Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

كيف تؤثر الحرب المدمرة على غزة على الصحة النفسية؟

د. جرايسي: “نأمل أن لا تتسع حلقة الحرب لا شمالا ولا شرقا ولا في الضفة الغربية، فهذا كله يرافقه معاناة نفسية وفقدان الأمل والخوف من الآتي وعدم اليقين قد يكون أقسى بكثير من الحاضر ومن الماضي”.

تتواصل الحرب الإسرائيلية على غزة ومعها الدمار والآثار الكارثية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فيما يرافقها القلق والتوتر والعصبية وتأثر الصحة النفسية كسلوك ورد فعل طبيعي نتيجة ظروف غير طبيعية.

تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”

ومع انتهاء الحرب تنفتح أبواب جحيم آخر يعيشه الناجون من الموت بسبب الجروح العميقة في نفوسهم وأجسادهم وأرواحهم التي لا يمكن التخلص منها بسهولة، إذ يصنف استرجاع دوي القنابل والصواريخ وصور أشلاء الجثث المتناثرة في مخيلة الكبار والصغار من أقوى الصدمات، التي لها تبعات نفسية قاسية تنغص عليهم تفاصيل حياتهم اليومية وتقض مضاجعهم ليلا.

وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” مدير وحدة العلاج النفسي في المستشفى الإنجليزي بالناصرة، د. نبيل جرايسي، حول تأثير الحرب على الحالة النفسية للفرد في المجتمع وعلى المجتمع عموما، كما في ما إذا كان الخوف والتوتر هو سلوك طبيعي في ظروف غير طبيعية.

“عرب 48”: منذ 11 شهرا ونحن نعيش حالة حرب شرسة ومشاهد مروّعة تعكس وحشية غير مسبوقة، ونحن نعلم أن حالة الحرب هي حالة استثنائية وليست حالة طبيعية، فكيف تؤثر الحرب على الصحة النفسية للمجتمع؟

د. نبيل جرايسي

د. جرايسي: سؤال وجيه.. نعم نحن في حالة حرب، وحالات الحرب هذه هي حالات استثنائية، وهذا القول قد ينطبق على غالبية المجتمعات وغالبية الصراعات في العالم لكن للأسف الشديد في بلادنا وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا فإن حالات الحرب هي ليست استثنائية إنما حالات السلم هنا هي الاستثنائية!

منذ عشرات السنوات نحن نفقد السلم ونفقد السلام وجولات الحرب تلازم حياتنا. ما يميز حالة الحرب الحالية هي أنها أطول حرب يشهدها وطننا وهي مستمرة منذ 11 شهرا، وهنالك حالة متواصلة من استنزاف الطاقات النفسية للمجتمع، واستنزاف للقدرات المادية للأفراد، كما هناك حالة من عدم اليقين تتسبب بتآكل وتراجع الحصانة النفسية، وهذا الوضع من عدم اليقين قد يؤدي إلى حالة من الإحساس بالغربة والعزلة، وشعور بالاغتراب عن الناس وعن الوطن، الإحساس بالقلق وعدم اليقين والاغتراب والخوف الدائم مما سيأتي أي الخوف من المجهول، وخصوصا أننا نعيش في منطقة مضطربة ففي سائر أنحاء العالم عندما تنتهي الحرب يبدأ الحديث عن السلام، لكن في منطقتنا وفي بلادنا فور انتهاء الحرب يبدأ الحديث عن جولة أخرى من الحرب ومن العدوان، وهذا أمر مؤسف جدا وخصوصا أننا نعلم ما تفعله الحروب في المجتمعات من فقدان وخسائر مادية وبشرية وذعر ودمار ونزوح ولجوء قسري وأحيانا الهجرة.

“عرب 48”: عدم اليقين وعدم التفاؤل والخوف من المجهول والاستعداد لجولة حرب أخرى بعد هذه الحرب هل تبرر الهجرة؟

د. جرايسي: كل الحروب التي شهدتها منطقتنا رافقها موجات من النزوح واللجوء والهجرة، ولا ننسى الهجرة الكبرى واللجوء عام 1948، وهذه الحالة تتكرر ونحن أمام مرحلة جديدة بخصوص وجودنا في هذه البلاد، وما يميز هذه المرحلة وخلافا اكل الحروب السابقة هو عدم اليقين وعدم التفاؤل.

أنا بطبعي إنسان متفائل رغم سوداوية المشهد سواء إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي فنحن لا ننسى أننا خرجنا من جائحة كورونا قبل ثلاث سنوات، ناهيك عن العنف والجريمة المنظمة والاحتراب الداخلي والآن تجيء هذه الحرب المهلكة على غزة المستمرة منذ عشرة أشهر ونيّف، وبالتالي أنا اليوم غير متفائل من الوضع السياسي والأمني العام لأن ما نراه في غزة ينتقل وينسحب تدريجيا على مناطق السلطة الفلسطينية والضفة الغربية، ونأمل أن لا تتسع حلقة الحرب لا شمالا ولا شرقا ولا في الضفة الغربية، فهذا كله يرافقه معاناة نفسية وفقدان الأمل والخوف من الآتي وعدم اليقين قد يكون أقسى بكثير من الحاضر ومن الماضي.

ربما في شخصيتي المتفائلة إيهام للذات بأن الغد سيكون أفضل، وربما هي آلية نفسية للدفاع عن النفس وللدفاع عن الحياة، لأن هذا الوقت سوف يمضي والحال لا بد أن يتغير رغم مأساويته وسوداويته، وهنا أقتبس من الكاتب الفيلسوف جبران خليل جبران القائل إنه “بعد أحلك لحظات الليل يبزغ الفجر ويأتي النور” وكذلك نحن نقول إن هذا الوقت المأساوي سوف يمضي أيضا.

“عرب 48”: إزاء كل ما ذكرته عن حالات الخوف من المجهول وعدم اليقين واستنزاف الطاقات النفسية، هل لهذا أعراض نفسية تظهر على الأفراد وتجعلهم يتوجهون لطلب العلاج النفسي؟

د. جرايسي: نعم نحن نلاحظ في غالبية الأزمات والمحن المجتمعية من الآفات المرضيّة إلى الآفات الاجتماعية والآن في هذه الحرب المدمرة نحن نشهد ارتفاعا في أعداد المتوجهين للعلاجات النفسية، وهذا ينسحب أيضا على كامل المجتمع الإسرائيلي وبالتأكيد هناك فارق بين منطقة جغرافية وأخرى بحسب قربها أو بعدها عن خطوط المواجهة حيث الحرب والدمار والموت والفقدان والرعب الدائم والنزوح واللجوء والانتقال من مناطق سكنية منكوبة مجاورة للحدود سواء الشمالية أو الجنوبية إلى مناطق أكثر أمنا، وهنالك الكثير من المواطنين العرب إلى جانب الآلاف من اليهود الذين يتوجهون للعلاج النفسي بسبب انتكاسة نفسية على خلفية الحرب، وهنالك حالات ظهرت حديثا ولم تكن موجودة لدى هؤلاء الأشخاص قبل الحرب، كما هنالك بعض الانتكاسات النفسية تستلزم الاستشفاء أي البقاء والرقود في أقسام الصحة النفسية، وكذلك نحن في المستشفى الإنجليزي استقبلنا حالات انتكاسة نفسية بسبب الحرب الجارية.

“عرب 48”: اليوم كل واحد منا يتلقى أخبارا متواترة عبر هاتفه المحمول تبدأ من ساعات الاستيقاظ ولغاية خلوده للنوم، كيف تؤثر هذه الأخبار التي معظمها محبطة وصادمة؟

د. جرايسي: في الواقع الانكشاف على وسائل الإعلام والنشرات الإخبارية وأفلام الفيديو لمظاهر القتل والرعب والأشلاء وانتظار الخبر المفرح الذي لن يأتي، كل هذا يعرض المتلقي إلى حالة مستمرة من التوتر والعصبية واستنزاف طاقاته النفسية والقلق.

أنا شخصيا لا أتابع الكثير من نشرات الأخبار بعد أن كنت أحرص على مشاهدتها باستمرار في السابق، وأنا أنصح الناس بتجنب الإفراط في مشاهدة الأخبار وخصوصا تلك التي تعرض المجازر والقتل والموت والدمار، لأن هذا يعمل على تآكل الحصانة النفسية والدفاعات النفسية شيئا فشيئا، والمشاهد تتكرر يوما بعد يوم وهذه معاناة تستهلك الكثير من الطاقات النفسية بالنسبة للمتلقي أو المُشاهد.

