Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

كيف نظر الغزيّون إلى بداياتها؟

تغيّرت النظرة تجاه الاونروا من منظّمة مشبوهة ومناقضة للقضيّة الوطنيّة بعيون أبناء غزّة المدينة والمخيّمات، إلى إطار بات من خلاله يجري التأكيد على هويّة اللجوء، كهويّة وطنيّة تثابر على الحقّ في العودة…

الأونروا: كيف نظر الغزيّون إلى بداياتها؟

مخيّم للاجئين الفلسطينيّين في قطاع غزّة، 1954 (Getty)

تلك الوجوه كأنّ الموت عفّرها *** بحفنة من تراب الموت صفراء

بيت من قصيدة لشاعر لاجئي غزّة في عام النكبة رشيد هارون هاشم، ويصف فيه حال مئات آلاف المقتلعين من مدنهم وقراهم من يافا جنوبًا، وقد نزحوا إلى غزّة المدينة الّتي بترت من ريفها وأطرافها ليغدو رملها غير صالح حتّى للقبور، كما يقول الشاعر رشيد هارون في مذكّراته “إبحار بلا شطآن”. ولولا البحر، يقول جمال زقوت في مذكّراته “غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل” لمات لاجئو غزّة من الجوع. كان البحر بما تكرّم به من سمك بوري وسردين، أوّل من أغاث نازحي القطاع، قبل أن تنشأ وكالة الغوث، وتجعل من نازحي القطاع لاجئين فيه.

النزوح في النكبة عام 1948 إلى غزّة، كان بمثابة أكبر هجمة ديمغرافيّة تعرّضت لها المدينة على أثر أحداث ذلك العام، إذ نزح حتّى مطلع عام 1949 ما يزيد عن 230 ألف فلسطينيّ إلى مدينة لم يكن يتجاوز تعداد أهلها الـ 90 ألفًا. جوامع وكنائس ومدارس المدينة كلّها، وكذلك معسكرات الجيش البريطانيّ فيها، كانت قد امتلأت بالنازحين، ومن لم يتيسّر له اكتراء بيت وهم كثر، اضطرّ إلى افتراش رمل شواطئ البحر، وفي العراء.

“الكويكرز في غزّة”

كانت “جمعيّة الأصدقاء الدينيّة أو الأميركيّة” (الكويكرز) بحسب تسميتها الأكثر شيوعًا، ويطلق على أعضائها أيضًا تسمية “الصاحبيّين”. هي أوّل من وصل إلى مدينة غزّة لإغاثة النازحين في مطلع صيف عام 1949، موكّلة من قبل الصليب الأحمر، الّذي لبى بدوره نداء الأمم المتّحدة بوجوب إغاثة اللاجئين الفلسطينيّين. بادرت الكويكرز فور وصولها غزّة بتوزيع البطّانيّات والخيام والأغذية على اللاجئين، كما أنشأت مراكز ومخازن، وعيادات للتمريض والتوليد، ومراكز خاصّة باليونيسف، لتوزيع الحليب والأطعمة والألبسة على الأطفال. وذلك في ظلّ ظروف بحسب ما يروي عبد الرحمن عوض اللّه في مذكّراته “من فيض الذاكرة” كانت قد تردّت فيها أوضاع اللاجئين، حيث انتشرت الأمراض، كالجدري، والدوزنطاريا (مرض الزحار)، وفقر الدم، والدمامل، والتقرّحات بسبب انتشار الحشرات. كما تفشّت مظاهر اجتماعيّة مقلقة مثل حالات السطو والسلب والنهب.

لقد نظّمت الكويكرز في غزّة حياة متقشّفة للنازحين اللاجئين، فبحسب ما يروي صاحب مذكّرات “إبحار بلا شطآن”، كان فطور اللاجئين كوبًا من الحليب، ويتغدّون سندويشات خفيفة، ويتعشّون عشاء بسيطًا، ويأكلون العدس مرّتين في الأسبوع. وممّا ظلّ يتذكّره صاحب “من فيض الذاكرة” أنّ معظم أبناء النازحين اللاجئين كانوا يرتدون ثيابًا أخاطتها أمّهاتهم من البطاطين الّتي كانت توزّعها الكويكرز. ثمّ أنشأت الحكومة المصريّة في غزّة لجنة فيها لغوث اللاجئين، كان يرأسها اليكباشي وحيد الدين، أحد ضبّاط نائب حاكم غزّة الكبار.

