“قالوا عُروبيّون” لواصل طه.. صحوة الوعي والمشيئة
واصل طه في هذا الديوان يؤسّس لمشروع عقديّ ينهض على قائمتين اثنتين لا تكونان على انفصال: (1) الانتقال من عروبة موهوبة إلى عروبيّة مكتسبة. العروبة شعوب وقبائل والعروبيّة أمّة وقومٌ، العروبة دول والعروبيّة وطن، العروبة حالة ذريّة والعروبيّة كلّانية جشتالتيّة
غلاف ديوان “قالوا عروبيون”
هذه مقدمة لديوان شعر سيصدر قريبا للنائب السابق، واصل طه، من بلدة كفر كنا؛ كتبها: إبراهيم طه من جامعة حيفا.
أمّا قبل، قرأت الديوان كلّه مرّتين من الغلاف إلى الغلاف. بكثير من الترقّب وقليل من الرقابة قرأتُهُ أوّل مرّة. وبسطوة ناقد رقيب حسيب قرأته كرّة ثانية قصيدة قصيدة بيتًا فبيتًا. وما كانت لترويني المرّتين. ما كانت لترويني في المرّتين لكنّها كانت لتُعديني بشيء من التوثّب والتحفّز والحنين. عيار الإبداع قدرته على العدوى مثلما قال تولستوي. على كلّ حال، لا أكتب في هذا التقديم نقدًا مشفوعًا بالتفاصيل. تكفيني خريطة مقترحة لنقد مأمول محميّة بالعموميّات أرسّمها بالعناوين العريضة. تحميني العناوين العريضة من شيطنة التفاصيل وشقاوتها، وتعفيني من صلف المصطلح وفحولته. ولا يشفع لي في هذا الكلام إلا أنّه تقديم. والتقديم ليس النقد.
وبعد، “قالوا عُروبيّون”. العروبيّة في صدر الديوان. وما كانت لتحظى بهذا التكريم لولا أنّها عصا موسى تلقف ما يسبقها وما يلحقها من عروبة وأصالة. ولولا أنها الأثفية الثالثة، في توليفة مصدريّة ثلاثيّة، بغيرها لا يقعد قِدرٌ على موقد ولا يثبت. العروبيّة عماد الديوان، عامود البيت، هي الواسط الذي يرفع بيتًا لا يرتفع إلا به.. والكلام يحتاج إلى بيان وتبيين. يوظّف واصل طه تقنيّتين اثنتين لتضخيم العمق العروبيّ وتفخيمه قبل الدخول إلى تضاعيف الديوان نفسها: هما التصدير في العنونة، والتوريط في المصدر الصناعيّ. وكأنّ طه نفسه يحرص بهاتين التقنيّتين على أن يهيّئ القارئ قبلًا ويرشّده إلى نمط قرائيّ وتأويليّ مُرسّم ترسيمًا.
المكتوب يُقرأ من عنوانه. العنونة تصدير وتكثيف، يضع فيها واصل طه أعظم رسالته في أقلّ لفظه. العنونة موقف والتسمية حياد. إذا كانت التسمية حالة عفويّة فإنّ العنونة قصدٌ بالضرورة لا بالمشيئة. ولا يكون الولوج في الديوان إلا من أضيق الأبواب وأوسعها. العنونة ضيق وسعة، ضيق في اللفظ وسعة في المعاني. وهذان ضدّان لا يجتمعان اجتماعًا حميدًا إلا في الإيجاز. والعرب إذا قسّموا الكلام إلى ثلاثة أضربٍ، الإيجاز والمساواة والإطناب، جعلوا الإيجاز أبلغه فقالوا البلاغة الإيجاز. ولعلّ العنوان هو أبلغ مثال على الإيجاز وهو من جوامع الكَلِم. ما يعني أنّ واصل طه جمع المعاني الكثيرة والعميقة والمركّبة وجعلها في اللفظ القليل. العنونة فعل انتقاء محسوب. ولأنها كذلك فهي موقف صريح. اختار واصل طه قصيدته “قالوا عروبيّون” لتكون عنوانًا للديوان كلّه. هكذا صارت العنونة مضاعفة على مستوى الجزء وعلى مستوى الكلّ. ولمّا كانت العنونة فعلًا ارتداديًّا تُثبّت بأثر رجعيّ، بعد الانتهاء من المتن، فلا بدّ إذًا أن تمثّل الديوان كلّه وتنطق من عمق حنجرته. واصل طه متشيّع، يعلّق تشيّعه في صدر الديوان. وصدر الديوان عنوانه. والعنوان مجاهرة بالعروبيّة وبعض المجاهرة مباهاة. “قالوا عُرُوبيّون” هو عنوان الديوان وهو عتبته، منها يدخلون ومنها يخرجون.
