سياسي بديل.
لقد تعاملت هذه القطاعات مع الريفورما القضائية كأجندة مجتمعية خطيرة بل كارثية وملحة وحاسمة، الأمر الذي لم يحدث في قانون القومية مثلا، الذي بقي نسبيا ضمن حيز برلماني وإعلامي ضيق. يبدو منطقيا أن نفكر أن وضع الصراع الأيديولوجي في المركز، أو حتى الصراع على “هوية الدولة” يرشح “قانون القومية” لأن يكون محور الصراع على هوية الدولة وحتى على التوازن بين الكنيست (القومي) والقضاء (الديمقراطي)، فقانون القومية قام بأكبر تغيير في هوية الدولة وفرض هذا التغيير بالقوة وليس عبر حوار أو أجماع صهيوني. لقد قام هذا القانون بإعادة كتابة وثيقة “الاستقلال”، الوثيقة الأكثر رمزية في تاريخ الدولة اليهودية، كما أنه قام هو نفسه بـ”الريفورما” القانونية الأكثر أهمية ربما من “الريفورما” المطروحة حاليا عندما رفع من منسوب الهوية اليهودية للدولة لكي تتغلب على منسوب الحريات الليبرالية، كما جاء صراحة في تصريحات نتنياهو وآخرين. فإذا كانت المسألة هي مسألة المصير الأيديولوجي للدولة أو هويتها، فقد كان أولى بقانون القومية أن يدرك كانقلاب، أما “الريفورما” القضائية الحالية فلا تشكل أي خرق أيديولوجي عقائدي، فلماذا هذه الهبة الآن؟ قد نفكر ببعض الأسباب، أهمها أن الهوية (الأيديولوجية القصد) الحقيقية الوحيدة للدولة اليهودية والكافية كإجماع والصامدة أمام كل التغييرات الاجتماعية والسياسية هي تلك التي وطدتها النخبة الأشكنازية والتي لم يستأنف عليها اليمين الجديد: استهداف الفلسطينيين المادي والرمزي، فهي ما زالت الهوية الجامعة الأهم من أي تعريفات أخرى مختلف عليها، Anti –Palestinian هي الهوية الحقيقة، أما التعريفات الأخرى فتندرج تحت عنوان “التوازنات”، والتوازنات كما حقيقتها هي أمر عملي وخاضع للنقاش والتغيير ولن تحولها النخب الأشكنازية ولا الطبقة الوسطى “الليبرالية” ولا القطاعات المجتمعية الواسعة “غير” المتطرفة كمعركة.
مقابل اللامبالاة هذه تجاه قانون القومية صاغ المتظاهرون رواية وطنية سياسية اجتماعية كارثية حول “الريفورما” تبرر بشكل غير مسبوق عصيان الخدمة في الجيش، قدس الأقداس.
هناك حاجة لتفسير “غير أيديولوجي” للتحرك الذي فيه حياة أو موت بالنسبة لنخبة مستمرة التقهقر منذ الانتفاضة الثانية، منذ أن خرجت هي نفسها من ادعاء أنها تمثل دورا سياسيا لا يستطيعه اليمين، وتقهقرها المستمر أمام نجاحات اليمين في إعادة تعريف الوطنية الصهيونية بشكل أكثر متشدد وأكثر يميني وأكثر ديني. هنالك حاجة لتفسر لا يتعلق بما فشلوا فيه، بل بما نجحوا فيه. الصراع الذي نحن بصدده لا يتعلق بصراع سياسي فشل الليبراليون فيه وتركوه، بل يتعلق بصراع على حيزهم الجديد الذي نجحوا فيه: “الحالة الطبيعية”، النورمالتي.
تطبيع الوضع القائم، المتمثل بتعميق الكولونيالية وزيادة العنف العام، بما في ذلك الانزياح نحو اليمين هي حاجة ضرورية لهذه النخب وقد نعتبره دورها السياسي الجديد. هذه النخب “الليبرالية” يهمها شرعنة عنف اليمين ومشروعه وحوكمته ليس أقل مما يهمها محاربته، أو ربما نقول للدقة بأنها استبدلت محاربة مشروع اليمين بعملية ضبطه عبر حوكمة صحيحة.. “الطبيعي” Normality هو أكسجين حياتها الجديدة اللا سياسية A Political. هذه النورمالتي تحتاج للنظام، للروتين، للسيطرة للمؤسساتية، باختصار للحوكمة (للمملختيوت)، وهو ما يصرحون به ليل نهار منذ اليوم الأول للمظاهرات. إن تقويض الأمان الوحيد من جهة ومصدر الرزق من جهة ثانية والرسالة السياسية من جهة ثالثة للطبقات الوسطى وللنخب الاقتصادية والأكاديمية والفنية والثقافية والأمنية هو ما أعطى للمظاهرات مصادر الدعم الأكبر لها: التمويل المالي، خروج النخب الاقتصادية علنا ضد نتنياهو، الدعم الخفي للشاباك والجنرالات، التهديد بعدم الخدمة في الجيش. مصادر قوة المظاهرات هذه هي مصادر تعيش وتشرعن حياتها على تطبيع الحالة اللا طبيعية للعنف وإعطاء مظاهر الاستقرار لحالة من اللا استقرار، بالعبرية “المملختيوت”. عملية الخروج من السياسة هذه تدفع اليمين لاتهامهم بالتقاعس، بينما في الحقيقة تشكل مهمة الحفاظ على مشهد من الـNORMALITY في محيط من اللا طبيعي الإنجاز الكولونيالي الأهم للنخب القديمة. ونستطيع أن نقول إن هذا هو الدور الذي يعطي للدولة العبرية شرعيتها بل ووزنها الدولي رغم كل جرائمها، وهو الدور الذي يحصنها أيضا من المحاكمات الدولية.
هذه “النورمالتي” أو “المملختيوت” المتمثلة في محكمة قوية مستثنية من اللا استقرار السياسي للعبة الحزبية والبرلمانية، هي التعويض الوحيد عن دولة طبيعية، بالذات عندما يتضح فشل مشروع الصهر، وتقويضها هو تقويض لعالم ليبرالي منشغل بنجاحاته العالمية الاقتصادية والعلمية ويريد أن يترك ساحة المعركة لغيره وهو مطمئن أن غبار المعركة لن يطاله في عالمه الجديد. إن الشعور بغبار وضجيج المعارك الأيديولوجية، تقوض استقرارهم وتشكك بيئتهم الدولية الجديدة بإمكانيات نجاحهم بل ونجاح الدولة. إن عقيدة ” كل شيء على ما يرام”، “نحن دولة الستارت أب” التي يعتمدون عليها لتثبيت دورهم وعلاقاتهم وشرعيتهم العالمية الجديدة، هي كل عالمهم الآن. لقد أتخموا بالكولونيالية وبنوا إنجازاتهم وجامعاتهم ومؤسساتهم ومدنهم من خلال مسامات الفلسطيني: أرضه وبيته وجسده وأولاده وأشجاره وأغنامه وأمواله، لكن العالم الواسع الآن هو ملعبهم. ماذا قالت إحدى نشيطات المظاهرات “يفهم العالم الآن أننا أمام انقلاب. لقد قام باحثون بإلغاء زياراتهم، لكنهم في النهاية سيقومون أيضا بأبطال برامج تعاون بحثية، إذا ما مرت هذه ’الريفورما’ فإن صناديق أوروبية ستقوم بتقليص ميزانيات البحث ولن تتعاون مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، سنتحول كباحثين إلى أشخاص عير مرغوب بهم”.
هذا الاهتمام بـ”النورمالتي” وفق الطرح هنا، يتناسب عكسيا وليس طرديا مع الدور الأيديولوجي أو العقائدي لهذه الفئات. لقد وصلت قيمة “المملختيوت” لتكون القيمة الوطنية الأكثر أهمية لدى المجتمع الإسرائيلي مقارنة حتى بقيمة “أن تكون يهوديا” وذلك في (وعلى الأغلب منذ) إحصائيات عام 2013، وفق المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وقد استبدلت كـ”الشرخ” المجتمعي الأهم من شرخ “الصراع على مستقبل المناطق” (المقصود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967)، أي من الشرخ الأيديولوجي.
ربما ليس صدفة أن تحذيرات معاهد الأبحاث الإسرائيلية القديمة، منذ عقدين على الأقل، بخصوص “معاناة هذه الديمقراطية من عدم استقرار كبير، ومن تصدعات اجتماعية بين اليمين واليسار وبين المتدينين والعلمانيين”، لم تتجسد بشكل صدامي قطري، رغم وجود معارك اجتماعية محلية داخل عدة مدن وبلدات أغلبها مقابل سياسات الحريديين، مع أنه فقط 28% من الرأي العام الإسرائيلي اعتقد بأنه ليس هناك احتمال “لتفجر حرب أهلية تتعلق بمصير المناطق” (لكن عندما تم الصدام الآن لم يكن حول “مصير المناطق”). لا يمكن أن يفهم ذلك إلا من خلال السياق الكولونيالي، حيث “يضطر” المجتمع الكولونيالي أن يصرف التصدعات السياسية والاجتماعية ضمن قنوات أخرى، مثلا توسع المركز السياسي والاجتماعي، أو انزياح المجتمع برمته نحو اليمين، أي التقارب السياسي بين اليمين و”اليسار” والتقارب الاجتماعي بين المتدينين والعلمانيين على شكل محافظة اجتماعية ودينية تطورت خلال العقدين الأخيرين، إلا أنه لا يستطيع تصريف أزمة “المملختيوت”، “المملختيوت” كانت منذ البداية احتياج الكولونيالية الصهيونية لكي تظهر “كنظام طبيعي”، “المملختيوت” في السياق الإسرائيلي هي احتياج كولونيالي، وقد يتم دعم ذلك عندما نرى كيف تشير أبحاث الرأي العام، مرة أخرى، الاعتماد هو على استطلاعات المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، بأن هذا المجتمع استبدل التصدعات السياسية – الاجتماعية بتصدعات “المملختيوت”. بالتالي الصدع الأكبر هو عمليا بين الأيديولوجيا وبين النورمالتي، بين الأيديولوجيا وبين الخروج منها وتحصين منجزاتها.
لقد كان الليبراليون هم من ثبتوا معادلة الحياة ضمن الصراع فلماذا يستغربون الآن من أن هنالك من يريد استغلال فرصة “الصراع الدائم” لطرح السؤال الاستعماري مجددا؟ لماذا يلوم من يملك قدرة فائقة على الحياة باسترخاء ضمن تجديد دائم لنظام سيطرته العنيفة أولئك الذين لا يستطيعون التعامل مع سؤال الصراع كسؤال مفتوح؟ أولئك الليبراليين المنفتحين المتسامحين مع العنف أكثر من أي شيء آخر، يريدون تحويل الكولنيالية إلى روتين غير أيديولوجي، يريدون تحويل حياة الفلسطيني وعالمه إلى توازن وضوابط بين مؤسسات. لماذا اتهام اليمين بالاستعلاء؟ هل يوجد أكبر من استعلاء تبخر الضحية من عقلك ووعيك وتركها كتفصيل بيروقراطي في أيدي عصابات تطلب منهم التقيد بتوجيهات قتل من أعدادك؟
يؤمن هؤلاء الليبراليين أنه يمكن تكوين دولة مؤسسات ديمقراطية طبيعية في ظل مشروع كولونيالي، بل هم يحرصون بكل شيء على هذه “الطبيعية” لكي يغسلوا بها أعمالهم اليومية، ولكي يغسلوا حتى أعمال اليمين، المهم ألا يشوش شيء شعورهم وشعور العالم كله بشرعية وبطبيعية الدولة اليهودية. ماذا قال الجندي المتظاهر الذي بادر لعريضة رفض الخدمة لجنود الاحتياط والذي قتل جيشه 200 فلسطيني منذ بداية السنة؟ “نريد أن نذهب للميدان ونحن متأكدون أن التوجيهات التي أعطيت لنا مرت بمسار صحيح”. تهمّه شرعية القتل، يهمه “الإجراء السليم” للقتل، حياة الفلسطيني هي إجراء. إن الـ200 فلسطينيا الذين قتلتهم إسرائيل منذ بداية السنة هم مجموعة من الإجراءات السليمة تحت التراب. من أجل ذلك خرج الليبراليون للتظاهر.
المصدر: عرب 48