“عرب 48”: هل من الأفضل لنا أن نطمر رؤوسنا في التراب ولا نعرف ما يدور حولنا من أحداث؟

د. جرايسي: لا، أنا لا أقصد أن نطمر رؤوسنا في الرمل كما النعامة، وعلى فكرة هذا فهم خاطئ لسلوك النعامة فهي لا تطمر رأسها في الرمل لكي تختبئ وإنما هي تستشعر وجود حركة أو حيوان مفترس قادم من بعيد باتجاهها، فهي بهذه الحاسة تستشعر الخطر ولا تختبئ، ونحن لا نطمر رؤوسنا في الرمل لكي لا نرى ما يحدث من حولنا، بل ضروري أن نعرف بمقدار دون الانكشاف المتواصل والكثيف على كل الأخبار وكل المشاهد المؤلمة لأنه يؤدي إلى إضعاف الدفاعات النفسية.

“عرب 48”: أنت تعرف أن حالة الحرب ليست هي التهديد الوحيد الذي يواجه مجتمعنا وإنما جرائم القتل شبه اليومية التي تحدث في مجتمعنا وتجعلنا نقلق ليس على أنفسنا فقط، بل على أولادنا وأقاربنا، فالجريمة وصلت إلى كل مكان وكل زاوية؟

د. جرايسي: نعم، نحن نتحدث عن مئات القتلى خلال السنوات الثلاث الأخيرة في المجتمع العربي وهؤلاء الضحايا لهم أهل وأصدقاء وربما أبناء وأطفال وأمهات وآباء وإخوة وأقارب، تخيل لو أن لكل واحد من هؤلاء الضحايا خمسة أفراد لهم صلة به ومقربين منه فستجد أنه بحساب بسيط هنالك الآلاف ممن يعانون نفسيا نتيجة هذا الفقدان المفاجئ والذي يأتي في غير موعده والصادم للأهل، ولدينا الكثير من هذه الحالات التي تصل إلى العلاج نتيجة جرائم العنف، وأنا شخصيا أعالج بعض الحالات لأهالي وأقارب فقدوا أعزاء أو كانوا شهودا على الجرائم في هذه الحرب الحاصلة داخل المجتمع العربي.

“عرب 48”: بالعودة إلى موضوع الهجرة سواء بسبب الجريمة المنظمة أو بسبب الحرب وعدم الاستقرار؛ هل هنالك ما يبرر مغادرة أرض الوطن والهروب؟

د. جرايسي: لا أريد أن أحكم على الأشخاص والمجموعات التي تهاجر وتغادر البلاد، فالإنسان أحيانا يدافع عن نفسه بالهروب وأمام الأخطار المحدقة فإن الفرد يدافع عن نفسه إما بالمواجهة أو بالهروب، والهروب هو أحد أساليب المواجهة لكن أنا شخصيا لا أحبّذ الهجرة ولا ترك الوطن، وأنا شخصيا درست الطب في أرقى جامعات أوروبا وعشت في أجمل وأرقى الحضارات والأماكن وبالتالي تركت كل هذه المغريات وعدت إلى أرض الآباء والأجداد والوطن والأهل والتراب، وأنا من الجيل الذي لا يشجع على الهجرة ولا ينادي بترك أرض الوطن مهما اشتدت الصعوبات والمِحَن والإحساس بالغربة إلا أنني أنادي بالالتزام والارتباط بأرض الوطن الذي لا وطن لنا سواه، ونحن هنا باقون.

وبالتالي نحن نعيش الحرب والأزمات اليومية وفي داخلنا غريزة البقاء والرغبة في البقاء، وغريزة الصمود والصبر والتحمّل وكلما تحملنا أكثر وصمدنا أكثر فإننا نقوي من قدراتنا النفسية على التحمل والصبر حتى تمر هذه الغمامة السوداء.

“عرب 48”: هل هنالك توجيهات عامة أو نصائح للجمهور للتخفيف من حدة التوتر والقلق والخوف من المجهول؟

د. جرايسي: نعم، أولا تجنب الانكشاف على الأخبار ومشاهد القتل والدمار والدماء بشكل يومي لأنها تستنفذ الطاقات النفسية، ثانيا الحفاظ على العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الأقارب، ولست أقصد هنا منصات ومواقع التواصل الاجتماعي وإنما التواصل المباشر والتحدث من أجل التخفيف من التوتر والقلق والضغط النفسي.

ثالثا، الاستماع إلى الموسيقى الهادئة التي تريح النفس وربما المفرحة، وأخيرا ممارسة الرياضة الخفيفة التي ترفع المعنيات وتساهم في الاستقرار والهدوء النفسي، وممارسة تمارين الاسترخاء كالتأمل والتنفس العميق واليوغا كلها تساهم في زيادة مستوى الحصانة النفسية لدينا.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *