كيف نفهم التضخّم الاقتصاديّ؟
حسب مكتب إحصاءات العمل الأميركيّ، فإنّ التضخّم في الولايات المتّحدة يقف عند 2.44% لشهر أيلول/سبتمبر، ويعتبر هذا المعدّل أقلّ من متوسّط التضخّم التاريخيّ الّذي بلغ 3.28 في وقت يحاول فيه البنك الفيدراليّ الأميركيّ تحقيق هدف تضخّم 2%…
في بيانات مخيّبة للآمال، صدرت نتائج مؤشّر المستهلك CPI لشهر أيلول/سبتمبر في الولايات المتّحدة، حيث ارتفع بنسبة 2.4% خلال السنة الماضية، وشهدت الأسعار ارتفاعًا طفيفًا بنسبة 0.2% مقارنة بشهر آب/أغسطس. أمّا بالنسبة للطاقة، فقد ارتفعت أسعار الكهرباء بنسبة 3.7% والغاز الطبيعيّ بنسبة 2%. وشهدت مجالات أخرى مثل التأمين على السيّارات ارتفاعًا بنسبة 1.2% وردّت تكاليف الرعاية الصحّيّة 0.4% وارتفعت أسعار الملابس 1.1% وتذاكر الطيران 3.2%.
وبالرغم من محاولات الإدارة الأميركيّة مكافحة التضخّم، إلّا أنّ تلك البيانات تأتي تحت ضغوطات كبيرة حيث ارتفع مؤشّر إيجارات السكن بنسبة 4.9%. وتحاول الحكومة الأميركيّة توجيه تلك السياسات لمحاولة السيطرة على التضخّم الّذي يؤثّر على مختلف جوانب الاقتصاد، وذلك يشمل ثقة المستهلك وتكاليف الاقتراض والاستثمار.
وحسب مكتب إحصاءات العمل الأميركيّ، فإنّ التضخّم في الولايات المتّحدة يقف عند 2.44% لشهر أيلول/سبتمبر، ويعتبر هذا المعدّل أقلّ من متوسّط التضخّم التاريخيّ الّذي بلغ 3.28 في وقت يحاول فيه البنك الفيدراليّ الأميركيّ تحقيق هدف تضخّم 2%.
التضخّم
لا شكّ في أنّ التضخّم من أكبر التحدّيات الكبيرة الّتي يواجهها الجميع، بدءًا من المستهلك الصغير إلى الشركات وحتّى اقتصادات الدول. ولكن لحسن الحظّ، فإنّ هناك الكثير من السياسات الّتي تخفّف من وطأته على المستهلكين والاقتصادات. ويعدّ الفهم الجيّد لآثار التضخّم واتّخاذ الخطوات الذكيّة من أهمّ الطرق للتكيّف والحدّ منه، ويمكن الحدّ من التأثيرات السلبيّة على الحياة اليوميّة والتركيز على التخطيط الماليّ الجيّد والاستثمار الذكيّ للمساعدة في في حماية الأفراد من آثار التضخّم المستمرّة.
ويعتبر التضخّم من أهمّ المؤشّرات الاقتصاديّة الّتي يتمّ الأخذ بها عند تقييم قوّة الاقتصاد عالميًّا بسبب الآثار المترتّبة على حياة الناس. والتضخّم حسب التعريف: الزيادة المضطردة والمستمرّة على السلع والخدمات مع مرور الوقت وانخفاض القدرة الشرائيّة للعملة، ويمكن أن ينتج التضخّم عن عوامل كثيرة مثل زيادة تكاليف الإنتاج أو الطلب المرتفع على السلع.
التضخّم ببساطة هو أنّ الدولار الواحد على سبيل المثال لديه القدرة على شراء سلع أقلّ اليوم مقارنة بالأمس.
ومن التأثيرات المباشرة للتضخّم على حياة الناس الارتفاع تكاليف المعيشة مثل الموادّ الغذائيّة والسلع الأساسيّة حيث يجد الأفراد أنفسهم يدفعون “أكثر” مقابل نفس السلع مثل الحليب والخبز والمنازل والوقود. وبالرغم من أنّ بعض الأجور قد ترتفع مع التضخّم، إلّا أنّ تلك الزيادات لا تكون كافية لتعويض الفروقات في الأسعار وتغطية المصاريف الّتي كانت الأجور تغطّيها سابقًا.