لا تصير العروبيّة حالة توريط إلا بقوّة المصدر الصناعيّ فيها. العروبة مصدر أصليّ أوّل والعروبيّة مصدر ثانٍ. العروبيّة مصدر صناعيّ ينسل من العروبة منها يُصنع ويشبّ. يشبّ ولا يشيب. والمصدر الصناعيّ، على عموم الأمر وإطلاقه، منطق تأسيس وتكريس. المصدر الأصليّ الأوّل يعني الشيء نفسه. أمّا المصدر الصناعيّ فيعني مجموع الصفات الملحقة بالشيء أو الحدث. العروبيّة حالة صرفيّة تحمل عن المصدر الأصليّ حمولة إضافيّة تعظمها، وتؤكّدها، وتصدّرها إلى مقدّمة اللفظ والوعي. العروبيّة مصدر صناعيّ يورّط اللفظ نفسه ويلزمه بمعانٍ ودلالات مثلما يورّط طرفي الخطاب. العروبيّة إذًا هي نداء ملحاح إلى التخلّق بكلّ حمولة العروبة من معانٍ وقيم وأخلاقيّات. العروبة في جوهرها حياد والعروبيّة موقف والتزام بموقف. العروبة حالة توارث والعروبيّة حالة وعي. والوعي الذي يتولّد من المصدر الصناعيّ يُفضي إلى نسقيّة. واصل طه لا يكتفي بالعروبة بل يصنع منها حالة محمّلة بصفات وتداعيات وأخلاقيّات يصنع منها نسقًا عقديًّا. إذا كانت العروبيّةُ هُويّةً مصدرًا صناعيًا مِن “هو”، فقد صارت عند الشاعر “أنويّة” مصدرًا صناعيًا مِن “أنا”. وأنا عروبيّ، يصرخ أبو عمّار من قِحف رأسه، العروبيّة حقيقة كياني الكلّيّ الذي لا يتبعّض، وهي حقيقة وجودي المطلق الذي لا يتأتئ ولا يطأطئ.
أمّا إصرار الشاعر على أن يسبق القولُ العروبيّة فيحتاج إلى شرح. ولماذا لا ينحو الشاعر منحى التجرّد والتفرّد في العنونة؟ لماذا لم تكن “عروبيّون” هكذا وحدها مجرّدة بغير سوابق أو عوائق أو لواحق؟ من يقرأ القرآن الكريم ويلاحق قاموسه وبلاغته يجد الفعل الجمعيّ “قالوا” ينهض على معنيين اثنين هما: جماعةٌ إذا “قالوا” كان البعد عنهم أليق وأحسن. وجماعةٌ إذا “قالوا” صار القرب منهم حقًّا واجبًا. القول في كلّ حالاته هو فعل خطابيّ حواريّ. والحواريّة فعل مشاركة. والمشاركة تفعيل وتفاعل. وكأنّ هناك سجالًا، أو بعضًا من لوازمه وظلاله، بين الشاعر وبين من “قالوا”. هذا السجال يتحصّل بصيغة تقليديّة مأنوسة في القرآن الكريم “قالوا… قلْ”. أمّا في الديوان فقد عُدّلت إلى “قالوا… قلتُ”. وهذا التركيب بهذا الترتيب يوحي بأنّ الشاعر لا يكتفي بما قالوا فيجد نفسه مدفوعًا إلى “قلتُ”. كأنه يقول لمن قالوا، واكتفوا بما قالوا، العروبيّة فعلٌ، هي هويّة، هي أنويّة، هي الوجود. لا يكتفي بما “قالوا” لأنّ في كلامهم نقصًا يحتمل التصويب أو هو يحتمل الإبانة والتوكيد والإفاضة. إذا “قالوا عروبيّون” ولم يُتبعوا قولهم بمزيد من الكلام كأنّهم لم يقولوا. وهكذا لا بدّ للشاعر أن يقول هو ما لم يقولوه هم. هذه الصياغة “قالوا… قلت” تنقل النصّ من حالة القول إلى حالة الفعل. قولهم هم لغة وقوله هو فعل. بهذه التوليفة بين القول والفعل تتمظهر أصالة واصل طه في هذا الديوان. ولعلّ هذا هو مردّ الإصرار على لفظة “قالوا”. إذًا هذه الصياغة “قالوا… قلت” هي لتحصيل المقارنة بين قولهم هم وقوله هو. وهذه ليست مقارنة، واقفة على الحياد، هذه مفاضلة. والمفاضلة موقف. ما يقوله هو إتمام لما أنقصوه هم. والشيء في قيمته لا يبرز إلّا بمقارنته أو مفاضلته بمثله. فالضدّ لا يُعرف إلّا بضدّه. يبدو لي أنّ هذا الفهم كان من بين النوايا التي جعلت واصل طه بفطرته السليمة يعنون الديوان كلّه بعنوان هذه القصيدة حصرًا.. والله أعرف بالنوايا وأعلم.
لكنْ، ما هذه العروبيّة التي يصدّرها واصل طه ويرفعها مقامًا محمودًا بالتصدير والتوريط؟ ما هذه العروبيّة التي يُرقّيها من حالة هويّة إلى حالة أنويّة؟ عندما تصير العروبيّة هُويّة يباهي بها الأمم ويتغاوى إلى حدّ النرجسيّة تصير العروبيّة قصيدة فخرٍ على أصولها تسير وبها تلتزم وتكتفي. ولماذا لا يكتفي واصل طه بالعروبة مصدرًا أصليًّا؟ أقول ما قلتُه في غير موضع: العروبة هي انتماء تراكميّ إلى قوم العرب. وهو انتماء موهوب يأتي بالسهل. وما يأتي بالسهل قد يهون فراقه خصوصًا في هذا الزمن الكالح مثلما يوحي واصل طه في ديوانه غيرَ مرّة. العروبيّة انحياز محسوب إلى العروبة، لا تُكتسب إلا بالخيار والجهد وشقّ الأنفس. العروبيّة إصرار بالمشيئة على إرث العرب. من يمعن في قراءة الديوان يدرك أنّ العلاقة الواصلة بين واصل طه والعروبيّة هي عشق صوفيّ يدوّخ الشاعر ويتركه في حالة هُيام. العروبيّة صيانة مستمرّة للعروبة. وإن كانت العروبة لا تصُان بالعروبيّة ولا تُرمّم فهي هباءٌ خواء لا معنى لها ولا قيمة. إذا ارتكست العروبيّة هلهلت العروبة من أصلها وانتكست. العروبيّة عند واصل طه أكبر من أيّ مباهاة فراغيّة بإرث العرب وما قدّمه العرب للإنسانيّة. هي إصرار على وصل الجهد بالجهد. العروبيّة عنده فعل تأصيل للعروبة بمزيد من العطاء والاجتهاد في كلّ مجالات المعرفة مثلما فعل آباؤنا وأجدادنا من العرب العاربة والمستعربة.
