في مواجهة العنف: حين تجتمع حيويّة الشباب مع تجربة الكبار

في مساء يوم الأربعاء الماضي، فوجئ أهالي مدينة فلسطينيّة في الجليل، ,هي كفر كنا – قانا الجليل، بانطلاق مئات الشباب في مسيرة نحو بيوت عائلتين، لممارسة الضغط وإنهاء خصام دمويّ دام بينهما سنوات. كان تسلّل إلى هذا الخصام عصابات الإجرام المنظّم، لكسب المال الحرام، ممّا وضع سكّان البلد كلّهم في حالة من الذعر وفقدان الأمن وتحسّس الخطر الدائم، سواء في أثناء المكوث في البيوت أو عند الخروج منها، وكذلك في كلّ مرافق الحياة. كان من المفترض أن تجتمع لجان الصلح المحلّيّة في ذلك المساء، بموجب اتّفاق مسبق، ولكن تمّ خرق هذا التفاهم من خلال إقدام مجهولين على إطلاق النار على بيوت ليس لأصحابها علاقة في كلّ هذا، فقط لأنّهم ينتمون إلى العائلتين. كان الهدف تخريب الاتّفاق، وإذكاء الصراع مجدّدًا. هذه عيّنة فقط من الواقع المرعب الّذي يعيشه فلسطينيّون الـ٤٨، منذ أن اكتشف النظام الصهيونيّ عدم قدرته على إخضاعهم، وإبقائهم مواطنين دون اليهود، رغم كلّ ما فعله من تجريدهم من أراضيهم، ومحاولات قطع علاقتهم مع هويّتهم وشعبهم.
مسيرة عفويّة في #كفر_كنا سبقت بيان المجلس المحليّ، في دعوة لوقف العنف والجرائم في البلدة.
للتفاصيل: https://t.co/5ryCjd5bHJ pic.twitter.com/wfTlLFU7ux
— موقع عرب 48 (@arab48website) March 5, 2025
كانت تلك المظاهرة الشبابيّة الشجاعة، تعبيرًا عن غضب شعبيّ عارم، وعن رغبة عامّة ملحّة في استعادة الأمن والأمان، ممّا شجّع جاهة الصلح المحلّيّة إلى استئناف دورها والقيام بحركة فوريّة انتهت بعقد الصلح فجر اليوم التالي. عمّ الفرح والارتياح أهالي المدينة، وشعروا بأنّ كابوسًا ثقيلًا أزيح عن صدورهم. ومنذ انتشار نجاح الحراك الشبابيّ الّذي التقى مع مبادرة لجنة الصلح، تمدّد صدى هذا الحراك والنجاح في كلّ البلدات الفلسطينيّة في الجليل والمثلّث والنقب، الّتي تعيش معظمها، إن لم تكن كلّها، محنة الإجرام المنظّم والفرديّ منذ عقدين، واستقبل كنموذج مشجّع وملهم… كطريق للخلاص.
