قرية بيت عَفّا: قبل السبع أيام
ثمة روايات متضارب في شأن احتلال قرية بيت عفا، ويبدو أن القرية تنقلت بين أيدي المتحاربين مرتين على الأقل في أثناء الحرب…
جانب من قرية بيت عفا (موقع فلسطين في الذاكرة)
(هذه المادة هي الثانية عشر ضمن سلسلة قرى قضاء غزة المهجرة التي حُولت لمستوطنات ما يُعرف بغلاف غزة التي ننشرها تباعًا)…
من وحي المقام
ظلَّ أهالي بيت عَفّا على اعتقادهم، بأن ذلك القبر الواقع شرقي قريتهم تحيطه أشجار الدوم، يعود إلى النبي صالح، فأقاموا عليه مقامًا، وجعلوا عليه الحاج إسماعيل أبو الكاسات قيّمًا، الذي ظلّ يُنشد أوراده من عنده مع إيقاع طن طبله ورن كاساته مساء كل خميس من ليل الجمعة. والمعروف، بأن مقام النبي صالح موقعه في مدينة الرملة، حيث كان يُقام له موسم خاص في الجمعة الحامية بعد جمعة عيد الفصح في كل عام، كما وُجد ما لا يقل عن سبعة مقامات أخرى في فلسطين نسبت للنبي صالح. ومع ذلك لم يحد العَفيون عن حقهم بصالح النبي، بعد أن زرع شيخٌ مصري الفكرة برؤوسهم، وفد إلى القرية، ونظر في القبر المحاط بوادٍ رمله أصفر، فقال إن القبر في الواد الأصفر هو ضريح النبي صالح، وهكذا كان.
في مقابلة مع الحاج محمد عبد الله، وشاح عن قريته على موقع فلسطين في الذاكرة، يقول إن الجيش المصري حين دخل قرية بيت عَفّا عام النكبة، أبدى بعض عناصره بالمقام عناية خاصة، إلى حد كانوا يذبحون عنده عجلًا صباح كل يوم جمعة، وتفريق لحم العجل على الناس عن روح النبي صالح. ويُقسم الحاج صالح، وشاح في مقابلة أخرى على نفس الموقع، بأن الصهاينة لما بدأوا بقصف قرية بين عَفّا من مستعمراتهم في حرب النكبة، كانت قذائفهم على القرية تنفجر إلا تلك التي كانت تسقط في محيط المقام “ما كانت تثور” يقول الحاج صالح بلكنته الريفية – العَفيّة.
يظلُّ لمقام النبي صالح أهميته في القرية ليس لحظوته الروحية – الاجتماعية في قلوب أهلها فحسب، بل لأن تسمية القرية متصلة به كذلك، فـ “بيت عَفّا” اسم مشتق بحسب صاحب موسوعة غزة عبر التاريخ إبراهيم سكيك من لفظة سريانية قديمة تعني “الدفن” ويؤيد ذلك برأيه وجود مقام النبي صالح فيها منذ القدم. لا تكاد قرية في ريف غزة، ولا في كل فلسطين تخلو من مدافن لأولياء عندها، لا بل بعض القرى قد اشتُقت أسماؤها من أسماء المقامات فيها، بالتالي ليس من رابط يدعّم اشتقاق اسم بيت عَفّا من قبر النبي صالح لمجرد أنه مدفن قديم فيها. ونحن نميل إلى الرأي الذي يرجح اشتقاق اسم القرية من أصلها السرياني “عَفّا” الذي يعني الزهر أو الإزهار، لتعني بيت عَفّا “البيت المُزهر”، خصوصًا وأن أهالي بيب عَفّا ظلوا يجمعون على أن قريتهم كانت حتى أواسط القرن التاسع عشر خربة مُهملة إلى أن جرى بعثها قرية عامرة بأهلها العفيّين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
إلى الشمال – الشرقي من غزة المدينة على بعد نحو 36 كيلومترا، وشمالي غرب الفالوجة بنحو خمسة كيلومترات، تقع قرية بيت عَفّا على أرضٍ مبسوطةٍ سهلية لا حجر فيها ولا حصى حتى، للحد الذي إذا ما انكسر مسمار سِكة الحرّاث لا يجد حجرًا يدقه به يقول الحاج محمد عبد الله وشاح في مقابلته عن طوبوغرافية قريته التي كانت تنقسم تربتها بين الحَمار والصفار. فأرض “القاعة” الشهيرة بخصوبتها كانت تربتها حمراء مثل كبد الشنّار، بينما أرض “السرج” تميل للصُفرا مثل جوانح الدبور.
