كيف غيّرت مسار الطبّ في العالم؟
في 8 نوفمبر 1895، أثناء عمله في مختبره المظلم، لاحظ رونتجن شيئًا غير عاديّ، وولاحظ أنّ شاشة الفلورسنت في مختبره بدأت تتوهّج على الرغم من أنّها لم تكن في المسار المباشر لأشعّة الكاثود، وأدرك أنّ أشعّة الكاثود تنبعث منها شكل غامض
في أواخر القرن التاسع عشر، كان عالم العلوم على وشك تحقيق تقدّم ملحوظ من شأنه أن يغيّر مسار الطبّ والصناعة وعدد لا يحصى من المجالات الأخرى، وكان فيلهلم كونراد رونتجن، عالم الفيزياء من أصل ألمانيّ، على وشك تحقيق اكتشاف من شأنه أن يسلّط الضوء على ما هو غير مرئيّ ويحدث ثورة في فهمنا للعالم الطبيعيّ، ولم يكن هذا الاكتشاف سوى الأشعّة السينيّة.
قبل الخوض في عمل رونتجن الرائد، كان هناك مساهمات العلماء الأوائل الّذين مهّدوا الطريق لاكتشاف الأشعّة السينيّة، وكان أحد هؤلاء الروّاد هو السير ويليام كروكس، وهو عالم فيزياء إنجليزيّ أجرى تجارب على أشعّة الكاثود في أواخر القرن التاسع عشر، وأدّى عمله إلى تطوير أنابيب كروكس، وهي عبارة عن أنابيب مفرغة تستخدم لتوليد أشعّة الكاثود، حيث لعبت هذه الأنابيب دورًا حاسمًا في تطوير تقنيّة الأشعّة السينيّة.
ومن الشخصيّات الرئيسيّة الأخرى هاينريش هيرتز، الفيزيائيّ الألمانيّ، الّذي أجرى تجارب على الموجات الكهرومغناطيسيّة، ممّا يدلّ على وجود موجات الراديو، وكان لعمل هيرتزّ دورًا أساسيًّا في فهم خصائص الإشعاع الكهرومغناطيسيّ، وهو المفهوم الّذي أثبت أهمّيّته في اكتشاف الأشعّة السينيّة.
كان فيلهلم كونراد رونتجن، المولود في 27 مارس 1845 في لينيب، بروسيا (ألمانيا الآن)، فيزيائيًّا يتمتّع بفضول لا يشبع، حيث بدأت رحلته لاكتشاف الأشعّة السينيّة عام 1895 عندما كان يعمل أستاذًا للفيزياء في جامعة فورتسبورغ، وكان رونتجن يقوم بإجراء تجارب على أشعّة الكاثود، وهي عبارة عن تيّارات من الإلكترونات يتمّ إنتاجها في أنبوب مفرّغ.
في 8 نوفمبر 1895، أثناء عمله في مختبره المظلم، لاحظ رونتجن شيئًا غير عاديّ، وولاحظ أنّ شاشة الفلورسنت في مختبره بدأت تتوهّج على الرغم من أنّها لم تكن في المسار المباشر لأشعّة الكاثود، وأدرك أنّ أشعّة الكاثود تنبعث منها شكل غامض وغير مرئيّ من الإشعاع يمكنه اختراق الأجسام الصلبة، وكان هذا الاكتشاف بمثابة ولادة الأشعّة السينيّة.
وكانت تجارب رونتجن الأوّليّة مع الأشعّة السينيّة دقيقة وحذرة، حيث قام أوّلًا بتغليف الأنبوب المفرغ بورق أسود لحجب أيّ ضوء مرئيّ منبعث من أشعّة الكاثود، ولم يتبقّ سوى الأشعّة الغامضة الّتي اكتشفها، ثمّ وضع أشياء مختلفة أمام الأنبوب المفرّغ ولاحظ الصور الناتجة على شاشة الفلورسنت، ولدهشته، ألقت الأشياء ظلالها على الشاشة، كاشفة عن بنيتها الداخليّة.
وأوّل شيء استخدمه رونتجن لإثبات قوّة اختراق الأشعّة السينيّة كانت يد زوجته بيرثا، والصورة المخيفة ليدها الهيكليّة، مع وجود خاتم في إصبعها، أسرت المجتمع العلميّ والعالم، حيث لم تثبت هذه الصورة التاريخيّة وجود الأشعّة السينيّة فحسب، بل أظهرت أيضًا قدرتها على إحداث ثورة في الطبّ.
ولم يسارع رونتجن، وهو عالم ماهر، إلى إعلان اكتشافه للعالم، وبدلًا من ذلك، واصل تجاربه وقام بتوثيق النتائج الّتي توصّل إليها بعناية، ومع ذلك، بدأت أخبار اكتشافه الرائع في الانتشار، وكان المجتمع العلميّ يترقّب بفارغ الصبر إعلانه الرسميّ.
