كيف جعلت إسرائيل من الصدمة النفسية سلاحًا حربيًّا؟
بعدَ مرورِ عامٍ على هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، توظِّف النصب والفعاليات التذكارية لهذا اليوم الفن والواقع الافتراضي والسياحة المظلمة (Dark Tourism) لتحشيد الدعم للعنف اللامحدود، في حين توجد أكثر من طريقة للتذكُّر. ربما على شكلِ إنتاج تلفزيوني مُتقن ومُكلِف. كلمات من كبار المسؤولين. جمهور حي بالآلاف. عرض موحد للحزن الجماعي والعزم العسكري. كانت الحكومة الإسرائيلية تأمل، بهذه الطريقة، أن تحتفل وتؤبّن مرور عامٍ على الهجمات المفاجئة والدموية التي نفذتها حماس العام الماضي. بيد أن ما تحقق من هذه المخططات قليل.
فقد خرج العديد من عائلات الأشخاص الذين قتلوا أو أخذوا رهائن في ذلك اليوم بقوة ضد الفعاليات التي ترعاها الدولة، قائلين إن الاحتفالات يمكن أن تنتظر حتى توقّع الحكومة على صفقة رهائن وتواجه تحقيقًا مستقلًا حول إخفاقاتها قبل وبعد وفي ذلك اليوم. ومَنَع بعض الأهالي حكومة بنيامين نتنياهو من استخدام أسماء وصور أبنائهم.
وقد أعلنت العديد من الكيبوتسات التي عانت من أكبر الخسائر أنها ستقاطع الفعاليات. وأنها ستجتمع في مجتمعاتها للحزن جماعيًا على أحبائهم، وتذكّرِ رهائنهم، في طقوس «حميمة وحساسة». وردًا على ذلك، ألغى الوزير المسؤول عن الحفل حضور الجمهور الحي، بينما بدا وكأنه يرفض اعتراضات العائلات باعتبارها «ضوضاء في الخلفية» وأدّى هذا إلى المزيد من الانتقادات العنيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعهد بعض المشاهير البارزين في إسرائيل بدعم إحياء تأبين آخر منافس له للتأبين المدعوم حكوميًا.
يقول داني رحاميم، أحد أعضاء كيبوتس ناحال عوز أنه وبالنسبة للحكومة «كل شيء عبارة عن فعالية استعراضية». قد يكون الأمر كذلك، ولكن يبدو من المؤكد أن العرض الرسمي سيقام في ذكرى السابع من تشرين الأول/أكتوبر. بل يكاد يكون من المستحيل أن نتخيل عالمًا تقاوم فيه حكومة نتنياهو، والمنظمات اليهودية الموروثة (القديمة) التي تردد رسالتها في مختلف أنحاء العالم، فرصة استخدام يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الحافل بوصفهِ مكبر صوت لبث القصة نفسها عن الهجمات التي سمعناها جميعًا مرات عديدة من قبل.
وتكون الحكاية فيه بسيطة عن الخير والشر، حيث تبدو إسرائيل بريئة براءة لا تشوبها شائبة، وتستحق الدعم غير المشروط، في حين أن أعداءها كلهم وحوش يستحقون العنف غير المقيد بقوانين أو حدود، سواء في قطاع غزّة أو جنين أو بيروت أو دمشق أو طهران. إنها قصة تندمج فيها هوية إسرائيل كأمة إلى الأبد مع الإرهاب الذي عانت منه في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهو الحدث الذي سوف يندمج بسلاسة، حسب رواية نتنياهو، مع المحرقة النازية والمعركة من أجل روح الحضارة الغربية.
يتحدثون في ألمانيا عن المصلحة الوطنية (أو Staatsraison)، وفي العقود الأخيرة، قال قادتها أن المصلحة الوطنية تقتضي حماية إسرائيل. ولإسرائيل مصلحة وطنية أيضًا، مرتبطة بالمصلحة الوطنية الألمانية، لكنها تختلف عنها: فهي تعلن رسميًا أن مصلحتها الوطنية أمن اليهود. لكن الصدمة اليهودية تشكل جزءًا لا يتجزأ من مفهوم الدولة للأمن. وتبني الأضرحة لها. وتشيد الجدران حولها. وتشن الحروب باسمها. وبناءً على هذا وكما أعرفُ أن الشمس ستشرق على القدس، فإن نتنياهو سوف يروي قصته الانتقامية للعالم في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ولن تتمكن أي أسرة متطفلة أو حزينة من إيقافه[1].
وتستغل هذه الصدامات حول إحياء الذكرى مناقشات عميقة كامنة حول توظيف وإساءة توظيف المعاناة اليهودية، والصراعات التي يعود تاريخها إلى ما قبل تأسيس إسرائيل، والتي تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها غير المحددة على نحوٍ سيئ السمعة. إنهم يتعاملون مع سلسلة من الأسئلة التي لم تُحل بعد ولكنها أصبحت ذات أهمية متزايدة.
ما الخط الفاصل بين إحياء ذكرى الصدمة واستغلالها سينيكيًّا؟ بين التأبين والتسليح؟ ماذا يعني أن نؤدي حزنًا جماعيًا عندما لا يكون الحزن الجماعي عالميًا، بل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بإثنية واحدة؟ وما الذي يعنيه أن نفعل ذلك في حين تعمل إسرائيل بنشاط على إنتاج المزيد من الحزن على نطاق لا يمكن تصوره، فتفجر كتل سكنية بأكملها في بيروت، وتبتكر أساليب جديدة للتشويه عن بعد، وتدفع أكثر من مليون لبناني إلى الفرار حفاظًا على حياتهم، وفي حين يستمر القصف على قطاع غزّة دون هوادة؟
ومع تزايد احتمالات اندلاع حرب إقليمية شاملة مع مرور كل ساعة، فإن التركيز على الآليات التي تستخدمها إسرائيل لتضخيم الصدمات التي يتعرض لها اليهود والتلاعب بها قد يبدو غير ذي صلة، وحتى غير حساس. ولكن هذه القوى مترابطة ترابطًا وثيقًا، حيث توفر القصص، التي تختارها إسرائيل وترويها عن الضحايا اليهود، الأساس والتبرير للعنف المدمر وضم الأراضي الاستعماري الذي يقع أمامنا الآن ومباشرةً. ولا شيء يجعل هذه الارتباطات أكثر وضوحًا من الطرق التي اختارتها إسرائيل لسرد قصة الصدمة التي تعرض لها شعبها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهو الحدث الذي يجري إحياء ذكراه باستمرار منذ لحظة وقوعه تقريبًا.
كان أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في الاستجابة لأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر داخل إسرائيل ومعظم الشتات اليهودي هو السرعة التي استُوعِب فيها الحدث ضمن ما يسمى الآن بـ «ثقافة الذاكرة» (Memory Culture): المناهج الفنية والتكنولوجية والمعمارية التي تُحوِّل الصدمات الجماعية إلى تجارب تعليمية للآخرين، وعادة باسم حقوق الإنسان والسلام وضد إنكارها أو نسيانها. عادة ما يستغرق الأمر عقودًا من الزمن، بالنسبة للجرائم الجماعية، قبل أن يصبح المجتمع مستعدًا للتعامل مع الماضي بصدق. على سبيل المثال، صدر الفيلم الوثائقي المحرقة (Shoah) الرائد للمخرج كلود لانزمان (Claude Lanzmann) عن الهولوكوست بعد أربعين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي حالة إسرائيل، كانت هناك خطوة فورية تقريبًا لإعادة تمثيل أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر على نحو غرافيكيًا باعتبارها تجارب منقولة، وبهدف مواجهة ادَّعاءات كاذبة تنكر وقوع أي فظائع، ولكن في كثير من الأحيان كان الهدف الصريح هو الحد من التعاطف مع الفلسطينيين وتوليد الدعم لحروب إسرائيل المتوسعة بسرعة. قبل مرور عام واحد، مُثِّلت «مسرحية توثيقية» (Verbatim Play) خارج برودواي بعنون 7 أكتوبر ومستمدة من شهادات شهود العيان، كما أقيمت العديد من المعارض الفنية، وعرضان للأزياء على الأقل تحت عنوان 7 أكتوبر، شهد أحدهما عارضات أزياء نجين من الهجمات أو فقدن أحباءهن ويزينَّ أنفسهن بجروح اصطناعية ودماء مزيفة وفساتين مصنوعة من أغلفة القذائف. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة جويش نيوز (Jewish News) أن عارضة أزياء قُتل خطيبها في الهجوم، كانت ترتدي فستان زفاف أبيض اللون به «ثقب رصاصة» عند قلبها. وظهر عنوان رئيس متناقضٌ آخر «إسرائيل تعودُ إلى الموضة» حول العرض نفسه في صحيفة جويش كرونيكل (Jewish Chronicle).
ولا يفوتنا الحديث عن أفلام 7 أكتوبر أيضًا، والتي تعد بالفعل نوعًا فرعيًا ناشئًا. أولًا، جاء برنامج «شاهد عيان» التابع للجيش الإسرائيلي، والذي جمع اللحظات الأكثر فظاعة ورعبًا التي التُقطت بالفيديو في ذلك اليوم. وفي غضون أسابيع من وقوع الهجمات، عُرِضَ الفيلم أمام جماهير مختارة من السياسيين وقادة الأعمال والصحفيين في كل مكان من دافوس إلى متحف التسامح (Museum of Tolerance)[2] في لوس أنجلوس. وقد تبع ذلك سلسلة من الأفلام الوثائقية الأكثر احترافية، بما في ذلك فيلم صرخات قبل الصمت (Screams Before Silence) حول العنف الجنسي والذي قدمته مديرة العمليات السابقة في شركة ميتا شيريل ساندبرغ (Sheryl Sandberg) وفيلم #نوڤا (#Nova) الذي يستخدم الهاتف ومقاطع الفيديو المثبتة على الجسم لإنشاء رواية «دقيقة بدقيقة» عن «الفظائع المروعة»، وأيضًا فيلم النجاة من السابع من أكتوبر: سنرقص مرة أخرى (Surviving October 7: We Will Dance Again) الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، والذي يفعل الشيء نفسه إلى حد كبير. وبثّت قناة شبكة الثالوث للبث (TBN)[3]، وهي «الشبكة الدينية الأكثر مشاهدة في أميركا»، حلقة خاصة مكونة من أربعة أجزاء حول الهجمات استغرقت سبع ساعات في المجمل.
تستغرق المعالجات الدرامية وقتًا أطول قليلًا، ولكن توجد العديد من المعالجات قيد الإعداد، بما في ذلك فيلم 7 أكتوبر (October 7)، وهو فيلم روائي طويل من إنتاج منتجي مسلسل فوضى (Fauda)، فضلا عن المسلسل المكتوب يوم واحد في أكتوبر (One Day in October)، الذي أنتجته شركة فوكس، ومن المقرر عرضه هذا الشهر.
الأمر الأكثر غرابة هو القرار الذي اتخذه المخرج الإسرائيلي ألون دانييل بصنع فيلم واقعي بالكامل من المُجسمات المُصغَّرة. إذ أمضى فريقه أشهرًا في إعادة إنشاء بيت الدمية المرعب بشق الأنفس: كل شيء من سياج الأسلاك الشائكة الذي اخترقته حماس، إلى السيارات المحترقة والمراحيض المحمولة المليئة بالرصاص في مهرجان نوڤا الموسيقي. وقال أحد أعضاء فريق الإنتاج لصحيفة هآرتس: «لقد قمنا بطباعة نماذج الحمامات الصغيرة هذه بتقنية ثلاثية الأبعاد ثم لونَّاها، وفي البداية كانت رؤيتها ممتعة. ولكن الأمر كان مرعبًا بنفس القدر. ثمة تناقض كبير بين الرَّائع والمروِّع هنا.
ولأن عالمنا يحشدُ بالعنف والظلم المدمريْن، يوجد قدر هائل من الأدبيات حول أخلاقيات تخليد ذكرى الفظائع التي وقعت في العالم الحقيقي. كيف تثير الرعب دون استغلاله؟ كيف يمكنك تجنب إعادة صياغة فكرة أن بعض أنواع الأجساد محكوم عليها بالعنف، ومن ثمَّ زيادة احتمالات تعرضها له؟ كيف تتجنب مطالبة الناجين بإحياء أسوأ صدماتهم مرارًا وتكرارًا؟ كيف يمكنك منع حدوث رد فعل صادم لدى المشاهد، الذي قد يكون لديه تاريخ في مواجهة العنف بنفسه؟ هل هناك عملية مصاحبة رأب الضرر والشفاء؟ وعلى نحو مماثل، كيف نتجنب إثارة المشاعر الخطيرة، مثل الكراهية والانتقام، والتي لا يمكن أن تؤدي إلّا إلى المزيد من المآسي والصدمات؟
قالت لي إيمي سودارو (Amy Sodaro)، وهي عالمة اجتماع ومؤلفة كتاب عرض الفظائع: المتاحف التذكارية وسياسات العنف الماضي (Exhibiting Atrocity: Memorial Museums and the Politics of Past Violence): «هذه هي الأسئلة التي يتعامل معها الأشخاص المنخرطون في العمل التذكاري باستمرار. إنه عمل سياسي بعمق».
خلال الأسابيع التي أمضيتها في البحث في ثقافة الذاكرة مترامية الأطراف التي نشأت بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ممثلة في فساتين الزفاف الدامية، والسيارات الصغيرة المحترقة، ورسائل البريد الصوتي النهائية المتواصلة، بحثت دون جدوى عن أدلة على أن هذه الأسئلة كانت محل صراع بأي شكلٍ من الأشكال لدى من يستغلون الحدث. ولم أجد أي ذكرٍ لحقيقة أن العديد من الحقائق ما تزال غير معروفة، وهذا هو السبب في أن العديد من أسر الضحايا تطالب بإجراء تحقيق مستقل.
يبدو أن الهدف الأساسي لهذه الأعمال المتنوعة، باستثناءات قليلة للغاية، هو نقل الصدمة إلى الجمهور: إعادة خلق الأحداث المرعبة بمثل هذه الحيوية والحميمية بحيث يشعر المشاهد أو الزائر بنوع من اندماج الهوية، كما لو أنه تعرض للانتهاك بنفسه.
وقال أحد سكان نيويورك الذي شاهد «المسرحية التوثيقية» المعنونة 7 أكتوبر: «شعرت وكأنني أعيش التجربة بالفعل […] لقد شعرت وكأنني هناك وكانت [المسرحية] قادرة على نقل هذا الشعور إليّ». وكان المنتجون سعداء للغاية بردود الفعل التي شاركها الناس على وسائل التواصل الاجتماعي. لقد ترك عرض الفيلم الذي أنتجته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن السابع من تشرين الأول/أكتوبر «الجمهور في حالة من الفوضى». وقال جوناثان غرينبلات (Jonathan Greenblatt) من رابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League) لصحيفة نيويورك تايمز: «لقد خرج الناس من الغرفة في حالة صمتٍ، إما باكين أو ببساطة في حالة صدمة»، وكان ذلك أيضًا بمثابة إطراء لمنتجي الفيلم.