ماذا نستخلص من هذا النموذج، وكيف نتقدّم؟
في البداية، كان البعيدون جغرافيًّا عن فلسطينيّ الـ٤٨، يستغربون انتشار العنف والإجرام في أوساط هذا الجزء من الشعب الفلسطينيّ، وخاصّة استمراره وتفاقه، حتّى بعد تكشّف أهوال حرب الإبادة الصهيونيّة في غزّة، والتطهير العرقيّ في الضفّة الغربيّة. ولكنّ اليوم بات بيّنًا للقاصي والداني، حجم تورّط مؤسّسة الأبرتهايد في تشجيع ورعاية هذا الشكل من الإبادة الاجتماعيّة البطيئة والتدريجيّة، وأنّ هذا الفعل يتناغم مع المخطّط الاستراتيجيّ العدوانيّ الّذي يستهدف كلّ الشعب الفلسطينيّ. وقد بات شائعًا أنّ هذه الرعاية الصهيونيّة الخبيثة، جعلت من الإجرام المنظّم أكثر تنظيمًا وتجذّرًا، وهو ما ينذر بخطر وجوديّ حقيقيّ. يكفي أن نعرف، على سبيل المثال، أنّ عائلة كاملة من مدينة اللدّ تضمّ مائة نفر، هاجروا من الوطن، خوفًا على حياتهم، ليس لأنّ هذه العائلة متورّطة في الجريمة، بل لأنّ فيها واحد أو اثنين أو ثلاثة متورّطين، فيصبح أيّ فرد من العائلة مستهدفًا، سواء كان طبيبًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو مدير مدرسة، أو شخصيّة اجتماعيّة أو وطنيّة. هكذا تجري عمليّة التخلّص من الفلسطينيّين، أو من خيرة خبراتهم. ولكنّ التخلّص من مليون ونصف هو وهم قاتل، ذلك أنّ الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر، لا ينفكّون يحاولون كلّ الطرق الممكنة للتصدّي لهذه الآفة ولهذه السياسات الشيطانيّة، وهم ليسوا عازمين على البقاء فحسب، بل أيضًا على المضيّ في تطوير تجربتهم السياسيّة والعلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة، والتغلّب على أعراض الوهن والشفاء من العاهات الّتي لحقت بسلوكيّات شرائح منهم، مثل الاستهلاكيّة المفرطة والإسراف والفردانيّة، من خلال استنهاض كلّ ما هو جميل في ثقافتهم وعاداتهم وتجربتهم الطويلة في مقارعة المؤسّسة الصهيونيّة، منذ نجاتهم من مخطّط التطهير العرقيّ.
بطبيعة الحال لن ننجح في كلّ هذا بدون فعل حقيقيّ، فعل جماعيّ، منظّم وإبداعيّ وفاعل ومؤثّر.
وأهمّ ما يمكن استنتاجه والتعلّم منه من نموذج كفر كنا، هو إتقان الجمع بين الطاقة الشبابيّة، وحكمة وتجربة الكبار، من شخصيّات اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة. ربّما حراك الشباب الكناويّ عفويّ وصادق، وربّما فاجئ هذا الحراك بعنفوانه لجنة الصلح، ولكنّه أثمر عن نتيجة مرجوّة ومنتظرة منذ مدّة طويلة، سالت فيها دماء وغاب الأمان. ولكن طالما أنّنا لسنا بصدد نهاية لمخطّطات التخريب والتدمير الاجتماعيّ والسياسيّ، ليس في كفر كنا فحسب، بل في كلّ المجتمع العربيّ الفلسطينيّ، فإنّه يجدر دراسة كيفيّة تطوير هذا الجمع العفويّ، بين حيويّة وعنفوان ووعي الشباب وتجربة الكبار، بصورة خلّاقة. وهذا يحتاج إلى آليّات جديدة، وأن يؤخذ الأمر بكامل الجدّيّة والمثابرة.
ويمكن أن يتكاتب هذا الحراك مع أعلنته "لجنة المتابعة العليا" مؤخّرًا عن إحياء وتفعيل اللجان الشعبيّة ونصب الخيم في كلّ مدينة وقرية، وهي خطّة مهمّة وضروريّة جدًّا، وتحتاج إلى تخطيط علميّ لكيفيّة جعل هذه الخيام ورشات تحشيد شعبيّ، خاصّة لطلائع الجيل الجديد، وورشات تثقيف على جذور العنف، خلفيّاته، أسباب إذكائه بصورة دائمة، وخطورة كلّ ذلك على مستقبل المجتمع برمّته، وخاصّة أجيال المستقبل، أبناؤنا وبناتنا.
لقد بقي هذا الجزء من مجتمعنا نسبيًّا، حتّى الآن، بعيدًا عن الخسارات الفادحة الّتي يوقعها المستعمر بأبناء شعبنا، في غزّة، والضفّة، واللاجئين، ولهذا من الأهمّيّة بمكان، أن يعرف كيف يحافظ على ذاته الجماعيّة والفرديّة، لذاته ولسلامة أبنائه وبناته، وليواصل تجسيد الأهمّيّة الاستراتيجيّة لعموم شعبنا في كلّ مكان، من خلال وجوده وبقائه في وطنه الّذي يسعى نظام الأبرتهايد بلا كلل لتهويده وإفراغه من أصحابه الأصليّين.
المصدر: عرب 48