وفي 28 ديسمبر 1895، كشف رونتجن أخيرًا عن اكتشافه للعالم من خلال محاضرة ألقاها في جمعيّة الطبّ الفيزيائيّ في فورتسبورغ، وأوضح في عرضه استخدام الأشعّة السينيّة لالتقاط صور لأشياء مختلفة، بما في ذلك العظام والأشياء المعدنيّة المخبّأة داخل المظاريف، وأشار إلى الأشعّة الغامضة باسم “الأشعّة السينيّة”، مستخدمًا الرمز الرياضيّ “X” للدلالة على طبيعتها المجهولة.
وأحدث الإعلان عن الأشعّة السينيّة ضجّة كبيرة في المجتمع العلميّ وخارجه، حيث نشرت الصحف في جميع أنحاء العالم قصصًا عن اكتشاف رونتجن، وكان الجمهور مفتونًا بالقدرة المكتشفة حديثًا على النظر داخل جسم الإنسان دون جراحة، وكان اكتشاف رونتجن بمثابة نقطة تحوّل في مجالات الفيزياء والطبّ، مع آثار من شأنها أن تمتدّ إلى ما هو أبعد من تجاربه الأوّليّة.
وأحدث اكتشاف الأشعّة السينيّة ثورة في مجال الطبّ، فقبل ظهور الأشعّة السينيّة، كان لدى الأطبّاء أدوات محدودة لتشخيص الإصابات أو الأمراض الداخليّة، حيث قدّمت الأشعّة السينيّة طريقة غير جراحيّة لتصوّر العظام، واكتشاف الكسور، وتحديد موقع الأجسام الغريبة داخل الجسم، وسرعان ما أصبحت هذه القدرة المكتشفة حديثًا على الرؤية داخل جسم الإنسان أداة لا غنى عنها للمهنيّين الطبّيّين.
وكان أحد التطبيقات الطبّيّة المبكّرة للأشعّة السينيّة هو الكشف عن الكسور والإصابات، حيث يمكن للأطبّاء الآن فحص إصابات العظام بوضوح غير مسبوق، ممّا يؤدّي إلى تشخيص أكثر دقّة ونتائج علاج أفضل، بالإضافة إلى ذلك، كانت الأشعّة السينيّة مفيدة في تحديد أماكن الرصاص والشظايا والأجسام الغريبة الأخرى داخل الجسم، وخاصّة بالنسبة للجنود المصابين في المعركة.
وتوسّع استخدام الأشعّة السينيّة في تشخيص الحالات الطبّيّة بسرعة، وبحلول أوائل القرن العشرين، تمّ استخدام الأشعّة السينيّة لتصوير الأعضاء الداخليّة، واكتشاف الأورام، ودراسة تطوّر الأمراض مثل السلّن كان هذا بمثابة بداية علم الأشعّة كتخصّص طبّيّ، مع وجود أطبّاء أشعّة متخصّصين في تفسير صور الأشعّة السينيّة.
ومع أنّ الأشعّة السينيّة جلبت تطوّرات ملحوظة في الطبّ، إلّا أنّها جاءت مصحوبة أيضًا بمخاطر خفيّة، وفي السنوات الأولى الّتي أعقبت اكتشافها، لم تكن الآثار الضارّة للتعرّض للأشعّة السينيّة مفهومة تمامًا، وغالبًا ما يستخدم الأطبّاء والباحثون وحتّى عامّة الناس أجهزة الأشعّة السينيّة دون حماية كافية.
ومع نموّ التطبيقات الطبّيّة والصناعيّة للأشعّة السينيّة، تزايدت أيضًا المخاوف بشأن التعرّض للإشعاع، حيث بدأت الحكومات والهيئات التنظيميّة في وضع مبادئ توجيهيّة ولوائح لضمان الاستخدام الآمن لمعدّات الأشعّة السينيّة، وتمّ إدخال تدابير وقائيّة، مثل مآزر الرصاص والغرف المبطّنة بالرصاص، لتقليل التعرّض للإشعاع للمرضى والعاملين في مجال الرعاية الصحّيّة.
وعلى سبيل المثال، أنشأت حكومة الولايات المتّحدة إدارة الغذاء والدواء (FDA) في عام 1906، والّتي تولّت مسؤوليّة تنظيم الأجهزة الطبّيّة، بما في ذلك أجهزة الأشعّة السينيّة، ولا يزال دور إدارة الغذاء والدواء في ضمان سلامة وفعاليّة الأجهزة الطبّيّة، بما في ذلك معدّات الأشعّة السينيّة، حاسمًا حتّى يومنا هذا.
وفي عام 1928، تمّ إنشاء اللجنة الدوليّة للحماية من الأشعّة السينيّة والراديوم (IXRPC)، والّتي وضعت المعايير الدوليّة للحماية من الإشعاع. وكانت هذه الجهود مفيدة في الحدّ من المخاطر المرتبطة بالتعرّض للأشعّة السينيّة في كلّ من البيئات الطبّيّة والصناعيّة.
المصدر: عرب 48