كيف تهيمن إسرائيل على الاقتصاد الفلسطينيّ؟
تحت نيران قصف الجيش الإسرائيلي، صار سُكّان قطاع غزّة اليوم في خطر المجاعة. قمعت إسرائيل، على مدار عقودٍ، النشاط الاقتصادي المستقل للفلسطينيين منهجيًا، لضمان استمرار اعتمادهم على الاقتصاد الإسرائيلي
كُتب الكثير عن فلسطين خلال الأشهر الثلاثة الماضية[1]. وحاول الأكاديميون أن يكون لهم قول في النقاش، بين الاستجابات العاطفية ومناشدات لوسائل الإعلام وصنّاع السياسات، سعيًا منهم إلى تسليط الضوء على المآسي وتعقيدات الأحداث الجارية. بيد أن الجميع لم يولوا التحليل الاقتصادي أهمية كبيرة، أو أنهم لم يجدوا ما يقولونه حول هذا الموضوع. وتستمر النظريات السائدة في فهم الاقتصاد باستخدام قواعد السوق فقط، مما يجعلها غير مجهزة للتفكير في الصراعات وعلاقات القوة التي تتطور على هذه الأرض. وفي أفضل الأحوال، فإن بياناتهم المجمعة والملخصة، مثل الناتج المحلي الإجمالي، تعطينا تقديرًا لتكاليف الصراع أو الاحتلال العسكري، لكننا لا نملك سوى قدر ضئيل للغاية من الفهم للنشاط الاقتصادي والعمليات الجارية في الحرب وفي فلسطين عمومًا.
وقد تولدت في العقد الماضي خلافات كبيرة بين الباحثين العاملين في فلسطين، خاصة فيما يتعلق بالطرق والأدوات النظرية لتفسير هذا السياق، وينطبق هذا أيضًا على البحوث الاقتصادية، حيث شهدنا إحياء الاقتصاد السياسي، أي الدراسات التي لا تركز على «السوق» أو أرقام النمو، بل على علاقات الهيمنة التي أُنشئت وأُدمجت في الاقتصاد. يسير هذا التغيير جنبًا إلى جنب مع انتقاد واسع النطاق للنظام الاقتصادي الذي تأسس في أعقاب اتفاقيات أوسلو في عام 1993 والنموذج المفاهيمي النيوليبرالي الذي يقوم عليه. ويعكس هذا النقد المأزق الذي وصل إليه المشروع الوطني الفلسطيني وفشل «حل الدولتين»، ويترجم بدوره إلى بحثٍ عن أطر تحليلية جديدة.
ومن بين هذه الدراسات، تدعونا الدراسات الاستعمارية الاستيطانية إلى ربط الأشكال المختلفة للهيمنة والعنف المنتجة في الحركة الصهيونية وعلاقات إسرائيل بالمجتمع الفلسطيني. يتمتع هذا الإطار بميزة كبرى تتمثل في معالجة انقسام الدراسات الفلسطينية الناتج عن لحظات التمزّق التاريخية (1948، 1967، 1993) والتفتت الجغرافي للمناطق المدروسة (الضفة الغربية، وغزة، وإسرائيل، والقدس). كما أن المقارنة مع التجارب الاستعمارية الأخرى، مثل تاريخ أميركيا وجنوب إفريقيا وأستراليا والجزائر، مفيدة أيضًا في تخفيف المعاملة الاستثنائية التي غالبًا ما تُطبق على الحالة الفلسطينية. وأخيرًا، فإن أخذ العلاقة الاستعمارية في الاعتبار يسمح لنا بالتعويض عن النهج الماركسي الإقصائي الذي يميل إلى اختزال كل العداء في الصراع بين الطبقات الاجتماعية. إن دراسة آليات القوة العديدة التي تؤثر في الساحة الاقتصادية ينبغي أن تساعدنا على فهم الحرب الشاملة الدائرة الآن.
المسح والإحلال
يمكننا ملاحظة أكثر من منطقٍ اقتصاديٍ واحدٍ فاعلٍ في التاريخ الفلسطيني الحديث. الأول هو منطق المسح والإحلال، أي الخصيصة النموذجية للاستعمار الاستيطاني. منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت الحركة الصهيونية بمصادرة الأراضي في فلسطين لإقامة مجتمع مستوطن جديد. تسارعت هذه العملية مع الاحتلال البريطاني للبلاد في عام 1917 وما تلا ذلك من إنشاء منطقة «الانتداب» التابعة لعصبة الأمم. وكان الاستيلاء على الاقتصاد وسيلة حاسمة لتعزيز الوجود الديموغرافي اليهودي وضمان السيطرة على الأراضي. كما ثبت أنها وسيلة قوية لزعزعة استقرار المجتمع العربي الفلسطيني.
وقد عُبِّر عن الاستيلاء على الاقتصاد عمليًا في الدعوة إلى «الأرض اليهودية» وإنشاء صناديق صهيونية مختلفة مخصصة لشراء الأراضي، بما في ذلك الصندوق القومي اليهودي. ومع الاستيلاء على هذه الأراضي على أساس تجاري وخاص، سُحبت من السوق واعتبرت ملكية غير قابلة للتصرف لـ «الشعب اليهودي» ما شكّل خطوة أولى نحو تأسيس السيادة السياسية الحصرية. واختفت العشرات من التجمعات السكانية الفلسطينية حتى قبل النكبة نتيجة لهذا الاستعمار.
وتجسَّد التعبير الثاني لهذا الاستيلاء في مفهوم «العمل اليهودي»، والذي يتألف من تشجيع التعاونيات الزراعية التي تديرها الحركة الصهيونية، سواء من اليهود أو البريطانيين، التي تُعطي الأولوية لتوظيف العمال اليهود. وكان اليهود يجدون صعوبة في الحصول على عمل، حتّى عند أصحاب العمل اليهود الذين فضلوا استخدام العمالة العربية الأرخص والأكثر خبرة في العمل في الأرض. أصبحت البطالة تحديًا كبيرًا، وانتهى الأمر بالعديد من المستوطنين بالعودة إلى أوروبا.
وهكذا، وخلافًا للاعتقاد الشائع، فإن إنشاء مستوطنات الكيبوتس في النصف الأول من القرن العشرين لا يرجع إلا إلى استيراد المُثُل الاشتراكية بقدر ما يرجع إلى ضرورات الاستعمار المستمر. كان التنظيم الجماعي وتجميع الموارد في المقام الأول استجابة للحاجة إلى خفض تكلفة العمالة اليهودية لمواجهة المنافسة من العمالة العربية. وفي هذا الصدد، استمدت الكيبوتسات إلهامًا كبيرًا من نقابات الحِرف الروسية، أي التعاونيات الحية التي شُكّلت بين العمال القادمين من نفس المكان لتحسين فرص بقائهم على قيد الحياة في بيئة تنافسية. لم تكن هذه الكيبوتسات معارضة للرأسمالية، بقدر ما أنها قامت للتأقلم مع البيئة التنافسية في مواجهة العمالة العربية.
وبدعم من المنظمة الصهيونية، سهّلت الكيبوتسات استيعاب المستوطنين مع استبعاد العمال العرب تمامًا. في وقت لاحق، وبعد تحديد الخطوط الاستعمارية للكيبوتسات تحديدًا جيدًا، وبعد ضمان كفاءتها الاقتصادية، تشكلت عنها أسطورة المجتمعات ذاتية الإدارة التي تستجيب للمثل الاشتراكية. وهذا بدوره غذَّى خيال موجات جديدة من المستوطنين القادمين من أوروبا. ولا يجب أن ننسى أن الكيبوتسات قدمت على الدَّوام مجموعة أعلى من المتوسط من المقاتلين والقادة في صفوف المنظمات شبه العسكرية الصهيونية طوال فترة الانتداب البريطاني.
وكانت نقابة العمال اليهودية الهستدروت، التي تأسست عام 1920، فاعلًا رئيسًا آخر في هذا الغزو الأول للاقتصاد. وكانت ترأس إمبراطورية اقتصادية هائلة تتكون من مستعمرات زراعية، وتعاونيات نقل، ومؤسسات صناعية وتجارية ومالية، والتي اُستخدمت جميعًا لإنشاء جيوب اقتصادية يهودية حصرًا. وفعلت النقابة أكثر من ذلك، إذ جنَّدت «حراس العمال» الذين أُرسلوا إلى مواقع العمل والمصانع لترهيب أصحاب العمل والعمال واستخدام التهديدات للمطالبة بطرد العمال العرب وتوظيف المستوطنين اليهود، وعليهِ فإن هذا الاستيلاء على الوظائف لم يكن عملية لاعنفية.
وظلت شعارات «الأرض اليهودية» و«العمل اليهودي» سائدة بعد النكبة، ثم بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، في اقتصاد إسرائيلي حشدته عملية الاستيطان وما زال منظمًا حسب الأولوية الممنوحة للسكان اليهود. وكان الفارق هو أن القضاء على السكان الفلسطينيين الأصليين أصبح الآن مدعومًا من قبل جهاز الدولة ويُنفذه بشكل منهجي من خلال مجموعة من السياسات والقوانين. وفي الوقت نفسه لم تستبعد عملية نهب الأراضي والتمييز العُنصريّ ضد سكانها سياسة التكامل الاقتصادي المصممة للاستفادة من الوجود الفلسطيني الحتمي وفي الوقت نفسه السيطرة عليه.
الاستغلال القائم على التمييز العُنصريّ
وعندما وضعت إسرائيل يدها على الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، أُحبطت طموحاتها الضمية بسبب وجود حوالي مليون فلسطيني، والذي شكلوا تحديًا ديموغرافيًا وسياسيًا وأمنيًا. واختارت الإدارة العسكرية التكامل الفعلي للأراضي التي احتلتها حديثًا مع حرمان سكانها من الجنسية. وقد مكنها ذلك من إنشاء نظام تمييز عنصري صارمٍ وإقامة علاقات هرمية بين المجموعتين السكانيتين. وكانت التدابير المستخدمة ضد أهل الضفة وقطاع غزّة، في كثير من النواحي، مماثلة لتلك المستخدمة بالفعل منذ عام 1948، في إسرائيل نفسها، للتعامل مع ما يسمى بفلسطينيي 48.
من الواضح بشكل صارخ هنا منطق الاستغلال، الذي يتمثل في اغتنام أفضل الفرص المتاحة من خلال السيطرة على المناطق وسكانها. وبالإضافة إلى قبضة إسرائيل على الموارد الطبيعية (المياه والنفط والغاز وما إلى ذلك)، فقد نفذت سلسلة من السياسات المصممة لزيادة الاعتماد الاقتصادي للفلسطينيين وبالتالي الاستفادة بشكل أفضل من رأس المال الفلسطيني، والعمل، والأسواق الاستهلاكية. حتى عام 1993، كانت السلطات الإسرائيلية مسؤولة عن منح التصاريح اللازمة لبناء منزل، وحفر بئر، وبدء عمل تجاري، ومغادرة البلاد أو دخولها، واستيراد البضائع أو تصديرها.