تهدف جميع الجهود المبذولة لإحياء الذكرى إلى تحريك قلوب الأشخاص الذين لم يكونوا حاضرين. ولكن ثمة فرق بين إلهام الارتباط العاطفي ووضع الناس عمدًا في حالة من الصدمة والرعب. إن تحقيق النتيجة الأخيرة هو السبب وراء التباهي الكبير الذي يبديه إحياء ذكرى السابع من أكتوبر بأنه ووصفه بأنه تجربة «غاشية»[4]، فهو يمنح المشاهدين والمشاركين فرصة التعمق في آلام الآخرين، استنادًا إلى افتراض توجيهي مفاده أن كلما زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من صدمة السابع من أكتوبر كما لو أنها صدمتهم، كان العالم أفضل حالًا. أو بالأحرى، كانت إسرائيل أفضل حالًا.
ولا يوجد مكان يكون فيه هدف نقل الصدمة أكثر وضوحًا مما هو عليه في قطاع «السياحة المظلمة» المزدهر في إسرائيل. فمنذ أشهر، ترعى الكُنُس اليهودية والاتحادات اليهودية من مختلف أنحاء العالم رحلات تأخذ مؤيديها في «مهام تضامنية» إلى جنوب إسرائيل. وتصطف حافلاتهم السياحية على أطراف موقع مهرجان نوڤا، الذي أصبح الآن مليئًا بالنصب التذكارية لمئات الأشخاص الذين قتلوا واختطفوا هناك. ويتخطون أيضًا الأنقاض ليتجهوا إلى الكيبوتسات التي ما تزال مدمرة، ما يثير الذعر في نفوس بعض السكان المحليين.
قامت المراسلة مايا روزن (Maya Rosen) في شباط/فبراير الماضي بتتبع العديد من هذه الجولات من أجل إعداد مقال موسع في صحيفة جويش كرنتس (Jewish Currents)[5] حول هذه الظاهرة المخيفة. لقد شاهدَتْ منازلًا مدمرة أُبقي عليها كما هي مثل أضرحة، بما في ذلك منزل زوجين يبلغان من العمر 23 عامًا قُتلا في الهجوم. وتتنقل الجولات عبر غرف المتحف حيث طبعت «لقطات من محادثات واتساب المحمومة الأخيرة التي أجرتها [سيفان] إلكابيتس مع والديها ولصقها على الجدران، إلى جانب الرسائل التي كتبتها والدتها لها بعد وفاتها».
يتجاوز هذا مجرد السعي إلى «لمس ‘الحقيقي’»، وهو المصطلح الذي استخدمته الباحثة في جامعة كوينز في بلفاست ديبي ليسل (Debbie Lisle) لوصف الأعداد الكبيرة من السياح الذين توافدوا إلى موقع بؤرة التصادم (Ground Zero) بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وبسبب الحجم الهائل من الاتصالات الشخصية المكثفة المحفوظة الآن من خلال الرسائل الصوتية والنصية (والعديد من سكان هذه المجتمعات كانوا يرسلون الرسائل النصية ويتصلون بشكل متواصل لعدة ساعات، في انتظار المساعدة التي لم تصل أبدًا)، إلى جانب إمكانية الوصول إلى المواقع المادية التي تركت فيها الدماء وعلامات الصراع دون مساس، يشعر المشاركون في هذه الرحلات وكأنهم تعرضوا هم أنفسهم لهجوم مطوِّلٍ.
«أخبرتني حاخامة أميركية قادت رحلة لمجتمعها عن سماعها قصة تلو الأخرى عن أشخاص قُتلوا»، كما تكتب روزن. لقد تعلموا كل شيء، «خطوة بخطوة، أماكن قتلهم، وكيفية قتلهم، وعدد الساعات الذي حُبسه الناس في غرفهم الآمنة، والموعد الذي أُطلِق النار فيه على الناس من خلال نوافذهم أو موعد إخراجهم من منازلهم. وقالت إن هذه الصور تسببت لها في كوابيس استمرت لمدة خمس ليالٍ».
وهناك تجارب تجسيدية أخرى معروضة، بما في ذلك في «ساحة الرهائن» (Hostages Square) في تل أبيب، حيث يتمكن السياح من دخول نفق حماس الخرساني المظلم الذي يبلغ طوله 30 مترًا. لمحاكاة تجربة الرهائن، وقد جُهِّز المبنى بصوت الانفجارات المحيطة الناجمة عن القتال في الأعلى.
من الصعب تصديق هذه النصب التذكارية وهذه المشاريع التأبينية، نظرًا لكثرتها، ولكن ما سيجهز قريبًا أكثر بكثير مما جُهِّز بالفعل. ورغم تفاقم الأزمة الاقتصادية، وافقت الحكومة الإسرائيلية الشهر الماضي على اقتراح من نتنياهو بإنفاق 86 مليون دولار على مشاريع إحياء الذكرى المستقبلية المتعلقة بهجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر والحملات العسكرية متعددة الجبهات التي اندلعت منذ ذلك الحين. وستُنفقُ الأموال للحفاظ على «البنية التحتية التراثية» (أي المباني المتضررة)، وإنشاء موقع تذكاري جديد، وإقامة عطلة وطنية سنوية، وغير ذلك الكثير.
في هذه الأثناء، بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون القيام بالرحلة إلى إسرائيل، فتتاح لهم تجارب الواقع الافتراضي (VR)، بما في ذلك جولة الواقع الافتراضي «غلاف غزة 360» (Gaza Envelope 360 tour)، وهو مقطع فيديو مدته 35 دقيقة، يُعرض باللغتين الإنجليزية والعبرية، ويوجه المشاهدين حول المجتمعات الإسرائيلية التي تعرضت للهجوم في 7 أكتوبر. وفي جزء من الجولة المنشورة على الإنترنت، يقوم شقيق إحدى الضحايا بجولة بالكاميرا حول المنزل الذي وقع فيه الهجوم، ويشير إلى الدماء التي ما تزال على الأرض. وهذا أيضًا من الأنواع الفرعية لفعاليات 7 أكتوبر: حيث تدعو إحدى «منصات سرد القصص الغاشية» الزوار إلى مجموعة مختارة من الجولات ثلاثية الأبعاد للمنازل. في أثناء تنقلك من غرفة مليئة بالحطام إلى أخرى، يُشغَّل صوت رسائل مرعبة أُرسلت إلى الأقارب من الغرف الآمنة.
كما توجد أيضًا المزيد من التجارب الصادمة الملموسة التي نمر بها في أثناء سفرها حول العالم. ومن أبرز هذه المعارض (وأكثرها إثارة للجدل) معرض نوڤا. صُمم هذا المعرض الضخم ذو الإضاءة الخافتة لإعادة خلق شكل مهرجان الموسيقى حتى الرمال وخيام التخييم والسيارات المحروقة، ونقل الشعور الجسدي بتجربة غامرةٍ توقفت فجأة بسبب العنف المروع. وقد استقطب المعرض، الذي ما يزال متجولًا، والذي يتضمن عناصر حقيقية جُمعت من الموقع، أكثر من 100 ألف زائر في نيويورك وحدها، بما في ذلك العديد من السياسيين.
وهذا، مرة أخرى، يشكل انحرافًا عن الطريقة التي يحيي بها الفنانون ذكرى الأحداث المؤلمة الأخيرة، من عمليات إطلاق النار الجماعي [في المدارس الأميركية مثلًا] إلى الكوارث المناخية. وعادة ما يكون العمل أكثر إبهامًا، حيث يضع في اعتباره إعادة صدمة الأسر، وإرهاب الزائرين، وعدم احترام الموتى. على سبيل المثال، لا يميل أنصار ذكرى ضحايا العنف المسلح إلى جلب المتفرجين بأعداد كبيرة إلى ممرات المدارس الثانوية المظلمة المليئة بالدماء المزيفة وأصوات إطلاق النار وصراخ الأطفال اليائس من أجل تحفيز تحرك الناس ضد العنف المسلح.
وقد قارنت إحدى المراجعات لموقع Filthy Dreams الفني معرض نوڤا بمزيج غريب بين الغناء الجماعي حول نار المخيم وأحد تلك البيوت الجحيمية الإنجيلية[6]، المصممة لتخويف المراهقين من أخطار ممارسة الجنس قبل الزواج. تساءلت الناقدة الفنية إيميلي كولوتشي (Emily Colucci) «هل نحتاج حقًا إلى الوقوف على حصائر يوغا الضحايا لنشعر بأهوال القتل التي تعرض لها الناس في مهرجان موسيقي؟ هل الجلوس على كرسي مقلوب أثناء التحديق في الجثث المشوشة هو حقًا أفضل طريقة لتذكر الموتى؟ ولماذا المكان مظلم جدًا هنا؟! لقد فهمت أن السابع من أكتوبر كان يومًا سيئًا دون أن أفعل هذا».
ثمة فرق بين فهم حدث ما، وهو ما يحافظ على القدرة التحليلية للعقل وكذلك إحساس المرء بذاته، وبين الشعور بأنك تعيشه شخصيًا. وهذا الأخير لا ينتج الفهم، بل ينتجُ ما أسمته سودارو «صدمة اصطناعية»، والتي تكتب أنها مواتية للغاية لـ «ثنائية تبسيطية بين الخير والشر ولها آثار سياسية مهمة».
ويُشجّع مستهلكو هذه التجارب على الشعور برابطة خالصة مع الضحايا، الذين هم جوهر الخير، وكراهية خالصة لمعتديهم، الذين هم جوهر الشر. إن حالة الصدمة هي شعور محض، رد فعل محض. الرؤية ضيقة، رؤية نفقية. ولا نسأل في هذه الحالة عمَّا لا يدخل في إطار التجربة الغاشية. وفي حالة طوفان الأعمال الفنية العارِم التي تُنتجُ لإحياء ذكرى السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فإن ما لم يُضمَّنُ فيه هو فلسطين، وتحديدًا قطاع غزة. لم تُضمَّنُ عقودٌ من ظروف الحياة الخانقة على الجانب الآخر من الجدار والتي أدت إلى الهجمات، ولم تُضمَّنُ حيوات عشرات الآلاف من الشعب الفلسطيني، بما في ذلك أعداد مروعة من الرضع والأطفال، الذين قتلتهم وشوهتهم إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
وهنا مربط الفرس.
فعندما يحاول السُيَّاح اليهود القادمون من نيويورك أو مونتريال الاندماج مع الصدمة في موقع مهرجان نوڤا، أو في أحد الكيبوتسات المدمرة، فإنهم يكونون قريبين بما يكفي من قطاع غزّة لسماع انفجارات القنابل الإسرائيلية في جباليا وخان يونس، ولرؤية الدخان، وفي الأيام الثقيلة من القصف، يمكنهم الشعور بالاهتزازات في أجسادهم. ولكن كما ذكرت مايا روزن، فعلى الرغم من شدة هذا القصف، يبدو الأمر كما لو أنهم لا يستطيعون السماع، أو لا يستطيعون استيعاب ما يسمعونه. لاحظ أحد أعضاء الفريق العامل في هذه الرحلات أن المشاركين «يعيشون في أعماق صدماتهم، وأن هذه الصدمة تطغى على المعاناة التي تسببها الحرب».
ويقول هؤلاء السياح، مثل مستهلكي العديد من هذه التجارب المروعة والغاشية (وإن كانت انتقائية للغاية)، إنهم هناك «ليشهدوا»، وهو شعار تخليد الذكرى في العصر الحديث. ولكن ليس من الواضح بالضبط ما الذي يقصدونه. وعندما يتحدث الخبراء في مجال الفظائع الجماعية عن أهمية «الشهادة» (Bearing Witness)، فإنهم يشيرون إلى طريقة محددة للرؤية. إن هذا النوع من الشهادة، التي تتعلق في كثير من الأحيان بجرائم طالما أنكرت أو قمعتها دول قوية، هو بمثابة فعل رفض، رفضٌ لهذا الإنكار. وهي أيضًا طريقة لتكريم الموتى، سواء من خلال الحفاظ على قصصهم حية، أو من خلال تجنيد أرواحهم في مشروع يسعى إلى تحقيق العدالة لمنع تكرار الفظائع المماثلة في المستقبل.
ولكن لا تُقام ولا تُخلد كل هذه الشهادات من أجل تحقيق الهدف آنف الذكر، بل وفي بعض الأحيان، تكون الشهادة في حد ذاتها شكلًا من أشكال الإنكار الذي تحشده الدول الذكية لتبرير فظائع أخرى أعظم بكثير. إن هذا النوع من التفكير الضيق والموجه بإفراط نحو جماعتك الداخلية، يصبح وسيلة لتجنب النظر إلى الحقائق القاسية لهذه الفظائع، أو تبريرها بفاعلية. تشبه هذه الشهادة الاختباء، وفي أقصى حالاتها، قد توفر مبررات للإبادة الجماعية.
وفي هذا السياق كانت بعض المناقشات الأكثر إثارة للجدل في العام الماضي في معسكر مناهضة الحرب تدور حول سياسات الحداد، مما أدى إلى ظهور معجم جديد ومؤلم للحزن. في حين أبدى كثيرون (بمن فيهم أنا) حزنهم علنًا على المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا في هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أشار كثيرون أيضًا إلى أن حياة الفلسطينيين تُعامل منهجيًا باعتبارها «لا تستحق الحزن» (مستشهدين بعبارة من جوديث بتلر). وعلى النقيض من ذلك، فإن حياة الإسرائيليين، على حد تعبير المؤرخ غابرييل وينانت (Gabriel Winant) «تستحق الحُزن مسبقًا»، نظرًا «لوجود جهازٍ جاهزٍ يأخذ موتهم ويعطيهم ليس فقط أي معنى، ولكن على وجه التحديد المعنى الذي يجدونه في القنابل التي تسقط على قطاع غزّة».
ورأى عالم الأنثروبولوجيا الأسترالي اللبناني غسان الحاج «حزنًا عنصريًا» بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لأن «الإسرائيليين الذين قُتلوا، على عكس الفلسطينيين الذين يُقتلون طوال الوقت، كانوا مميزين. لقد كانوا أمواتًا متفوقين وكان لا بد من الانتقام لهم بطريقة تذكر الجميع، وخاصة القتلة، بمدى تفوقهم. وكتب الباحث الفلسطيني عبد الجواد عمر مقالًا لاذعًا أشار فيه إلى أن وضعية الحداد ذاتها تنطوي على قدر من المسافة من الحدث المؤلم، وهي مسافة غير متاحة للفلسطينيين الذين يواجهون غضب إسرائيل الإبادي. «حتى يتم التوصل إلى وقف إطلاق نار حقيقي يسمح لنا بالبدء في الحداد، فإن مقاومتنا ستواصل النضال من أجل حقنا في الحداد».
الفن والانتقام
ورغم أن السرعة (ونعم، الابتذال) التي حولت بها إسرائيل معاناة السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى منتجات إعلامية وسياحية مثيرة للإعجاب، فإنها ليست سابقة. حيث حُوِّلت صور موقع هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الفور إلى معارض فنية، ولم تكن أفلام الكوارث بعيدة عن اللحاق بالركب. وبدأ النقاش حول كيفية إحياء ذكرى موقع الحادث على الفور تقريبًا، كما بدأت الرحلات السياحية إليه مباشرةً بعد حدوثه.
والأمر الأكثر أهمية، وكما هو الحال في إسرائيل اليوم، هو أن هذه التحركات لتحويل أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى تجربة من شأنها أن تثير مشاعر محددة، أي الحزن والفخر والوطنية، حدثت بالتوازي مع الرد العسكري الأميركي الشرس على تلك الهجمات. ولقد شكلت الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأكثر تعصبًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، والتي صورت العرب والمسلمين في كل الأحوال تقريبًا على أنهم إرهابيون متعطشون للدماء، جبهة ثقافية فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، ولعبت دورًا حاسمًا في تبرير أسوأ الانتهاكات التي ارتكبتها الولايات المتحدة، من ساحات المعارك في الفلوجة إلى زنزانات خليج غوانتانامو.
ويمكن العثور على أوجه تشابه أكثر إثارة للانتباه في التاريخ الاستعماري الأقدم. على سبيل المثال، عندما ناقشت هذا البحث مع زميلتي كافيتا فيليب (Kavita Philip)، وهي باحثة في مجال التكنولوجيا والأدب، شجعتني على النظر في موجة الفن البريطاني التي نشأت ردًا على التمرد الهندي في عامي 1857 و1858. كان الأمر أشبه بالنظر عبر بوابة في الزمن.
ثار جنود السيبوي الهنود[7] في عام 1857 ضد ضباطهم البريطانيين ضمن جزء من تمرد أوسع نطاقًا ضد النظام الاستبدادي لشركة الهند الشرقية البريطانية. وامتد التمرد إلى ما هو أبعد من الجيش، ليشمل الفلاحين وأصحاب الأراضي الذين كانوا يعانون تحت الحكم الاستعماري. وكما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فاجأت قوة الانتفاضة أهدافها: حيث وصل المتمردون بسرعة إلى دلهي، واستولوا على الترسانة البريطانية. وردت القوات البريطانية بعنف شديد، فأحرقت القرى بالكامل، كما ارتكب جنود السيبوي فظائع أيضًا: وفي الحادث الأكثر شهرة، احتُجِز ما يقرب من مئتي امرأة وطفل بريطانيون رهائنًا ثم قُتلوا في النهاية.
وفي الأشهر التي تلت ذلك، ظهر في بريطانيا نوعٌ من فنون الدعاية المرعبة، وانتشر في مختلف أنحاء الإمبراطورية. صُوِّر المتمردون الآسيويون في الرسومات والمطبوعات الحجرية والنقوش على أنهم قرود متوحشة أو نمور شرسة، في حين صُوِّرت النساء البريطانيات المقتولات على أنهن ملائكة ويشبهن أوفيليا. كانت الصور البانورامية الضخمة بزاوية 360 درجة، وبعضها يحتوي على مشاهد متحركة، وكانت الأكثر تأثيرًا، والتي منحت المشاهدين تجربة غاشية عن التواجد في ساحة المعركة، وهي تجربة منخفضة التكنولوجيا لتجارب الصدمة الواقعية الافتراضية (VR) المقدمة اليوم.
في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كانت السرعة مهمّة: فبينما كانت المعارك ما تزال مستعرة في شبه القارة الهندية، كان بوسع سكان لندن أن يذهبوا إلى ساحة ليستر، ويدفعوا شلنًا واحدًا، وتحاط بهم لوحة بانورامية لروبرت بورفورد (Robert Burford) بعنوان «المواجهة بين قوات صاحبة الجلالة وجنود السيبوي في دلهي»، أو بلوحة مطبوعة أكثر دموية بعنوان «المذبحة الغادرة للنساء والأطفال الإنجليز في كاونبور» من رسم نينا صاحب (Nena Sahib).
وقد أثارت هذه المشاهد المروعة الرغبة في الانتقام، مما أدى إلى بناء دعم حيوي للقمع البريطاني الذي أعقب الانتفاضة، والذي شمل حشودًا متجولة من الدَّهماء واستعراضًا كبيرًا للهيمنة الإمبراطورية مثل إعدام المتمردين بربطهم بالمدافع. وأسفرت الحملة في نهاية المطاف عن مقتل ما لا يقل عن 100 ألف مدني هندي، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين ماتوا بسبب الجوع والأوبئة التي شكلت جزءًا من الرد البريطاني. ولم يكن لدى الجنود الإمبراطوريين تطبيق تيك توك لمشاركة صورهم الفظيعة في ذلك الوقت، لكن الرسامين صوروا المتمردين مقيدين بأفواه المدافع بشكل واضح، وأظهر رسامو الكاريكاتير السياسي في المملكة المتحدة «العدالة» البريطانية العظيمة وهي تحمل سيفًا في يدها وتسحق أجسادًا بنية اللون تحت قدميها.
يحشدُ التاريخ بالحوادث التي ثار فيها السكان الأصليون، الذين عانوا من الجوع والبؤس بسبب القمع الاستعماري، وفي بعض الأحيان تضمنت تلك الثورات فظائع. وهذا بدوره يصبح ذريعة لأسيادهم الاستعماريين لإطلاق العنان لهجماتهم غير المبررة «لإبادة كل المتوحشين»، إلى حد الإبادة الجماعية. مع تصعيد إسرائيل لتهديداتها بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين الذين وصفتهم بـ«الحيوانات البشرية» قبل عام واحد، أشار علماء التاريخ المناهض للاستعمار مثل غسان الحاج وشيلجا باتيل (Shailja Patel) إلى أوجه التشابه هذه على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المجلات الصغيرة، بالاستعانة بتواريخ «الحملات العقابية الاستعمارية» في كل مكان من ناميبيا إلى مينيسوتا[8]. ولكن نادرًا ما كانت لديهم إمكانية الوصول إلى منصات كبيرة في أميركا الشمالية وأوروبا لتوفير هذا السياق.
وهذا أمر مؤسف، لأنه كان من شأنه أن يساعد على وضع أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر وتداعياتها في منظور تاريخي، ليس ذريعةً لجرائم الحرب التي ارتكبتها حماس، بل تحذيرًا من استغلال صدمة إسرائيل وإذلالها لتبرير العدوان الإمبريالي وانتهاكات الحقوق البشعة. ولكننا سمعنا القليل عن هذه القصص المكبوتة. ولكن حتى أوجه التشابه الواضحة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والتي كانت موجودة في كل مكان في الأيام الأولى، سرعان ما تلاشت.
خلط السابع من أكتوبر بالهولوكوست
في مكانها، على الأقل في إسرائيل وفي كثير من الصحافة الغربية، كانت هناك نقطة مرجعية تاريخية فريدة للهجمات. أنا أتحدث، بطبيعة الحال، عن المقارنة المستمرة والمتكررة بين السابع من أكتوبر والهولوكوست النازي. في قلب علاقات القوة الفعلية، يصور هذا القياس الفلسطينيين، الذين لا يحظون حتى بدولة مستقلة والذين يعيشون تحت الحصار الإسرائيلي المطول والاحتلال غير القانوني والفصل العنصري، على أنهم نازيون، وتُصوَّرُ إسرائيل، التي تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم، وبدعم من القوة العظمى الأميركية، وسياسة واضحة لتوسيع كتلتها الأرضية ومحو الوجود الفلسطيني بطريقة استعمارية صارخة، على أنها ضحاياهم العاجزين.
وهذه قصة مثيرة للجدل إلى حد كبير، ففي أذهان العديد من الإسرائيليين وأنصارهم فإن عودة التهديد على مستوى الهولوكوست يبرر أي رد فعل تقريبًا. وكما قال عبد الجواد عمر: «يُحوِّل هذا الشكل الاستعماري من الحِداد الفلسطينيين إلى ما يعادل العماليق في العصر الحديث، مما يغذي الرغبة في السلطة والاستقلال والعسكرة غير المنضبطة. وهذا يؤدي إلى خلق خطاب عنصري يعيد توجيه الحزن والغضب الناجمين عن الهولوكوست نحو شعب كان موجودًا ببساطة في مكان كان من المفترض أن تنشأ فيه دولة إسرائيل».
وتؤدّي سلسلة الأعمال الفنية والنصب التذكارية لذكرى السابع من أكتوبر دورًا كبيرًا في ترسيخ هذه القصة المقلوبة، وهي تتبع الأساليب والطرق التقليدية التي صُقلت في تعليم الهولوكوست وتخليد ذكراه على مدى عقود عديدة. ويبدو التقليد واضحًا على العديد من الجبهات. إن هذا الأمر موجود في الاختيار المستمر للغة لوصف العمل التذكاري («لن ننسى أبدًا»، «لن تتكرر أبدًا»، «الشهادة»). يتجلى هذا الأمر في القرار بخلق العديد من الفرص «الغاشية» «لتجربة» السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والذي يعتمد على التحرك في تعليم الهولوكوست نحو غمر الشخص في التجربة وفي المحاكاة الواقعية للغاية، من الرحلات المدرسية إلى عربات الماشية المجهزة بهولوغرامات للسجناء اليهود، إلى إعطاء تلاميذ المدارس جوازات سفر وهمية حتى يتمكنوا من تخيل أنفسهم يُحمَّلون على تلك العربات.
خلط الأحداث أمر شائع. يقدم الموقع الإلكتروني الذي يقدم جولات «غلاف غزة 360» أيضًا جولات «أوشفيتز 360». يتضمن معرض نوڤا المتنقل عرضًا للأحذية «المفقودة والتي عُثِر عليها» في موقع المهرجان، وهو يأخذنا إلى بعض ذكريات الهولوكوست لا يمكن إلا لقليل من الناس أن يغفلوا عنها. وذكرت شبكة هيئة الإذاعة الوطنية [الأميركية] (NBC) أن «صفوف الأحذية تذكرنا بعرض مماثل في متحف الهولوكوست التذكاري الأميركي في واشنطن العاصمة، والذي يرمز إلى الستة ملايين يهودي الذين قتلوا في الهولوكوست». والخلط موجود أيضًا في السياحة المظلمة: تمر بعض الرحلات في الواقع إلى جنوب إسرائيل عبر بولندا، وتتوقف في أوشفيتز كـ «مهمة اختيارية مسبقة».
وفي حال فات الأمر أحدهم، فقد اختارت مجموعة المناصرة المؤثرة حركة مكافحة اللاساميّة (Combat Antisemitism Movement) الاحتفال بيوم ذكرى الهولوكوست من خلال الترويج لفيديو صوِّر في النصب التذكاري لليهود الذين قتلوا في أوروبا في برلين. فوق الألواح الخرسانية الداكنة التي ترمز إلى مذبحة النازيين لملايين الأشخاص، يستخدم «العمل الفني الرقمي» طائرات بدون طيار لتحلِّق ببنطال رياضي عملاق ملطخ بدماء مزيفة، بهدف أن يرمز إلى العنف الجنسي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وترفع طائرات بدون طيار أخرى نجمة صفراء تسأل: «لن تتكرر أبدًا؟» هناك، في لوحة واحدة، تُدمجُ الصدمتين بصريًا في صرخة واحدة شاملة عابرةً للمحيطات والقرون والسلطة والشعوب والنطاق.
لا بد من القول أن هذا سلوك غريب. ولكن الأمر ليس غريبًا مثل التفصيل الذي صادفته في مقال حول التقليعة الإسرائيلية الأخيرة للوشم المتعلق بيوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقال أحد الفنانين، الذي نقلت عنه مجلة هداسا، إن أحد العملاء توصل إلى «مفهوم» يتضمن كتابة تاريخ الهجوم «1072023 مثل الأرقام التسلسلية التي تلقاها السجناء في أوشفيتز».
وقد شاركت بعض المؤسسات الأكثر أهمية والمكلَّفة بحماية ذكرى الهولوكوست للأجيال القادمة طواعية في هذا الخلط. على سبيل المثال، أضافت مؤسسة المحرقة (Shoah Foundation) النفيسة، والتي تضم أرشيفًا ضخمًا من شهادات الفيديو من الناجين من الهولوكوست، فئة جديدة هذا العام: «مقابلات مع الناجين من السابع من أكتوبر». وفي مسيرة الأحياء إلى أوشفيتز هذا العام (March of the Living to Auschwitz)، حرص المنظمون على دعوة «الناجين الإسرائيليين من الهولوكوست الذين نجوا من هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر».
وقد دفعت حوادث مثل هذه ماريان هيرش (Marianne Hirsch)، الأستاذة الفخرية في جامعة كولومبيا والباحثة المحترمة في مجال الذاكرة الصادمة وإحياء الذكرى، إلى كتابة مقال مؤثر تتحدى فيه زملاءها المتخصصين في دراسات الهولوكوست للتشكيك في الفائدة من أساليب تخليد الذكرى القائمة على تمرير الذكريات الصادمة من جيل إلى جيل (وهي العملية التي وصفتها بأنها خلق لـ «ما بعد الذاكرة»).
وفي إحدى المقابلات، أخبرتني أن تخليد الذكريات التاريخية الصادمة يمكن أن يتم بطرق تشجع على الشفاء الجماعي والشعور بالتضامن عبر الانقسامات. ولكن هناك أوقات أيضًا حيث لا يكون الشفاء هو الهدف بالنسبة للجهات السياسية الفاعلة داخل هذه المجموعات، فالحفاظ على الصدمة حية، على الرغم من مرور الوقت وتغير الظروف، أكثر فائدة إلى حد كبير. وقالت: «في بداياتها، كانت دراسات الهولوكوست تدور في الغالب حول كيفية إبقاء الجروح مفتوحة ونقل الصدمة بشكل مباشر قدر الإمكان». لقد كان الأمر يتعلق أيضًا بتقديم معاداة السامية باعتبارها قوة ثابتة وموجودة في كل مكان من الطبيعة، وبوصفها كراهية في فئة خاصة بها، وهي نظرة عالمية أطلق عليها الحاخام والباحث شاؤول ماغيد (Shaul Magid) اسم «الشؤم اليهودي» (Judeopessimism).
وتقول هيرش إن هذا له علاقة كبيرة بمدى ارتباط ذاكرة الهولوكوست بالصهيونية، حيث صُوِّر إنشاء دولة إسرائيل المسلحة للغاية على أنها «خلاصٌ» من تدمير الهولوكوست. في هذه الرواية السائدة في المدارس اليهودية، والمعسكرات الصيفية، والمعابد اليهودية، ورحلات حق العودة اليهودية إلى إسرائيل، فإن «الشفاء يأتي فقط من ‘الوطن’». وهذا يعني أنه عندما يتعرض الوطن لهجوم مكثف، كما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فإن كل الصدمات، المزروعة من خلال تلك الأفلام والمتاحف والمذكرات وقصص الرعب، تعود إلى الذاكرة مرة أخرى، ويصبح التهديد وجوديًا. وإذا كان صحيحًا أن الهولوكوست يمكن أن يعود في أي وقت، وأن إسرائيل هي الضمانة الوحيدة ضد حدوث ذلك، فإن هذا «يخلق نوعًا من الذريعة لكل ما تريد إسرائيل أن تفعله»، وهي الذريعة التي رأينا آثارها المروعة في أفعالها المتواصلة على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية.
تشعر هيرش بالانزعاج الشديد من هذه الخلط التاريخي، سواء من موقعها باحثةً أو ابنةً لأحد الناجين من الهولوكوست. وفي رأيها، فإن المقارنة بين المذابح الجماعية التي ارتكبها النازيون وحملة القتل التي نفذتها حماس على مدار يوم كامل من شأنها أن «تقلل من أهمية الهولوكوست. وهذا يسيء إلى الضحايا. وهذا خاطئ تمامًا من الناحية التاريخية». ولكن هذا يثير السؤال التالي: لماذا يبدو أن العديد من الزعماء اليهود البارزين يريدون أن تعاني إسرائيل من محرقة العصر الحديث الخاصة بها، بما يكفي للاستسلام لهذه المقارنات الخاطئة والخطيرة؟
على مستوى ما، فإن هذا لا معنى له: إن السبب الرئيس وراء قيام دولة إسرائيل هو ادعاؤها بأنها وحدها القادرة على ضمان سلامة اليهود في مواجهة كراهية اليهود، والتي تُصوَّر بوصفها قوة بدائية في النفس البشرية يمكن أن تثور بغضب إبادي في أي لحظة. لقد كانت هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر وحشية، لكنها لم تمثل تهديدًا إبادة للإسرائيليين أو لليهود كشعب. ولكن لماذا تريد إسرائيل تقويض مهمتها الأساسية من خلال الترويج لرواية تجعلها تبدو أقل أمنًا مما هي عليه في الواقع؟
هناك نظرية واحدة: إن الجرح في قلب تأسيس إسرائيل هو أن الفلسطينيين أُجبروا على دفع ثمن جرائم أوروبا. أجبروا على الدفع بأرضهم. بمنازلهم. بحريتهم. بدمائهم. ومرة تلو الأخرى، فيما أطلق عليه العديد من العلماء والقادة السياسيين الفلسطينيين، من حنان عشراوي إلى جوزيف مسعد «النكبة المستمرة». ولكن إذا كان الفلسطينيون هم النازيون الجدد، أو أسوأ من النازيين (كما سمعنا هذا العام)، وإذا كان السابع من تشرين الأول/أكتوبر بمثابة هولوكوست جديد، أو امتداد له، فإن هذا من شأنه أن يسوي الحسابات بعد وقوعها. وبعبارة أخرى، في الهوية الوطنية الجديدة التي تشكلت حول ذلك اليوم المؤلم، قد تكون إسرائيل أقل أمانًا من الناحية المادية مما كانت تدعي منذ فترة طويلة، ولكنها تعتقد أنها أكثر أمانًا من الناحية السياسية، لأنها، وفقا لهذا المنطق، لن تقوم على جريمة التطهير العرقي لشعب لم يشكل أبدًا تهديدًا وجوديًا لليهود. وهذا يعني أنه سيكون من الآمن أخيرًا الانتهاء من مهمة النكبة، والتي تبدو مشابهة إلى حد كبير لما يحدث في قطاع غزّة وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية.
وقد وجد هذا الاضطراب الخطير ما قد يكون تعبيره الأكثر وضوحًا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما تحدث ديفيد أزولاي (דוד אזולאי)، رئيس مجلس المطلة في شمال إسرائيل، إلى برنامج إذاعي إسرائيلي عن فكرته لما ينبغي أن يحدث في غزة ولـ 2.2 مليون فلسطيني يعيشون هناك. في نظر هذا السياسي المحلي، ينبغي للبحرية الإسرائيلية أن تنقل كل الفلسطينيين المتبقين «إلى شواطئ لبنان، حيث توجد بالفعل مخيمات كافية للاجئين» حتى «يشبه القطاع معسكر الاعتقال أوشفيتز […] وينبغي إفراغ قطاع غزة بالكامل وتسويته بالأرض، تمامًا كما حدث في أوشفيتز». وأضاف: «ليكن متحفًا لكل العالم ليرى ما يمكن أن تفعله إسرائيل. لا ينبغي لأحد أن يقيم في قطاع غزة أمام أعين العالم أجمع، لأن السابع من أكتوبر كان بمثابة هولوكوست ثانٍ».
إن فكرة استحضار أوشفيتز من أجل الدعوة إلى إبادة جماعية جديدة، بما في ذلك إنشاء معسكرات اعتقال جديدة في الحاضر، وفي حين تُمرّرُ بطريقة أو بأخرى على أنها دعوة لإحياء الذكرى، إلا أنها كانت أكثر مما يمكن احتماله لِمن يديرون النصب التذكاري في أوشفيتز. وردوا بمنشور على وسائل التواصل الاجتماعي جاء فيه: «يبدو أن ديفيد أزولاي يرغب في استخدام رمز أكبر مقبرة في العالم كنوع من التعبير الرمزي المريض والبغيض والفني الزائف. إن الدعوة إلى أفعال تبدو وكأنها تنتهك أي قوانين مدنية أو حربية أو أخلاقية أو إنسانية، والتي قد تبدو وكأنها دعوة إلى القتل على نطاق مماثل لأوشفيتز، تضع العالم كله وجهًا لوجه مع جنون يجب مواجهته ورفضه بحزم. ونحن نأمل أن ترد السلطات الإسرائيلية على هذه الإساءة المشينة، لأن الإرهاب لا يمكن أن يكون ردًا على الإرهاب».
ولم ترفض السلطات الإسرائيلية تحريض أزولاي. ربما لأن نتنياهو كان يصف ما تفعله الحكومة الإسرائيلية بشكل مستمر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حتى لو لم تتطابق التفاصيل بدقة: استخدام الإبادة الجماعية في الماضي لتبرير الإبادة الجماعية في الوقت الحاضر، كل هذا في حين يستخدم أنصارها الفن والأفلام والواقع الافتراضي والسياحة المظلمة، وحتى الموضة، لنقل الصدمات الإسرائيلية عبر العالم.
وتسمي ماريان هيرش هذا النوع من التذكر العسكري الرسمي بـ «الذاكرة التذكارية» (Monumental Memory). ولكنها تشير أيضًا إلى ذاكرة أخرى، متيمنة بما أسماه بميشيل فوكو «الذاكرة المضادة» أي تعبيرات الحزن والحداد التي تتصاعد من الأسفل، وترتبط غالبًا بالنضالات من أجل العدالة والشفاء الجماعي والتحول.
وعلى الرغم من أنَّ الأيام القادم ستشهدُ طوفانًا من صانعي النصب التذكارية على الأرجح، فإنها ستشهد أيضًا العديد من النصب التذكارية المضادة: مجموعات من الناس الذين يدركون أنه على الرغم من كل المعايير المزدوجة المؤلمة والتسليح الخطير، فإن الحزن هو عاطفة قوية ومستمرة وغير منضبطة. إنها تحتاج إلى مكان تذهب إليه، ويجب أن يُحتفظ بها جماعيًا.
وهكذا، فإن الكيبوتسات ستقيم طقوسها الخاصة، في مقابرها، بينما تتذكر الرهائن الذين تصلي من أجل أن يكونوا ما زالوا على قيد الحياة. تنظم منظمة إذا ليس الآن، فمتى؟ (IfNotNow)، وهي منظمة من الشباب اليهود التقدميين، تجمعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة تحت شعار «كل حياة، كون»، مطالبة بفرض حظر على الأسلحة، وإنهاء هجمات إسرائيل على غزة وغزوها للبنان، والحرية لجميع الأسرى. «دموعنا غزيرة بما يكفي، وقلوبنا كبيرة بما يكفي، للحزن على كل حياة أُزهقت، وكل كونٍ دُمّر، سواء كان إسرائيليًا أو فلسطينيًا. وليس إحداها. نحن بحاجة إلى بعضنا البعض: لا يمكن لليهود أن يكونوا آمنين إذا لم يكن الفلسطينيون آمنين وأحرارًا».
قبل أن يصبح هذا الأمل أكثر من مجرد شعار، لا بد من وجود نوع ما من التاريخ المشترك حول كيفية وصولنا إلى هذا المكان المؤلم، وهو ما قامت به جمعية ذاكرات الإسرائيلية[9] الفلسطينية المُهمَّة. منذ عقدين من الزمن، كانوا يعملون بهدوء على تثقيف الإسرائيليين اليهود حول سبب كون التاريخ الذي نشأوا عليه غير مكتمل بشكل خطير، لأن القصة المنتصرة والمخلصة لتأسيس إسرائيل لا يمكن فصلها عن التهجير الفلسطيني والنفي القسري، أي النكبة. وهكذا يقومون بتنظيم جولات إلى القرى الفلسطينية المدمرة والمهجورة، وتوزيع خرائط بديلة، وإقامة دورات وورش عمل، والدعوة إلى «مستقبل مشترك لجميع سكان هذه الأرض وجميع اللاجئين».
تعني كلمة زوخروت في اللغة العبرية «التذكر»، وعلى عكس إعادة الصدمة التي تمر حاليًا على أنها إحياء للذكرى، فإن التذكر بمعناه الحقيقي يعني جمع القطع المحطمة والمقطَّعة من الذات معًا (إعادة التذكر) على أمل أن تصبح متكاملة. تذكّر الأرض، وتذكّر الأشخاص المنفيين من الأرض، وتذكّر عمليات الإبادة الجماعية الاستعمارية السابقة التي شكلت وألهمت الهولوكوست النازي، والتي شكلت بدورها دولة إسرائيل. إننا نتذكر أن إسرائيل تعيش الآن في قبضة جنون الانتقام الاستعماري المسلح بالسلاح النووي على غرار الحملات العقابية الاستعمارية السابقة، والتي استخدمت أيضًا الفن والحزن الجماعي أسلحةً فعّالة للإبادة.
إن تحديد هذه الخطوط التاريخية العميقة، فيما ما أطلق عليه مايكل روثبرغ (Michael Rothberg)، الباحث في شؤون الهولوكوست في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، «الذاكرة متعددة الاتجاهات»، وهو عمل من أعمال إعادة التذكر، وهو يمثل أفضل أمل لنا في الخروج مما يبدو على نحو متزايد وكأنه حلقة إبادة جماعية متكررة إلى ما لا نهاية. ولكن هذا العمل يصبح أكثر صعوبة كل يوم، حيث يواجه الفلسطينيون ما وصفته الباحثة النسوية نادرة شلهوب كيفوركيان بأنه كارثة من التقطيع في أكثر صوره حرفية: أجساد مقطعة، وجغرافيا مقطعة، وجسم سياسي مقطع.
وفي هذه الأثناء، تواصل الحشود في شوارع غزة وبيروت التجمع مزغردةً تكريمًا لقتلاهم، مدركين أن حتى جنازاتهم ليست في مأمن من الموجة التالية من المذبحة الإسرائيلية.
إحالات:
[1] جدير بالذكر أنه وفي ذكرى السابع من تشرين الأول/أكتوبر الأولى، قُصفت تل أبيب من غزة ولبنان واليمن والعراق وهو ما أوقف مجموعة من العروض والفعاليات التي كانت مخططة لهذا اليوم مع بدء فرار الإسرائيليين في مواقع عدة بالهرب إلى الملاجئ (المُترجم). [2] أو كما يعرف بالعبرية باسم (מוזיאון הסובלנות-בית השואה)، ويعني بيت الهولوكوست، وهو متحف مبني على الوسائط المتعددة في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأميركية، وصُمّم حسب تعبير مؤسسيه لاختبار العنصرية والتحامل حول العالم مع تركيزٍ كبيرٍ على تاريخ الهولوكوست (المُترجم). [3] شبكة تلفزيونية مسيحية أميركية تأسست عام 1973 على يد الزوجين بول وجان كراوتش (Paul and Jan Crouch). تعد الشبكة واحدة من أكبر وأهم الشبكات المسيحية في العالم، حيث تبث برامج دينية متنوعة تشمل التعليم المسيحي، الموسيقى الدينية، الأفلام الروحية، والبرامج الحوارية التي تتناول موضوعات الحياة الروحية والاجتماعية. وتبث بلغات متعددة لتصل إلى جمهور عالمي في أكثر من 175 دولة (المُترجم). [4] سأستخدم صفة غاشية ترجمة لمفردة Immersive، لأن المنوط بها هنا تجربة تحجب عنك رؤية الصورة كاملة، أي أن يخوض الشخص تجربة تغمره فعلًا، ولكنها في الآن نفسه تكون غلافًا عليه وعلى قلبه، وتجعله منحازًا للتجربة، ولا يصدّق أي شيء خارجها ويأخذ موقفًا مناصرًا لإسرائيل تمامًا، ومعارضًا لفلسطين حتى النهاية، بل ويصير مؤيدًا للقتل وللإبادة الجماعية المُستمرة (المُترجم). [5] صحيفة يهودية معادية للصهيونية (المُترجم). [6] بيوت الجحيم الإنجيلية (Evangelical Hell Houses): فعاليات تمثيلية درامية تنظمها بعض الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة، وتقام عادة خلال موسم الهالوين. تهدف هذه الفعاليات إلى تقديم مشاهد مرعبة تصوّر العواقب الأخلاقية والدينية للأفعال التي تعتبرها الكنائس خطايا، مثل الإجهاض وتعاطي المخدرات والانتحار والممارسات الجنسية غير المشروعة. يُستخدم هذا الأسلوب لنقل رسالة دينية تدعو الجمهور إلى التوبة واعتناق الإيمان المسيحي من خلال إثارة الخوف من العقاب الأخروي أو الجحيم، وهو ما يعتبره المنظمون وسيلة فعالة للتبشير (المُترجم). [7] ثورة الهند أو ثورة السيبوي (Sepoy Rebellion) التي وقعت في عام 1857 تُعتبر إحدى أكبر الانتفاضات ضد الحكم البريطاني في الهند ضد حكم شركة الهند الشرقية. قاد هذه الثورة الجنود الهنود (السيبوي) الذين كانوا يعملون ضمن الجيش البريطاني الهندي. أدّى المسلمون دورًا رئيسًا في هذه الانتفاضة، إلى جانب الهندوس، حيث توحدوا في البداية لمقاومة التدخل البريطاني والظلم الاستعماري. ومع ذلك، استغل البريطانيون سياسة فرّق تسد لزرع الفتنة بين المسلمين والهندوس من خلال استثارة الاختلافات الدينية. وقد ساهمت هذه الاستراتيجية في إضعاف الحركة، مما سهل على البريطانيين قمع الثورة وتعزيز قبضتهم الاستعمارية على الهند، ممهدين الطريق لحكم استعماري طويل الأمد (المُترجم). [8] شهدت الشعوب الأصلية في كل من ناميبيا ومينيسوتا قمعًا استعماريًا وحشيًا شبيهًا بما تعرضت له الشعوب الأصلية في مناطق أخرى من العالم. ارتكب الاستعمار الألماني في ناميبيا بين عامي 1904 و1908 واحدة من أولى الإبادات الجماعية في القرن العشرين ضد شعبي الهيريرو والناما، حيث شن الجيش الألماني حملات عقابية تهدف إلى الإبادة بعد تمرد السكان الأصليين. وتعرض السكان الأصليون في مينيسوتا من شعب الداكوتا لقمع استعماري مماثل خلال انتفاضة 1862، والتي أدت إلى تنفيذ أكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأميركي. يستخدم الباحثون هذه الأحداث نماذج لسياسات «التطهير» التي غالبًا ما يتبعها المستعمرون بعد أي مقاومة محلية (المُترجم). [9] «زُخْرُوت» (أو Zochrot، وتعني «ذاكرات» أي جمع ذاكرة): جمعية إسرائيلية تأسست عام 2002 بهدف رفع الوعي حول النكبة الفلسطينية بين الجمهور اليهودي الإسرائيلي. وتسعى المنظمة إلى استعادة الذكرى الجماعية حول القرى الفلسطينية المهجرة خلال نكبة 1948، وتدعم حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. تقدم «زُخْرُوت» معلومات وخرائط عن القرى المدمرة، وتنظِّم فعاليات وورش عمل لتسليط الضوء على الأثر المستمر للنزوح والتهجير، وتسعى للتصدي للسرديات الرسمية التي تغفل أو تبرر هذه الأحداث ضمن السياق التاريخي (المُترجم).
المصدر: عرب 48