بينما القرية في حدودها المحيطة بها، كانت تحدها من شمالها قرى السوافير وأقربها السوافير الغربية على بعد 3 كيلومترات، وقرية عبدس إلى الشمال الغربي على بعد أقل من 2 كيلومتر. بينما من الجنوب كانت تحدها عراق سويدان على بعد 2 كيلومترا، ومن الشرق كل من قريتي كرتيا وحتا على بعد 3 و4 كيلومترات، فيما الناحية الغربية كانت قرية جولس العربية على بعد 4 كيلومترات، وأقرب من هذا الأخيرة لبيت عَفّا كانت مستعمرة “نقبا” اليهودية التي قامت منذ مطلع أواخر ثلاثينات القرن الماضي على أراضِ تعود ملكيتها لقرية بيت عَفّا نفسها، باعها أهلها لأحد السماسرة العرب دون علمهم بهويته، والذي قام بتسريبها لليهود.
كان أشهر وادٍ مجاور لبيت عَفّا، هو “وادي الغويط” والذي تعني تسميته الوادي العميق، إذ وصل عمقه في بعض مناطقه إلى نحو 30 مترا، بينما تباين عرضه بين 6 و10 أمتار، يحيط الغويط بالقرية قادمًا من جنوبها نحو ناحيتها الشرقية، ثم لينداح ملتفًا إلى شمالها، ومن هناك باتجاه البحر غربًا. أحاط الغويط ببيت عَفّا ليشكل حدًّا طبيعيًا للقرية وحدود أراضيها التي بلغت مساحتها نحو 5800 دونم.
لم يتجاوز عدد سكان القرية عام النكبة الـ 800 نسمة، وكان معظم العَفّيين ينحدرون من عائلتين أساسيتين في القرية، أكبرها عائلة “وشاح” ثم عائلة “النجار”. اعتبرت عائلة وشاح الحمولة المؤسسة في القرية، وقد امتدت أحياؤها على كافة نواحي القرية، باستثناء الناحية الشمالية حيث كانت تقيم عائلة النجار. كان مشرب ماء كل أهالي القرية من بئر البلد الوحيدة والكفرية (الأثرية) في القرية محفورة من زمن الرومان، ومما يذكره الحاج صالح، وشاح في مقابلته أن عمق البئر كان يتجاوز الـ 70 مترًا في الأرض يجرُ الماء منها جملٌ بجلده. وذلك لأن القفف التي كانت تستخدم دلاءً في نشل الماء مصنوعة من جلد الجمل.
وحتى ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن في بيت عَفّا جامع للصلاة فيه، إلى أن تبرع حسان محمود، وشاح بقطعة أرض تقع في شمالي القرية ليهم أهلها ببناء أول جامع فيها، بلا قبة ولا مئذنة. وقبل ذلك، لم يكن العَفّيون يقيمون الصلاة جماعة إلا يوم الجمعة على جرون (بيادر) القرية أو بالذهاب إلى قرية عراق سويدان لأداء صلاة الجمعة في جامعها. وكذلك لم تكن في القرية مدرسة، ولمّا أقاموها في سنة 1946، لم يتسن لأهالي القرية تدشينها حيث قطعت أحداث نكبة عام 48 الطريق على استكمال بنائها فـ”استحكمنا فيها” يقول الحاج صالح، أي استخدمها المصريون في حرب النكبة استحكامًا عسكريًا، فجدرانها كانت تقف بلا سقف. وقلة من أولاد القرية من التحقوا بالتعليم النظامي قبل النكبة في قرى كرتيا وعراق سويدان المجاورتين، وكذلك الفالوجة التي كانت بمثابة بلدة أقرب إلى المدينة بالنسبة لأهالي بيت عفّا حيث اعتادوا شراء حوائجهم منها وبيع بضائعهم فيها.
كانت بيت عَفّا قرية متواضعة، حتى بيوتها ظلت مبنية من الطين إلى عام تهجير أهلها، باستثناء بعض البيوت التي بناها أصحابها من الحجر، وهي معدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، تعود ملكيتها لبعض المقتدرين مثل مخاتير القرية وبعض ملّاكها، ليُحيل بناء البيوت ما بين الطين والحجر إلى فوارق اجتماعية متصلة بيسر الحال والمعاش.
احتلال القرية
ثمة روايات متضارب في شأن احتلال قرية بيت عفا، ويبدو أن القرية تنقلت بين أيدي المتحاربين مرتين على الأقل في أثناء الحرب. ويقول المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إنها احتلت في 14-15 تموز يوليو 1948، خلال الفترة المعروفة بـ(الأيام العشرة) ما بين هدنتي الحرب. واستنادًا إلى موريس، فإن وحدات تابعة للواء غفعاتي استولت على القرية في أثناء المرحلة الثانية من عملية هجومية، وسع اللواء بعدها رقعة انتشاره إلى الجنوب حتى مشارف النقب وهذا يطابق ما جاء في تقرير لصحيفة (نيورك تايمز) وفحواه أن القرية احتلت في 15 تموز يوليو.
غير أن كتاب (تاريخ حرب الاستقلال) يورد أن القرية كانت في يد الإسرائيليين في 9 تموز يوليو أي بينما كانت الهدنة الأولى تشارف على الانتهاء. وكانت تحتلها فصيلة من الكتيبة الثانية في لواء غفعاتي. لكن الجيش المصري احتلها في ذلك التاريخ، بعد أن مارس (ضغوطا استمرت حتى الصباح) وجاء في رواية الهاغاناه أن الكتيبة الرابعة في اللواء المذكور حاولت احتلال القرية من جديد بعد ذلك بأسبوع أي في 17- 18 تموز يوليو لكنها أخفقت على الرغم من أنها كانت معززة بإنزال بحري. وتضيف الرواية (أن المصريين كانوا يعلمون تمام العلم أهمية هذه القرية الحيوية، ولذلك حصنوها تحصينًا جيدا) غير أن الكاتب المصري محمد عبد المنعم يقول إن احتلال إسرائيل للقرية تم بعد ذلك بيومين أي خلال ليل 10-11 تموز يوليو، عندما انتزعت القرية من أيدي المجاهدين الفلسطينيين المؤكل إليهم الدفاع عنها. ويضيف عبد المنعم أن القوات المصرية النظامية استعادت القرية صباح اليوم التالي (11 تموزيوليو). ويؤكد ذلك تقرير نشرته صحيفة (نيورك تايمز) وجاء فيه أن بيت عفا سقطت أولًا في يد الإسرائيليين في 9 تموزيوليو، ومعها عراق سويدان وعبدس. وأن القوات العربية استعادتها في اليوم التالي. وبعيد هذه المعركة زعم الإسرائيليون أنهم قتلوا 300 من الجنود المصريين والسودانيين، وأنهم أسروا 200 آخرين.
يرجح الخالدي في كتابه “كي لا ننسى” تعليقًا على ما سبق، أن تكون بيت عَفا قد سقطت بأيدي الصهاينة في النصف الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 1948، خلال عملية “يوآف” العسكرية، بينما يرجح طرد سكانها قد تم في الاحتلال الأول في تموز. غير أن الحاج محمد عبد الله، وشاح في مقابلته يؤكد خروج عائلته من بيت عفا في مطلع عام 1949، مما يؤكد أن احتلال القرية ظلَّ بين جزر، ومد إلى أواخر عام النكبة.
في مقابلة معها على قناة الجزيرة، تقول الحاجة أم جبر وشاح في حديثها عن تحولات زمن ما بين جبر وكسر الخواطر: “قالولنا اطلعوا سبع تيام وبتعاودوا ترجعوا، وطلعنا”. خرج أهالي بيت عَفّا في رحلة أيامهم السبعة التي صارت سبعية العقود وسبعينية السنين ولم يعودوا.
المصدر: عرب 48