واتخذت تدابير لمنع أي منافسة فلسطينية، بل وشجعت من تحت الطاولة التعاقد لصالح المنتجين الإسرائيليين. ولذلك كان نمو بعض الصناعات مثل الأسمنت والمنسوجات وإصلاح السيارات مرتبطًا بشكل مباشر باحتياجات الاقتصاد الإسرائيلي. وبالمثل، فإن المنتجات التي تحتاجها إسرائيل أو المخصصة للتصدير إلى أوروبا حلت تدريجيًا محل المحاصيل الأكثر تنوعًا المخصصة للأسواق المحلية والإقليمية. وفي المقابل، أصبح السكان الفلسطينيون يعتمدون بشكل كبير على الواردات من إسرائيل لتلبية احتياجاتهم الاستهلاكية.
ولم يتغير هذا الوضع بشكل جذري بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1993. فالصلاحيات الممنوحة لها واجهت تحديًا مستمرًا على الأرض، واحتفظت الإدارة الإسرائيلية بالسيطرة على الأنظمة التجارية والنقدية والمالية، فضلًا عن الحدود ومعظم المناطق نفسها. ولا تزال ما تسمى بالمنطقة (ج)، الواقعة مباشرة تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية ولا يمكن للحكومة الفلسطينية الوصول إليها، تغطي 62% من الضفة الغربية. واستوعبت إسرائيل من عام 1972 إلى عام 2017، 79% من إجمالي الصادرات الفلسطينية، وتعتبر هي المصدر لـ 81% من وارداتها.
إن توظيف العمال من الضفة الغربية وقطاع غزة في الاقتصاد الإسرائيلي هو جانب آخر من هذا الاستغلال الاستعماري. وبتنظيم من الإدارة الإسرائيلية، التي تصدر تصاريح التنقل والعمل، فإن وجود هؤلاء العمال يعوض النقص في العمالة الإسرائيلية، اعتمادًا على الظروف وقطاعات النشاط المحددة المعنية (أساسًا البناء والزراعة والمطاعم). وهكذا، لم يكن للركود الاقتصادي الإسرائيلي بين عامي 1973 و1976 أي تأثير فعليًا على البطالة الإسرائيلية، ولكنه أدى إلى انخفاض عدد العمال الفلسطينيين من الأراضي المحتلة.
وكانت هذه القوى العاملة، الضعيفة والقابلة للاستغلال حسب الرغبة والقابلة للتمييز ضدّها في أي وقت، تمثل في المتوسط ثلث السكان العاملين الفلسطينيين خلال السبعينيات والثمانينيات. لكن اندلاع الانتفاضة الأولى والمقاطعة الاقتصادية التي أطلقها السكان الفلسطينيون في نهاية الثمانينيات، دفعت الإدارة الإسرائيلية إلى تقليص وجود هؤلاء العمال بشكل كبير. واُستبدلوا لبعض الوقت بالعمالة المهاجرة من آسيا. لكن على مدى السنوات العشر الماضية، أصبح تشغيل العمال من الضفة الغربية في إسرائيل ظاهرة كبرى مرة أخرى، وفي الأشهر التي سبقت 7 أكتوبر/تشرين الأول، استأنف العمال من غزة أيضًا هذه الرحلة، على الرغم من الحصار.
وشكّل العمّال الفلسطينيون الـ 160 ألفًا من الضفة الغربية حوالي 20% من القوى العاملة في إسرائيل أو في المستوطنات خلال عام 2023، وهذا إلى جانب حوالي 50 ألف عاملٍ يعملون دون تصاريح، و20 ألف عاملٍ من قطاع غزّة. ويحصل هؤلاء العمّال على متوسط راتب يتراوح بين 50و75% من أجر نظرائهم من العمّال الإسرائيليين، كما أنهم يتعرضون لانعدام الأمن والتمييز وسوء المعاملة. ويعد عدد حوادث العمل والوفيات في مواقع البناء من أعلى المعدلات في العالم.
مكافحة التمرد الاقتصادي
يُعد توظيف العمال الفلسطينيين، إلى جانب كونه استغلالًا للقوى العاملة المحلية، وسيلة جيدة لمراقبة السكّان. وللحصول على تصاريح عمل في إسرائيل أو في المستوطنات، يجب على الفلسطيني من الضفة الغربية أو غزة التأكد من موافقة الإدارة العسكرية الإسرائيلية على ملفه. ويجب عليهم بعد ذلك الامتناع عن المشاركة في أي نشاط نقابي أو سياسي يعتبر معاديًا للاحتلال، كما يجب على أقربائهم المقربين. وبالتالي، تحرص العائلات، وأحيانًا قرى بأكملها، على عدم التعرض لأي «حظر أمني»، لتجنب حرمانها من تصريح العمل الإسرائيلي.
وبالتالي فإن اعتماد الفلسطينيين على الاقتصاد الإسرائيلي يساهم في ضعفهم السياسي. وهم معرضون للخطر بشكل خاص لأن الإدارة الإسرائيلية هي التي تنظم الوصول إلى الأراضي المحتلة وحتى حركة المرور داخلها. ولذلك فإن إغلاق نقاط العبور وتقييد حركة المرور يُستخدم بانتظام وسيلةً للعقاب فيما يُقال علنًا أنه وسيلة لمكافحة التمرد، ويدفع السكان الفلسطينيين بسرعة إلى حافة الاختناق الاقتصادي، أو حتى يظلوا في حالة أزمة إنسانية دائمة، كما يتضح من حالة قطاع غزة، الواقع تحت الحصار منذ عام 2007.
وتكون السلطة الفلسطينية عرضة لهذا النوع من الممارسات العقابية، إذ يأتي جزء كبير من دخلها (67% في عام 2017) من الضرائب التي تجمعها الإدارة الإسرائيلية، وخاصة على الواردات الفلسطينية. وتقوم إسرائيل بانتظام باقتطاع وتعليق هذه المدفوعات عن طريق الابتزاز الصريح. وتعتمد إيرادات الحكومة الفلسطينية أيضًا على المساعدات الدولية، المشروطة سياسيًا بالقدر نفسه. ويُفسّر هذا الأمر عدم قدرة السلطة على العمل خارج الحدود التي حددتها إسرائيل والمانحون الدوليون.
تؤثر هذه الهندسة السياسية والاجتماعية التي تمر عبر الاقتصاد أيضًا على القطاع الخاص بطرق مختلفة. في السنوات الأخيرة، طلب عدد متزايد من الشركات في الضفة الغربية بشكل استباقي الاندماج في نظام المراقبة الإسرائيلي للاستفادة من المعاملة التفضيلية عند تصدير سلعها. في الظروف العادية، يتم أولا نقل الشحنة بالشاحنات إلى أقرب نقطة تفتيش إسرائيلية. وتُفرّغ هناك للخضوع لفحص يستمر عدة ساعات، قبل تحميلها على شاحنة ثانية لنقلها إلى وجهتها، إما في إسرائيل أو في دولة ثالثة.
وبالتالي فإن المصدرين الفلسطينيين يعاقبون بارتفاع تكاليف النقل، ناهيك عن الوقت الضائع وخطر تعرض البضائع للضرر بسبب هذه الإجراءات المرهقة. كما أن عدد الشاحنات، وبالتالي حجم البضائع المنقولة، محدود للغاية أيضًا بسبب الازدحام اليومي عند نقاط التفتيش، والذي يمكن أن يتفاقم بسبب القرار الإسرائيلي البسيط بوقف حركة المرور في أي وقت ولأي سبب. وفي المقابل، أدى إدخال ما يسمى بالممرات اللوجستية من الباب إلى الباب إلى تسهيل تدفق البضائع بشكل كبير وخفض تكلفة الشحن التجاري.