الادّخار كذلك، وهو من الأدوات الأساسيّة الّتي يستخدمها الأفراد والمؤسّسات للحفاظ على التوازن في الأزمات الاقتصاديّة، يتأثّر بشكل مباشر من التضخّم، فإنّ الأموال الّتي توضع في البنوك بقصد الادّخار تفقد جزءًا من قيمتها و “تتآكل” بفعل التضخّم. أمّا بالنسبة للاقتراض من البنوك فإنّ التضخّم، عادة، يدفع البنوك المركزيّة إلى رفع الفوائد؛ وبالتّالي فإنّ تكاليف الاقتراض سترتفع ويجد الناس أنفسهم مضطرّين لدفع مبالغ أكبر مقابل القروض العقاريّة والشخصيّة.
أنماط الاستهلاك تتغيّر أيضًا مع ارتفاع التضخّم، تضطرّ العائلات إلى إعادة النظر في إنفاقها وأنماط استهلاكها، وفي أحيان كثيرة يضطرّون إلى التنازل عن بعض السلع بداية من الكماليّات حتّى بعض الأساسيّات في بعض الأحيان. أنماط الاستهلاك تشمل أيضًا ارتياد المطاعم والتنزّه والترفيه الّتي من الممكن أن تختفي تمامًا من حياة بعض العائلات.
القطاعات المتأثّرة
يعدّ قطاع الإسكان من أكثر القطاعات الّتي تتأثّر في التضخّم في عديد من الدول، إذ يؤدّي التضخّم إلى ارتفاع أسعار المنازل وارتفاع الإيجارات. ويكون الأمر ملحوظًا أكثر في المدن الكبرى مثل نيويورك وباريس وبرلين ولندن. في السنوات الأخيرة ارتفعت الأسعار في الولايات المتّحدة بنحو 20% بسبب انخفاض أسعار الفائدة وارتفاع الطلب، وفي أوروبا ارتفعت العقارات بنسبة 12% في دول مثل ألمانيا وهولندا. الإيجارات في المدن الكبرى ارتفعت أيضًا بنسبة 15% – 20% في لندن ونيويورك على مدار العام الماضي.
ارتفعت أسعار الموادّ التموينيّة والغذائيّة أيضًا بسبب التضخّم. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفعت الحبوب والزيوت بنسب تصل إلى 30% وأحيانًا 50% في بعض الدول بسبب ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف النقل. أسعار اللحوم والخضروات في بعض الدول الأوروبّيّة ارتفعت بنسبة 15% خلال العام الماضي؛ ممّا شكّل تحدّيًا كبيرًا للأسر ذات الدخل المحدود.
يعتبر الوقود من أوائل المتأثّرين بالتضخّم، إذ ارتفعت أسعار الوقود بشكل ملحوظ بسبب التوتّرات السياسيّة والتضخّم، وفي العام 2022 وصل سعر برميل النفط الخامّ إلى أكثر من 120 دولارًا للبرميل الواحد، ممّا انعكس على أسعار الوقود في دول عدّة، ووصل سعر البنزين في بريطانيا إلى 1.6 جنيه إسترلينيّ للتر الواحد وتجاوز الجالون الواحد 5 دولارات في الولايات المتّحدة.
عالميًّا تعاد فنزويلا صاحبة أعلى معدّل تضخّم، ففي العام 2023 بلغ التضخّم مستويات 350%، حيث ارتفع سعر الحليب مثلًا من 0.02 دولار (10,000 بوليفار) في عام 2020 إلى حوالي 0.10 دولار (50,000 بوليفار) في 2023. تليها زيمبابوي بنسبة 280% ثمّ الأرجنتين بنسبة 138%. على الجانب الآخر، تعدّ سويسرا صاحبة أدنى معدّل تضخّم في العالم بنسبة 1.6% فقط بسبب استقرار الاقتصاد. الصين بدورها تحقّق أرقام تضخّم تقدّر بـ 1.9% بسبب الاقتصاد المتوازن.
في العالم العربيّ تتصدّر لبنان الدول ذات معدّلات التضخّم المرتفع بنسبة 116% تليها السودان 71% ثمّ اليمن بنسبة 50%. على الجانب الآخر تتصدّر قطر قائمة أقلّ نسب التضخّم بمعدّل 2.7% حيث ارتفع سعر الخبز مثلًا من 0.41 دولار (1.50 ريال قطريّ) في 2020 إلى حوالي 0.48 دولار (1.75 ريال قطريّ) في 2023.
سياسات خفض التضخّم والتكيّف
يشير الخبراء إلى أهمّيّة إعادة تنظيم الميزانيّة عند الأسر وخاصّة الأسر ذات الدخل المحدود، إذ إنّ إعادة النظر في المصروفات الشهريّة والتركيز على الأولويّات والتخلّي عن الكماليّات من أسس التكيّف مع التضخّم. الاستثمار في الأصول “الآمنة” من شأنه أن يخفّف من حدّة التضخّم، وذلك النوع من الاستثمار يركّز على الأصول الّتي تزيد قيمتها مع الوقت مثل العقارات والذهب؛ وبالتالي الحفاظ على قيمة الأموال من التآكل، بالإضافة إلى التفكير في طرق لزيادة الدخل للحدّ من تأثير التضخّم سواء من خلال وظيفة إضافيّة أو العمل لساعات أكثر أو تطوير المهارات لزيادة فرص الترقية في العمل.
الدول والبنوك المركزيّة تحاول العمل على خفض التضخّم لمستويات 2% عادة عن طريق رفع أسعار الفائدة. عندما ترتفع أسعار الفائدة يصبح الاقتراض أكثر تكلفة سواء بالنسبة للأفراد أو الشركات. على سبيل المثال، إذا كان لديك قرض عقاريّ بفائدة متغيّرة، فإنّك ستدفع مبالغ أكبر إذا زادت أسعار الفائدة. هذه الزيادة تؤثّر بشكل مباشر على قدرة الأفراد على الإنفاق، حيث سيكون لديهم مال أقلّ لإنفاقه على سلع وخدمات أخرى بعد سداد الأقساط الشهريّة. من جهة أخرى، يصبح من غير المغري للشركات أن تقترض الأموال للاستثمار أو التوسّع، ممّا يؤدّي إلى تباطؤ النشاط الاقتصاديّ. هذا التباطؤ في الإنفاق والاستهلاك يساهم في تقليل الضغط على الأسعار، ممّا يساعد في كبح التضخّم.
في دول مثل أستراليا وفنلندا، يعيش العديد من الناس على قروض عقاريّة بفوائد “متغيّرة”، ما يعني أنّ أيّ زيادة في سعر الفائدة تؤثّر بشكل فوريّ على مدفوعاتهم الشهريّة. لذلك، إذا ارتفعت أسعار الفائدة، فإنّ هذه الأسر ستجد نفسها تدفع أكثر على قروضها العقاريّة، وبالتّالي سيكون لديها مال أقلّ لإنفاقه على احتياجات أخرى. في دول مثل الولايات المتّحدة وكندا، يعتمد العديد من الأشخاص على القروض ذات الفوائد الثابتة، وهو ما يعني أنّ تأثير رفع الفائدة سيكون أقلّ مباشرة. لكن حتّى في هذه الحالات، عندما ترتفع أسعار الفائدة، يقلّ الطلب على المنازل، ممّا يؤدّي إلى انخفاض قيمتها، وبالتالي يشعر أصحاب المنازل بالفقر “النسبيّ”، ما يدفعهم إلى تقليل الإنفاق.
أمّا بالنسبة للشركات، فعندما تصبح القروض أكثر تكلفة، تفقد الشركات الحافز للاستثمار في التوسّع أو توظيف المزيد من الموظّفين. نتيجة لذلك، قد نرى انخفاضًا في عدد الوظائف الجديدة المتاحة، وربّما تقليص عدد الوظائف الموجودة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤثّر انخفاض التوظيف والنموّ الاقتصاديّ على مستوى الأجور، ممّا يقلّل من دخل الأسر ويؤثّر على قدرتها الشرائيّة.
المصدر: عرب 48