في وثيقة “حماس” الأخيرة وروايتها
تحت عنوان “هذه روايتنا… لماذا طوفان الأقصى؟”، نشرت حركة حماس، أمس الأحد، موقفها على شكل مذكرة يصح أن يُطلق عليها وثيقة، لأن الموقف فيها متجاوز للطوفان وحرب الرد الوحشية عليه، إلى هوية حماس ورؤيتها للصراع وموقعها في الإقليم والنظام العالمي. وطبعا هما موقف ورؤية مشتقين من راهنية الحرب الجارية في إبادتها على أبناء شعبنا في غزة حتى اللحظة.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
في عام 2017 أصدرت حركة حماس وثيقة سياسية تضمنت تحولات وتعديلات على ميثاق تأسيس الحركة في عام 1988. من يعود لذلك الميثاق سيجد أن كاتبه “ليس إلا إمام مسجد يريد أن يحكم العالم” بتعبير أحد الأصدقاء، غير أن وثيقة عام 2017 التي أصدرتها الحركة بعد ما يقارب الثلاثة عقود على ميثاقها التأسيسي، تضمنت تعديلات كان لا بد للحركة منها، لناحية إعادة النظر في هوية الصراع، على أنه صراع مع الصهيونية كحركة استعمارية لا مع اليهودية كديانة، أي التخلي عن التعريف الديني للصراع من دون التخلي عن الدين بوصفه مرجعا للحركة في صراعها.
كما تضمنت وثيقة عام 2017 موقفا مختلفا مما كانت عليه الحركة تجاه منظمة التحرير، والتسليم بشرعية تمثيل هذه الأخيرة للشعب الفلسطيني، تسليما مشروطا طبعا. فضلا عن قطع الحركة لحبلها السري بجماعة الإخوان المسلمين وفك ارتباطها بأممية الجماعة لصالح وطنيتها الفلسطينية كحركة. عموما، أطلقت حماس على تلك التعديلات تسمية “وثيقة” وليس “ميثاق” في محاولة أرادت منها الحركة ألا تبدو فيها متنكرةً بتعديلات وثيقتها لميثاقها التأسيسي، أو في محاولة للتوفيق بينهما.
وثيقة من ثمن الطوفان
أما عن وثيقة حماس “روايتنا… لماذا طوفان الأقصى؟” الأخيرة، فقد جاءت على مستوى عال من الرزانة في صياغتها، ومسؤولة في موقفها، خصوصا في تأكيد الحركة على عدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني بمقاومة احتلاله، بلغة ترقى إلى مستوى عدالة قضيته بأفقها التحرري العالمي. وقد ثابرت الوثيقة على وضع عملية الطوفان في سياق تاريخية الصراع منذ مطلع القرن الماضي، ما بين مظلومية الشعب الفلسطيني وحقه بالعيش بكرامة على أرضه، وبين ظلم الاحتلال ووحشيته، وتحديدا في ما يتعلق بسياق قطاع غزة المحاصر منذ سنوات طويلة.
كما انعكس تأثير حراك أحرار شعوب العالم على لغة وثيقة الرواية ومضمونها، فالتأكيد على المشروع الصهيوني بوصفه نظام فصل عنصري، وقد تكررت هذه العبارة ثلاث مرات في الوثيقة، تماما مثل تأكيد الحركة على مقاومتها بوصفها نضالا تحرريا من الاستعمار، والإشارة لأبناء شعبنا الفلسطيني على أنهم أهل البلاد الأصليين. وكذلك التنبيه إلى أنه ليس من حق للاحتلال في الدفاع عن احتلاله، ما يبين أخذ الحركة بآراء مفكري ومثقفي الشعب الفلسطيني من خارج الحركة. إن تأكيد حركة حماس على تبنيها قيّم الحرية والعدالة بأفقها التحرري العالمي يُحسب لها من منطلق قناعات أثبتتها راهنية الحرب ووحشيتها، وليس من باب “ما يحب العالم سماعه”؛ فالمقاومة ليست في محل مجاملة أو إثارة إعجاب أحد، لطالما تقاتل بدم ولحم أبنائها نيابة عن شعبها وأمتها وما تبقى من العالم الحر.
وقد يسأل أحدهم عن وثيقة الرواية: لماذا الآن، وبعد مرور شهور على الطوفان وحرب الرد الجارية عليه؟ ما كان لحماس أن تصيغ موقفها بالشكل الذي صاغته في وثيقة روايتها الأخيرة لو طُلب منها ذلك في الأسبوع الأول من الطوفان والحرب. ولو فعلت ذلك، لاضطرت إلى تعديله غير مرة أثناء الحرب. وهناك ثلاثة أمور يجب فهم أثرها في مضمون الوثيقة وتوقيتها معا:
الأول: حمولة الحرب بكل وحشيتها على الحركة والقطاع خلال أكثر من مئة يوم ومجهولية نتائجها، في ظل دعم أميركي أعمى لإسرائيل، وأوروبي بين منحاز وشبه منحاز لرواية إسرائيل، وصمت عربي يتراوح ما بين العجز والتآمر على المقاومة، وحرج المحور الإيراني ما بين واجب الموقف وتفادي دفع كلفته بحرب إقليمية، لتكتشف غزة أنها ليست ساحة من ساحاته، رغم صدق وأصالة قوى في المحور بموقفها من إسرائيل ودعمها للشعب الفلسطيني بالنار والدم؛ فضلا عن أثر الثورات المضادة للربيع العربي على إرباك وخوف شعوبه من التحرك في بعض الدول العربية. فيما بدا الحراك الشعبي في كثير من عواصم الدول الأوربية أكثر كثافة وحرارة بما فيه الحراك الرافض للحرب والمنحاز لقضية الشعب الفلسطيني غير المسبوق في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها. وموقف دول حرة من الحرب في أميركا اللاتينية، وجنوب إفريقيا التي آثرت قيمها على مصالحها بالذهاب في مواجهة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، باعتبار ما يمارس في غزة هو إبادة جماعية، وهذا ما يفسر، بالمناسبة، تأكيد حماس في وثيقتها على مصطلح “نظام فصل عنصري” غير مرة، تأثرا بدور جنوب إفريقيا وموقفها في هذه الحرب.
والثاني: إن الوثيقة جاءت مُحملة برسائل على شكل خطاب موجه إلى ما بات يُعرف بحراك “اليوم التالي”، الذي تسعى إليه الولايات المتحدة مع قوى عالمية وإقليمية ومحلية كذلك، الأمر الذي بلا شك قد دفع حركة حماس إلى توضيح روايتها وموقفها على شكل وثيقة.
أما الأمر الثالث: فهو متصل باسترداد قيادات حركة حماس ومكتبها السياسي في الخارج لدورها في تفعيل خبرتها ونشاطها الدبلوماسيين في ظل الحرب، ما انعكس ذلك في لغة ومضمون وثيقة الرواية. إذ علينا التذكر بأن حماس في السنوات الأخيرة باتت حركة أكثر غزية في بُنيتها وتنظيمها وقرارها على المستويين السياسي والعسكري، ومن هنا وجب التنبيه إلى ضرورة أن تطابق لغة خطابات الناطق العسكري للمقاومة في غزة للغة الحركة في وثيقتها، إذ ما تزال هوة ما بينهما ملحوظة إلى يومنا.
على هامشها
إن وثيقة رواية حماس على رغم وجاهتها وأهميتها في التوقيت واللغة والمضمون، خصوصا أنها لم تترك سؤالا إلا وقد حاولت الإجابة عنه؛ ومع ذلك، فقد غلب عليها الطابع التبريري أو ربما هو التفسير من يجعل المُفسر في موقع التبرير. فالطبيعي أن تضطر الحركة أن تدافع بوجه العدوان عن نفسها وأهلها، ولكنها ليست مضطرة لفعل ذلك أمام كل سائليها. كما لم توضح الحركة في وثيقة روايتها القيمة الإستراتيجية لعملية الطوفان رغم حرصها على تثبيت العملية في سياق تاريخية الصراع بين مُحتل وواقع الاحتلال، إلا أن ذلك لا يفسر وحده ما إذا كان للعملية قيمة إستراتيجية في قرار فعلها، على الأقل بنظر دافعي ثمنها.
كما حاولت وثيقة الرواية في معرض شرحها لتفاصيل عملية الطوفان، أن تفند أكاذيب إسرائيل، خصوصا في ما يتعلق بقتل المدنيين الإسرائيليين وادعاء إسرائيل بقيام القسام بقتل الأطفال واغتصاب نساء. وقد فندت الوثيقة ذلك بمهنية وموثوقية عالية ومقنعة، مُستعينة بتقارير وتحقيقات أجريت مؤخرا، في معظمها إسرائيلية، ما كان لحركة حماس لولاها أن تفند ادعاءات إسرائيل لو أنها قررت أن تروي روايتها في الأسبوع الأول على الطوفان وحرب الرد عليه.
ومع ذلك، فقد أقامت حماس في وثيقتها تمييزا تجاه إسرائيل ما بين العسكري والمدني. وهو تمييز تعرف حركة حماس بأنه قد يصعب إقامته في فلسطين، في ظل طبيعة بنية الاحتلال بوصفه استعمارا استيطانيا، فالمستوطن دائما هو مدني عادة، لكنه يحمل سلاحا ومستعدا لقتل الفلسطيني في أي لحظة، فأين هو بالنسبة لحركة حماس من تصنيفها؟ ما نقصده أن الحركة في وثيقة روايتها قد أقامت تفريقا يصعب على مقاومتها الالتزام به.
في الأخير، إن “هذه روايتنا… لماذا طوفان الأقصى؟” تظل وثيقة مهمة ومسؤولة في لغتها ومضمونها عن المقاومة وشعبها، في ظل الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على أبناء شعبنا في قطاع غزة ومدن وقرى الضفة الغربية، والذي تؤكد الوثيقة على حقه في التحرر وتقرير مصيره أسوة بالشعوب الحرة، بما يضمن عيشه على أرضه بحرية وكرامة وسلام.
المصدر: عرب 48