في مواجهة خطّة اجتثاث الأمل
لا تريد إسرائيل أن تجعل الفلسطينيّين والعرب دونكوشيتات، يحاربون طواحين الهواء، وإخضاعهم ضمن مخطّط كيّ الوعي فحسب، بل أدنى من درجة الدينكوشوت، أي الامتناع عن مجرّد التفكير بالمقاومة حتّى لو كانت سلميّة. ببساطة، تريد أن تختزل مصيرهم في طريق الفناء الفيزيائيّ، أو الفناء الحضاريّ والإنسانيّ. في فلسطين كلّها، ينفّذ نظام الأبرتهايد الإباديّ حربًا إجراميّة مستمرّة غير مسبوقة؛ داخل قطاع غزّة، داخل الضفّة الغربيّة، وحربًا من نوع آخر ضدّ فلسطينيّي ال ٤٨. وفي لبنان نفّذت حربًا تدميريّة اضطرّت لتعليقها إلى حين، بسبب الأثمان الكبيرة الّتي دفعتها. وحتّى في سورية، وقبل أن تبدأ سلطتها الجديدة، راحت تدمّر معدّات عديمة الجدوى التابعة لجيش النظام السوريّ السابق، والمكدّسة منذ خمسين عامًا، وتتّجه نحو تحويلها إلى بلد منزوع السلاح، يظلّ مستباحًا لأمد طويل. والآن العين على إيران.
قد تتباين التكتيكات وبعض الآراء داخل محور الإبادة الغربيّ حول ما تنفّذه إسرائيل من جرائم واعتداءات، هذا المحور الّذي أوجد إسرائيل، في قلب الوطن العربيّ، ويواصل الذود عنها بلا تردّد أو تحفّظ، وتوفير الحماية لها من العقاب والمساءلة القانونيّة الدوليّة. وعندما يقوم المحور الإمبراطوريّ ذو النزعة الأحاديّة والعدوانيّة المتأصّلة، ببعض النقد، فليس إلّا من باب الحماية وتسهيل مهمّة النظام الصهيونيّ. ولكنّ الاستراتيجيّة واحدة والمنطلقات واحدة؛ استشراقيّة، فوقيّة، هيمنة، استغلال ونهب. أنّها الفرصة السانحة الّتي تستطيع فيها، كما تقدّر إسرائيل، بل ربّما تجزم، الإجهاز على ما تبقّى من حيويّة داخل الجسم العربيّ، وهي حيويّة نابعة من تحت، من الناس وليس من الأنظمة وأبواقها. ولكنّ هذا المستعمر لا يتعلّم من التجربة التاريخيّة، تاريخ هذه المنطقة، بأن لا إمكانيّة لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجيّ، أي إسكات الضحيّة، طالما بقي الظلم.
إنّ ما يخرج إسرائيل عن طورها هو قدرة أوساط واسعة من هذا الشعب على تخيّل مستقبل، غير ذلك الّذي يريده الصهاينة، والسعي إلى تنفيذه رغم كلّ ما يمارس بحقّه من قتل وتدمير. يرعبها أيضًا قدرة الشعوب العربيّة على تكرار ثوراتها وانتفاضاتها وإسقاط أنظمة على خلفيّة الفشل في بناء الدول والانتصار للحقّ الفلسطينيّ، الّذي هو حقّ عربيّ في الأصل.
ماذا بعد؟
يعيش الفلسطينيّون فصلًا داميًا وغير مسبوق في تاريخ وجودهم، وصراعهم مع المستعمر. كما أنّ الحالة العربيّة الرسميّة في أرذل أحوالها. ويحار المحلّلون والمراقبون والمثقّفون حول مآلات هذه الجولة الصراعيّة، وحول إمكانيّات النهوض الفلسطينيّ مجدّدًا، وما إذا كانت ستعني سكونًا أو خمودًا طويلًا في ظلّ حرب ممتدّة، لا تتوقّف، إلّا من خلال هدن محدودة، من خلال الدخول في فصل من فصول التسوية والتهدئة، أم سيجد الفلسطينيّون مسارات أخرى للعمل والاستنهاض. يأتي هذا التساؤل والتفكّر، الممزوج بالألم، بعد كلّ هذه الدماء والمعارك والمواجهات الممتدّة على مدار قرن، دون التوصّل على حسم لمعركة العدالة، وإنهاء رحلة العذاب.
لقد أطلقت عمليّة طوفان الأقصى، والّتي وصفت بعمليّة تحطيم أسوار السجن، الّتي نفّذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، أحلامًا كبيرة، وأنعشت آمالًا عريضة عند غالبيّة الفلسطينيّين وجماهير الوطن العربيّ، وكذلك أطلقت حركة تضامنيّة عالميّة غير مسبوقة، مع قضيّة فلسطين. صمدت المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة لأكثر من عام. وتحوّلت إسرائيل لدولة منبوذة ومارقة ومطلوبة للعدالة الدوليّة، ولأوّل مرّة في تاريخها.
لقد كشفت مجريات الأحداث خطأ حسابات من خطّطوا لطوفان الأقصى. ففي الوقت الّذي كشفت فيه عمليّة تحطيم أسوار السجن، عن إبداعات العقل الفلسطينيّ على مستوى التخطيط والتنفيذ، والّذي اعترف به خبراء استراتيجيّون إسرائيليّون وغربيّون، كما كشفت عن قدرة مذهلة على الشجاعة والصمود، كشفت في الوقت ذاته العجز عن فهم مستلزمات أساسيّة، وعن قراءة مكامن الوهن العربيّ، ونذالة الأنظمة العربيّة، وخطأ المراهنة على “وحدة الساحات”.
لم تكن في حساباتهم أنّ هذا الطوفان والردّ الإسرائيليّ تحديدًا وفر فرصة لغالبيّة الأنظمة العربيّة، وبما فيها طبقة سلطة أوسلو لتدمير حركة المقاومة. ولم تكن في حساباتهم أنّ الإمبراطوريّة الأميركيّة ومعها حلفاؤها الغربيّون، وأتباعها، سيعتبرون حرب إسرائيل حربهم. كما أنّهم لم يدركوا أنّ معركة فاصلة مع نظام الأبارتهايد لا يمكن أن تتحقّق في الوقت الّذي تعيش فيه مجتمعات “محور المقاومة والممانعة” انقسامًا عموديًّا وأفقيًّا، ناهيك عن الانقسام المرير في الساحة الفلسطينيّة.
كلّ ما ارتكبته إسرائيل حتّى الآن وما تمارسه يوميًّا، ابتداء من حرب الإبادة في غزّة، أو عدوانها على لبنان، واستيلائها مؤخّرًا على أراض سوريّة جديدة، لا يهدف إلى تنفيذ أطماع جغرافيّة وسياسيّة قديمة، فحسب، بل أيضًا لتحطيم الإرادة الفلسطينيّة والعربيّة، وإخضاع المنطقة كلّها تحت هيمنة المحور الإبادة الغربيّ، بحيث تظلّ إسرائيل رأس الحربة فيه.
في مواجهة ذلك كلّه، يرى الأحرار ضرورة في تعزيز خطاب الأمل، والثقة بالذات، وهذا يجب أن يرتبط بربط آمال الشعب الفلسطينيّ، بآمال الشعوب العربيّة بتغيير أنظمتها السلطويّة والمتوحّشة، وتشييد نهضتها، الديمقراطيّة والتنمويّة والسياسيّة والتحرّريّة، وبتأطير هذا النضال كنضال عالميّ تحرّري من حكم الأوباش والشركات. بعد كلّ هذا الإجرام في غزّة، وبعد تعطيل قدرات هذا الجزء العزيز من شعبنا، الّذين سيظلّون يلملمون جراحهم لسنوات طويلة، ينتظر أن تتوزّع أعباء مواصلة رفع راية العدالة بين تجمّعات الشعب الفلسطينيّ، خاصّة تلك الّتي لم يطلها نفس القدر من الإجرام. وهذا يتطلّب مراجعة جذريّة وتخطيطًا عقلانيًّا سليمًا.
آن الأوان لإعطاء البعد الشعبيّ والقانونيّ، المحلّيّ والعالميّ، القسط الأكبر في مسيرة التحرّر والعدالة. وقبل ذلك الإصلاح والبناء الداخليّ، الّذي يجدّد خطاب الأمل بصفته حافزًا للعمل والتخيّل والإبداع.
المصدر: عرب 48