ومن خلال اتباع بروتوكول صارم وضعه الجيش الإسرائيلي، يمكن للشركات نقل حمولتها إلى وجهتها باستخدام شاحنة إسرائيلية واحدة ودون التعرض للمضايقات عند نقاط التفتيش. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين عليهم إنشاء منطقة تحميل مغلقة وآمنة ومجهزة بكاميرات مراقبة متصلة بسلاسة بأقرب نقطة تفتيش عسكرية. كما أنها توفر بيانات تفصيلية عن موظفيها، الذين يجب أيضًا الموافقة على ملفاتهم من قبل الإدارة العسكرية. وأخيرًا، تم تجهيز كل شاحنة بنظام تتبع GPS لمراقبة المسار الذي تسلكه عبر الضفة الغربية.
الاقتصاد الفلسطيني في حالة حرب شاملة
من الصعب أن نفهم المدى الكامل للاضطرابات الجذرية التي تجتاح الأراضي المحتلة، ومن خلال النشاط الاقتصادي الفلسطيني. وتحاول العديد من الوكالات الفلسطينية والدولية بالفعل حساب الخسائر المادية للحرب المستمرة وتقييم تأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني والبطالة. ويقال إن أي حل سياسي للصراع يجب بالضرورة أن يكون مدعومًا بخطة اقتصادية. ومع كل حرب جديدة، فإن توقع تكاليف إعادة الإعمار وإعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى الوقوف على قدميه من جديد هو وسيلة للأطراف المعنية للتفاعل بسرعة مع حالة الطوارئ.
ويضاف إلى الدمار الشامل الذي أحدثه القصف الإسرائيلي تشديد الحصار على كل من قطاع غزة والضفة الغربية، فضلا عن إلغاء جميع تصاريح العمل الإسرائيلية وتأخير تحويل الضرائب إلى السلطة الفلسطينية. ويشير معهد الأبحاث الفلسطيني «ماس» إلى الركود الاقتصادي الخطير الذي ظهرت آثاره بالفعل خلال الحرب ومن المرجح أن يستمر حتى بعد ذلك. وتشير التقارير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي قد انخفض بنسبة 25% على الأقل بحلول نهاية عام 2023، في حين يمكن أن تصل البطالة إلى 30% من السكان العاملين في الضفة الغربية و90% في قطاع غزة.
ولكن هذه ليست مواجهة بين دولتين تتمتعان بالسيادة، كما أن إفقار الشعب الفلسطيني والمخاطر الجسيمة المتمثلة في المجاعة ليسا من قبيل الصدفة. وتؤكد التقارير التي نشرت عقب الحروب السابقة نية الجيش الإسرائيلي المتعمدة لمهاجمة وسائل العيش المادية. وينطبق الأمر نفسه على القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع، رغم أن هذه الأخيرة لا تنطبق على المزارعين في الضفة الغربية. وفي الواقع، فإن محاصيلهم تعوّض انقطاع النشاط الزراعي في إسرائيل، وبالتالي تساهم في مجهودها الحربي.
تشير هذه المجموعة من الآليات العاملة، ومنطق القوة المختلف الذي تنطوي عليه، إلى أن الاقتصاد ليس ضحية جانبية للمواجهة الاستعمارية المستمرة. بل إنه أحد الميادين الرئيسة الذي تجري فيه المعركة. القضية إذن ليست في تكاليف الحرب وإعادة الإعمار، أو مسألة نقاط الناتج المحلي الإجمالي التي يتعين علينا تسجيلها من أجل شراء صمت الناس، بل إن السؤال المطروح هو كيفية حماية المجتمع الفلسطيني من عمليات سرقة الممتلكات وسلبها والقهر التي تحدث على الساحة الاقتصادية، والدفاع عنه ضد الحرب الشاملة التي يتعرض لها.
تُرجمت المقالة عن الترجمة الإنجليزية المختصرة للورقة الأصلية باللغة الفرنسية هنا.
إحالات:
[1] المقالة منشورة في 13 يناير/كانون الثاني، أي بعد 3 أشهر تقريبًا على بداية العدوان على قطاع غزّة.
المصدر: عرب 48