تأصيل العروبة بمزيد من الاجتهاد هو أوج الأصالة وأبلغ معانيها. واصل طه بحسّه العقديّ العميق يدرك الفرق بين الأصل والتأصيل. إذا كان الأصل حاصلًا في عمق العروبة، هناك في مكامنها ومقارّها التاريخيّة، فإنّ التأصيل تكريسٌ للتاريخ وإمعانٌ في تعميقه ودعوةٌ للإتيان بمثله. بهذا المفهوم يصرّ واصل طه على التأصيل. فالأصالة عنده ليست بالضرورة فعلا ماضويًّا، ولا ينبغي لها أن تكون. الأصالة عنده لا تعني الركون إلى موروث غبر واندثر ولا تعني البكاء على ما قد مضى وانقضى. وهكذا صار للأصالة وجهين: وجهٌ في اللغة ووجهٌ في الكلام، وجهٌ في المعاجم ووجهٌ في التداول. وهي في الديوان تتّكئ على هذين الوجهين كليهما. إذا كانت الأصالة، بالمعنى المعياريّ المعجميّ، لفظًا محايدًا تعني الأصل، فإنّها بالتداول اليوميّ اكتسبت معاني ظرفيّة سياقيّة جديدة. بالتداول الاجتهاديّ يريدها واصل طه أن تكون أنت الأصل في فعلك. أنت بفعلك وإنجازاتك تحقّق طبيعتك وهويّتك وحقيقتك لا بفعل آبائك وأجدادك الأوّلين. هذا ما يروّج له واصل طه في حنايا الديوان كلّه بحياء الإشارة وذكائها. وهكذا تصير الأصالة حالة ديمومة إذا اعتمدت الأمّة على ذاتها بوصفها أصل الفعل ومصدره الأوّل والأوحد. تصير الأصالة تأصيلًا إذا لم ننتحل ولم ننقل أو نستعِر أو نستجلب فعلًا منجزًا معلّبًا. التأصيل التزامٌ بمعاني الجدّة والجدّيّة والإبداع. لكنْ، إذا كانت “كلّ الحريّة المتاحة في العالم العربيّ لا تكفي لكتابة رواية واحدة”، مثلما قال يوسف إدريس، فكيف نحصّل الأصالة إذًا؟! العروبة في هذا الزمن الأغبر هي حالة ارتكاس. حين ينظر واصل طه إلى يمينه وشماله يرى العرب في اتِّضاع حالهم وهوان أمرهم قد نهكهم الاستعمار والاقتتال، فكيف لا تتوق نفسه إلى عروبيّة تنفض عنها غبار الترخّص وتُحييها بالجهاد؟! والجهاد بالاجتهاد وليس جهاد “همج باسم الدين قد صبغوا اللحى”. والجهاد هو الأصالة التي نعنيها.
الأدب بصفة عامّة، والشعر بصفة خاصّة، هو حالة حواريّة كبرى، مثلما يقول ميخائيل باختين، تتحاور النصوص اللاحقة مع السابقة، ينسل بعضها من بعض، فتتحصّل لوحة فسيفساء عظمى يدخل بعضها البعض، مثلما تقول جوليا كريستيفا. أليس “النصّ” الأدبيّ نسيجًا من المقتبسات والشفرات والصياغات والبنى التي ضاع أصلها مثلما قال رولان بارث؟ واصل طه إذًا لا يكتب من حالة صفريّة، لا على مستوى المادّة ولا على مستوى الأسلوب، هذه حقيقة. وشعره يدخل من الأبواب المشرعة المفتوحة نفسها التي اقتحم منها بعض شعرائنا الفلسطينيّين مسألة الأصالة والعروبة. منهم أحمد الحاجّ وسميح القاسم، خصوصًا في معلّقة بغداد، وفهد أبو خضرة ويحيى عطا الله.. والقائمة طويلة. هذا كلّه صحيح، لكنّ واصل طه حين يؤصّل الأصالة والعروبة يصرّ على أن يسوّيها أصلًا ومصدرًا أوّل في حاضر الأمّة. قصدي أنه يجعلها من قناعة الأمّة نفسها بضرورة الفعل ومن مشيئتها نفسها في تقرير المصير. إصراره هذا هو إمعان في أدلجة القصيدة. وهذه مسألة يطول شرحها، يطول ويتشعّب في شعاب.
لو ظلّ الديوان حالة تأريخ وتوثيق وتدوين لما قدّم الشاعر شيئًا لم يسبقه إليه السابقون والآخرون. ديوان واصل طه فعل حضّ وتحريض وتهييج واستفزاز للهمم. إذا كانت العروبة في ذاتها نصًّا ثوريًّا فالعروبيّة نصّ تثويريّ في أرقى معانيه. العروبيّة عند واصل طه تخاطب العقول التي في الرؤوس. قال مالك بن نبي: “أخرجوا المستعمر من رؤوسكم يخرجْ من أرضكم”. واصل طه في هذا الديوان يؤسّس لمشروع عقديّ ينهض على قائمتين اثنتين لا تكونان على انفصال: (1) الانتقال من عروبة موهوبة إلى عروبيّة مكتسبة. العروبة شعوب وقبائل والعروبيّة أمّة وقومٌ، العروبة دول والعروبيّة وطن، العروبة حالة ذريّة والعروبيّة كلّانية جشتالتيّة. (2) الانتقال بالأصالة من الأصل إلى التأصيل، من حالة تاريخيّة إلى حالة ديمومة، من حالة انقضاء، يحسن الوقوف على أطلالها، إلى حالة بقاء يحسن فيها الفعل أقام ودام. من حالة نقل إلى حالة إبداع. العروبيّة في ديوان واصل طه هي منطق تمكين وهي حصانة مستمرّة للعروبة والأصالة. إذا كانت العروبة، مثل الأصالة، حالة نقليّة فإنّ العروبيّة حالة عقليّة، لا تتأدّى إلّا بقرار محسوب مسحوب من عمق الوعي والمشيئة. وهكذا تصير العروبيّة صحوة الوعي والمشيئة.
الديوان من الغلاف إلى الغلاف عروبيّة تأصيليّة بمادّته الأولى، بانحيازه الساطع إليها واحتضانه لأسلوب السلف من أهل الشعر والبلاغة والأدب. في انتظار الناقد شغل كثير، شغلٌ كثير ومركّب وماتع ينتظر الناقد الصبور. هذه خريطة هيكليّة مقترحة لنقد مأمول. وهي ثلاثيّة مضاعفة، ثلاث في ثلاث: (1) مادّة الشعر الأولى: هي التاريخ والجغرافيا والإنسان. في هذه المادّة يراجع واصل طه عروبته وإرثه الحضاريّ ويجعلها أساسًا لموقف. (2) الموقف من المادّة: في هذه المرحلة يتحرّى واصل طه عروبيّته في التاريخ والجغرافيا والانسان. يذكّر بالتاريخ بعد تدوينه وينحاز إليه، يخرّط الوطن العربيّ كلّه ويجعل التخريط حماية وصيانة لتخوم الوطن العروبيّ، ويستذكر سير الرجال الأبطال الذين أصّلوا مجد العرب ويجعلهم منارة. (3) الحاضنة الجماليّة: التي تلفّ ما تقدّم بأسلوب عروبيّ يعتمد بحور الخليل واللغة الأصيلة والبلاغة بجرسها ونبرها الأصلانيّ. أتكون العروبيّة فكرًا منفصمًا عن حاضنته الجماليّة أصلًا؟ حين قرأت ديوان واصل طه قفز أبو الفرات محمّد مهدي الجواهريّ بقوّة إلى مقدّمة الوعي، قفز وقفزت معه جملته الشهيرة “ليس بهذا ينهدّ عمود الشعر العربيّ” حين سئل عن بواكير الشعر العربيّ الحديث. لمّا كان واصل طه لا يتحرّف، لا يميل ولا يملّ، في عروبيّته، كان لا بدّ للنبر في الديوان أن يرتفع في مرافعات حماسيّة ارتجاجيّة صداها صاخب. وهكذا كان لا بدّ لهذه العروبيّة التأصيليّة أن تكتظّ بنبر أبويّ يحيلنا إلى المتنبّي والجواهريّ بقوّة. غير أنّ الشاعر يشرد في إقحامه لبعض المفردات الشاردة من حين إلى حين. شعر واصل طه ليس تفاوضيًّا في منحاه ووجهته العامّة لأنه ينهض أساسًا على جماليّات التقابل بين الهدم والبناء. يهدم مقابحنا، وما أكثرها، ويبني على آثارها أخلاقًا عروبيّة تنجينا من حالة التيه والخراب. وهكذا لن تجد في الديوان نُواحًا مهموسًا إلا في لحظات وجدانيّة يرقّ فيها ويلين في حنينه وغزليّاته. يتأنّث ويتحلّل من صرامة الفحولة الأبويّة ويذيع سرّه على الملأ ولا ينتظر الليل حتى يُضويه خلافًا لما أباحه أبو فراس الحمدانيّ. لكنّه في تشبّبه، حتى في تشبّبه، ظلّ واصل طه يصون القديم ويرعى الرميم في حاضرة العروبة والعرب.
المصدر: عرب 48