لاجئون فلسطينيون يصطفون للحصول على الأغذية التي توزعها الأونروا، 1956، (Getty)

في الأوّل من أيّار/مايو 1950 باشرت الأونروا (وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى) عملها في غزّة، بعد تأسيسها بقرار من الأمم المتّحدة في تاريخ 8/12/1949. كانت غزّة مع دخول الأونروا قد صارت مشمولة بالحكم المصريّ، وفي الوقت الّذي رحّب فيه النازحون اللاجئون في غزّة بأعمال إغاثة الكويكرز بوصف هذه الأخيرة منظّمة أهليّة – إنسانيّة ناشطة منذ ما قبل النكبة بعقود. إلّا أنّ ذلك الترحيب لم ينسحب على تأسيس الأونروا وقدومها إلى القطاع، خصوصًا وأنّ الأونروا مؤسّسة رسميّة – دوليّة أقيمت بغرض إغاثة اللاجئين، بينما هؤلاء الأخيرين وتحديدًا في غزّة لم يروا فيها مؤسّسة إغاثيّة بقدر ما ظنّوا فيها جهة مدفوعة من أجل تثبيت لجوئهم وتوطينهم خارج فلسطين. فظلّت الأونروا لسنوات طويلة في غزّة محلّ شبهة واتّهام بنظر النازحين اللاجئين وأهالي المدينة الأصليّين كذلك.

الأونروا محلّ شبهة

مع الأهمّيّة الّتي ترتّبت على دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) الإنسانيّ، في إغاثة نازحي غزّة الّذين تحوّلوا إلى لاجئين فيها من ناحية تنظيم وجودهم وإقامة المخيّمات وتدبير شؤونهم المعيشيّة والحياتيّة. إلّا أنّ ذاكرة الغزيّين الّتي تعود إلى خمسينيّات وستّينيّات القرن الماضي عن نشاط الأونروا في تلك المرحلة ظلّت متوجّسة منها، ومجمّعة على دور الأونروا المشبوه بتورّط هذه الأخيرة في محاولة تمرير مشاريع توطين لاجئيّ القطاع، ليس فيه، إنّما في أماكن خارج القطاع منها في سيناء بحسب ما أشار كلّ من الشاعر الغزيّ معين بسيسو في مذكّراته “دفاتر فلسطين”، وعبد الرحمن عوض اللّه في سيرته “من فيض الذاكرة”. وبحسب هذا الأخير، فإنّ مشاريع ترحيل لاجئيّ غزّة، وإعادة توطينهم في أماكن مختلفة، منها مشروع وادي الأردنّ سنة 1949 لتوطين اللاجئين وتعويضهم، ولم تكن الأونروا قد أقيمت بعد. ثمّ مشاريع الخمسينيّات لتوطينهم في ليبيا والعراق وشمال سيناء وحتّى كندا، الّتي عملت الأمم المتّحدة عليها لصالح إسرائيل، كانت قد كلّفت الأونروا بتمريرها عبر محاولة إقناعها اللاجئين في غزّة بذلك، وقد أنشئت صناديق بقيمة 200 مليون دولار لإعادة دمج اللاجئين في دول الشتات.

كان لتورّط الأونروا في سياسات محاولة ترحيل اللاجئين من غزّة وإعادة توطينهم خارجها، كبير أثر لموقف الغزيّين المتناقض معها. كما ظلّت ذاكرة لاجئي مخيّمات غزّة تعجّ بحكايات عن تورّط خبراء وأطبّاء أجانب عاملين في وكالة الغوث وتورّطهم في سياسات استعماريّة ضدّ أبناء المخيّمات، إلى حدّ تآمر بعضهم على أبناء اللاجئين بحسب ما أشار الطبيب المصريّ أحمد الفنجري في شهادته الّتي دوّنها في سيرته من غزّة “إسرائيل كما عرفتها” مطلع الخمسينيّات، عن قيام بعض أطبّاء الأونروا بتمرير مصل للتطعيم الصحّيّ من الأمراض المعدية مثل الجدري منتهية الصلاحيّة اكتشفها الأطبّاء المصريّون. غير أنّ الثابت هو ما أشار إليه جمال زقوت في مذكّراته الّتي أشرنا إليها سابقًا، عن تورّط الأونروا في سياسات صحّيّة استعماريّة، كان أهمّها وأخطرها العمل على الحدّ من نسل اللاجئين في المخيّمات، خصوصًا بعد أن أفشل اللاجئون مخطّطات توطينهم خارج غزّة وثبات بقائهم في القطاع.

طفل فلسطينيّ يجلس فوق أكياس الدقيق المقدّمة من الأونروا (Getty)

يذكر جمال زقوت من وحي طفولته الّتي تعود إلى ستّينيّات القرن الماضي في مخيّم الشاطئ، عن الدور الإنسانيّ لطبيبة أجنبيّة كانت تعمل في عيادة وكالة الغوث (العيادة السويديّة) وتدعى د. ليليمور إريكسون، تعود أبناء مخيّم الشاطئ مناداتها بالسيّدة إريكسون. وعلى الرغم من دور هذه الطبيبة الإنسانيّ تجاه أبناء مخيّم الشاطئ في حينه، إلّا أنّ زقوت يشير إلى دورها في تمرير سياسة الحدّ من النسل في المخيّم، وكانت السيّدة آمنة وهي والدة زقوت أوّل امرأة لاجئة في مخيّم الشاطئ تعاونت مع الطبيبة إريكسون بقبولها تركيب لولب مانع للحمل لتحديد النسل تحت شعار “تنظيم الأسرة” الّذي روّج له أطبّاء الوكالة في القطاع.

النظر للتعاون كـ”تطبيع”

لم يكن الموقف من وكالة الغوث “الأونروا” يجري في مخيّمات غزّة بمعزل عن الخطاب السياسيّ المداوم على تحريضه ضدّ الوكالة طوال عقدي الخمسينيّات والستّينات، خصوصًا في نشاط الحزب الشيوعيّ والشيوعيّين في غزّة الّذين ما انفكّوا عن التشكيك بوجودها ودورها في القطاع، الأمر الّذي شكّل مناخًا معاديًا للوكالة في صفوف أبناء لاجئي مخيّمات القطاع. وذلك إلى حدّ اعتبر فيه التعاون مع بعض مشاريع الوكالة “تطبيعًا” وأحيانًا “تواطئًا” معها ضدّ قضيّة اللاجئين الوطنيّة، حتّى تلك المشاريع الّتي كانت تهدف لتحسّن شروط عيش اللاجئين.

وممّا يرويه زقوت، حكاية المعلّم ذيب الهربيطي (أبو بسّام) من أبناء مخيّم الشاطئ، ولد في قرية حمامة القريبة من مجدل عسقلان سنة 1931، ونزح مع أهله فتى إلى غزّة. وقد أدرك الهربيطي أهمّيّة التعليم للّاجئين الّذين فقدوا كلّ شيء، فبادر إلى إنشاء مدرسة داخل مخيّم الشاطئ لتعليم أبناء اللاجئين، وذلك قبل أن تنشئ وكالة الغوث في غزّة مدارس مخيّمات القطاع. كما كان أبو بسّام عضوًا في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ في قطاع غزّة، وقد أدرك بعد هزيمة حرب 67، أهمّيّة صمود اللاجئين وبقائهم في القطاع، فسعى إلى التعاون المنظّم مع وكالة الغوث “الأونروا” في تشكيل لجان لتعزيز ما تقوم به هذه الأخيرة على صعيد البنية التحتيّة، كما دعا بلديّة غزّة إلى المساهمة في هذه الجهود بالتعاون مع الأونروا.

أثار توجّه الهربيطي الجدل والخلافات في صفوف أبناء مخيّم الشاطئ بحسب ما يروي زقوت في مذكّراته، وأظهرت خشية البعض من أن يقود توجّه أبو بسّام إلى التوطين. الأمر الّذي دفع أحد فصائل المقاومة إلى وصف توجّه الهربيطي بالـ “خيانة الوطنيّة”، وأكثر من ذلك قامت إحدى المجموعات باغتيال الهربيطي وتصفيته في المخيّم، ما أحدث صدمة عارمة بين أبناء المخيّم ومخيّمات القطاع عمومًا يقول زقوت. على أثر هذه الحادثة، غادرت عائلة ذيب الهربيطي المخيّم والقطاع كلّه وبلا رجعة.

ينسحب هذا الاستعجال الّذي جرى ضدّ وكالة الأونروا ومحاولة التعاون معها لدوافع وطنيّة حقيقيّة، على مساحات وقضايا مختلفة أخرى في غزّة. منها مثلًا، مهاجمة وتخوين العاملين الغزيّين الّذين آثروا الدخول إلى الأراضي المحتلّة عام 48 من أجل العمل في قطاع البناء منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي، بعد احتلال القطاع عام 1967، وذلك إلى حدّ رجم وحرق البعض للباصات والمركبات العموميّة الّتي كانت تقلّ العمّال من القطاع إلى الداخل. في النهاية، كانت المراجعات وتمّ التصالح مع فكرة أنّ الناس لا تحاسب على واقعها إنّما على سلوكها في الواقع المفروض عليها.

تغيّرت النظرة إلى كثير من القضايا في قطاع غزّة، ومنها الأونروا كوكالة لغوث اللاجئين وتشغيلهم، والّتي تحوّلت من منظّمة مشبوهة ومناقضة للقضيّة الوطنيّة بعيون أبناء غزّة المدينة والمخيّمات، إلى إطار بات من خلاله يجري التأكيد على هويّة اللجوء، كهويّة وطنيّة تثابر على الحقّ في العودة. بالتالي، باتت أيّ سياسة لتقويض الأونروا ودورها في السنوات الأخيرة، يعتبر بمثابة تقويض، لا بل تصفية لقضيّة اللاجئين وحقّهم في العودة، منذ أن قرّرت الولايات المتّحدة الأميركيّة التوقّف عن دعم وكالة الغوث وتمويلها، وأخيرًا القانون الّذي أقرّه الكنسيت الإسرائيليّ في 28 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي باقتراح قانون يمنع عمل وكالة الأونروا في فلسطين ومنها غزّة.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *