كيف يمكن لإسرائيل أن تخسر أميركا؟
لا يزال الإسرائيليون يعانون من التأثيرات المدمرة لأضخم ضربة استخباراتية وأكبر فشل عملياتي تلقوها في تاريخهم الممتد لـ 75 عامًا، إذ انهار افتراض إسرائيل الراسخ بأن «الأسوار الذكية»، والتدفقات السخية للأموال الأجنبية من شأنها أن تحتوي حماس. وخلفت غارة 7 أكتوبر/تشرين الأول على جنوب إسرائيل أعدادًا صاعقة من الضحايا (ما يقرب من 1200 قتيل، وآلاف الجرحى)، واختطاف أكثر من 240 شخصًا، وأخذهم إلى قطاع غزة رهائن، وهذا إلى جانب مئات الآلاف من النازحين. وسوف تواصل إسرائيل معاناتها من هذه الصدمة في المستقبل المنظور.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية في أعقاب الهجوم مباشرة تعبئة طارئة للجيش الإسرائيلي، مع التزام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ «إنهاء» الحرب التي «لم يكن الإسرائيليون يريدونها». والآن، ومع اقتراب مرور ثلاثة أشهر عليها، تتواصل عملية السيوف الحديدية، كما أُطلق عليها في البداية العمل العسكري الإسرائيلي في غزة، بلا هوادة، بعد توقف قصير في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر أُطلق خلاله سراح 105 من المدنيين في أسر حماس. وقد أعلن نتنياهو أن أهداف الحملة هي القضاء على حماس، واستعادة جميع المواطنين الإسرائيليين المختطفين، وضمان عدم تمكن أي عنصر في غزة من تهديد إسرائيل مرة أخرى. لكن الجدول الزمني لاستكمال الهجوم الطموح الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي لا يزال غامضًا، وكذلك الخطوط العريضة لنهاية الحرب على غزة.
ما هو واضح تمامًا هو أن حرية إسرائيل في متابعة أهدافها الحربية المعلنة كانت لتكون مقيدة إلى حد كبير لولا الدعم المؤكد من الولايات المتحدة. ومع استمرار القتال ونشوء الفجوات بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي، فإن لدى إسرائيل أسبابًا قوية للاستثمار في الحفاظ على تحالفها الأساسي سليمًا مع أميركا. ولضمان بقاء روابطها مع الولايات المتحدة بعد هذه الحرب، لا يتعين على إسرائيل فقط أن تدير الحملة العسكرية الحالية بحكمة، بل يتعين عليها أيضًا أن تعالج المشاكل السياسية الداخلية وأن تحدد إلى الأبد الكيفية التي تخطط بها لتسوية صراعها مع الفلسطينيين.
“تقلّب العلاقة بين بايدن وإسرائيل”
بدأ الفصل الحالي من العلاقة المستمرة منذ عقود بين نتنياهو، الذي عاد ليتولى مهامه كرئيس لوزراء إسرائيل في ديسمبر الماضي، والرئيس الأميركي جو بايدن، بداية صعبة. فبايدن، الذي وقَّع ذات مرةٍ صورة لنتنياهو مع عبارة «أنا لا أتفق مع أي أمرٍ تقوله، لكني أحبك»، انتظر أربعة أسابيع بالتمام والكمال بعد تنصيبه قبل اتصاله بالزعيم الإسرائيلي. واعتبر الكثيرون التأخير بمثابة ردٍ على مماطلة نتنياهو في تهنئة بايدن على هزيمة الرئيس دونالد ترامب في عام 2020 (عندما اتصل نتنياهو أخيرًا ببايدن، انتقده ترامب لأنه لم يحتفظ بولائه له).
ولم تخف إدارة بايدن استياءها من اختيار نتنياهو لشركاء الائتلاف من اليمين المتطرف في إسرائيل، وأبرزهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريش، ووعدت بمحاسبة رئيس الوزراء شخصيًا على تصرفات حكومته. ولم يمض وقت طويل قبل أن تفي واشنطن بهذا الوعد. فعندما صعد بن غفير إلى جبل الهيكل، وهو موقع ديني حساس يضم المسجد الأقصى، خلال أيامه الأولى في منصبه في يناير 2023، أدان المسؤولون الأميركيون بشدة هذه الخطوة وتجنبوا التعامل المباشر مع بن غفير. تصاعدت التوترات في وقت لاحق من نفس الأسبوع، بعد أن كشف وزير العدل ياريڤ ليڤين عن خطط مثيرة للجدل لإجراء إصلاح جذري للنظام القضائي الإسرائيلي.
وكانت تداعيات الانفصال الواضح بين الحكومتين الأميركية والإسرائيلية محرجة بشكل خاص لنتنياهو، السياسي الذي يفتخر بفهمه المتفوق للسياسة الأميركية. لقد تُرك رئيس الوزراء ينتظر بجوار صندوق بريده لتلقي دعوة لزيارة البيت الأبيض، وهو ما جعله أول رئيس وزراء إسرائيلي منذ أكثر من 50 عامًا يُحرم من عقد اجتماع في المكتب البيضاوي خلال السنة الأولى من ولايته. ومن جانبه، عومل سموتريش كشخص غير مرغوب فيه عندما زار واشنطن في مارس/آذار. وقد تُجنِّبَا هو وبن غفير من وفود الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى إسرائيل، واُستبعدا، مع أعضاء آخرين من أحزابهما، من قائمة الضيوف لحضور حفل الاستقبال السنوي في الرابع من يوليو الذي استضافته السفارة الأميركية في القدس.
كما انتشرت المشاكل بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن حول التحول المقصود في السلطة القضائية الإسرائيلية إلى الرأي العام بشكل منتظم. وأضاف وزير الخارجية أنتوني بلينكن في يناير/كانون الثاني 2023، في أول رحلة له إلى إسرائيل منذ انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في البلاد، وقتًا خاصًّا لممثلي المجتمع المدني في خط سير رحلته، مما أعطى دفعة معنوية لمنتقدي أجندة نتنياهو وقدم إشارة خفية إلى قلق الولايات المتحدة بشأن مصير الديمقراطية الإسرائيلية.
وأعرب البيت الأبيض عن مخاوف مماثلة، إذ سلطت نائبة الرئيس كامالا هاريس في حديثها في يونيو/حزيران أثناء الاحتفال بمرور 75 عامًا على استقلال إسرائيل، الضوء بوضوح على «المؤسسات القوية، والضوابط والتوازنات […] والقضاء المستقل» كركائز للديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ورد إيلي كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلي، بعد ساعات بأن هاريس ربما لم تقرأ حتى القانون المقترح وأنها لن تكون قادرة على تحديد عنصر واحد من الإصلاح الذي «يزعجها».
أعادت الأحداث التي وقعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ضبط هذه الدورة من التصريحات اللاذعة. قطعًا، لم تختفِ العداوات بين بايدن ونتنياهو، لكن التعاطف مع مأزق إسرائيل طغى على الخلافات العالقة. ووعد بايدن، الذي وصل إلى إسرائيل في 18 أكتوبر/تشرين الأول كأول رئيس أميركي على الإطلاق يزور البلاد وسط حرب، شعب إسرائيل بأن الولايات المتحدة «ستقف إلى جانبهم». وتعهد بايدن قائلًا: «سنسير بجانبكم في الأيام المظلمة، وسنسير بجانبكم في الأيام الجيدة القادمة».
وعلى العموم، فقد حافظ المسؤولون الأميركيون على دعمهم لعمليات الجيش الإسرائيلي في غزة، وتركوا القرارات العملياتية في يد إسرائيل. وعندما سُئل بلينكن في 10 ديسمبر/كانون الأول عن الموعد الذي يتوقع أن ينهي فيه الجيش الإسرائيلي حملته العسكرية، أجاب بصراحة: «هذه قرارات على إسرائيل أن تتخذها». في 8 ديسمبر/كانون الأول، استخدم نائب السفير الأميركي حق النقض (ڤيتو) ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، معللًا أن مثل هذا الوقف «لن يؤدي إلا إلى زرع بذور الحرب القادمة، لأن حماس لا ترغب في رؤية اتفاق سلام دائم». وقد أصدرت واشنطن تحذيرات دورية، مثل تأكيد وزير الدفاع لويد أوستن في الثاني من ديسمبر/كانون الأول الماضي على أن «حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة هي واجب أخلاقي وضرورة إستراتيجية»، لكن مثل هذه التعليقات لم تخفف من التأثير الإجمالي للسياسة الأميركية التي، كما أكد أوستن أيضًا، تدعم «حق إسرائيل الأساسي في الدفاع عن نفسها».
لقد فضل بايدن احتضان إسرائيل علنًا ونقل تحفظات الولايات المتحدة إلى المحادثات الخاصة مع القادة الإسرائيليين، معتقدًا بوضوح أن هذه الإستراتيجية تمنحه نفوذًا أكبر على حسابات إسرائيل مقارنة بنهج المواجهة. وقد أسفرت مناشدات الرئيس الشخصية عن بعض النتائج، على سبيل المثال، من خلال المساعدة في إقناع إسرائيل بإلغاء خطط توجيه ضربة وقائية ضد حزب الله في لبنان في الأيام التي تلت هجوم حماس الأولي. يشير المتشككون في أساليب بايدن إلى حجم الدمار الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بغزة، على الرغم من الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الولايات المتحدة خلف الكواليس، لكن الولايات المتحدة تتصرف أيضًا بناءً على مصلحتها الخاصة في نجاح إسرائيل في هزيمة حماس، التي صنفتها واشنطن على أنها منظمة “إرهابية”، وفي كلتا الحالتين، فقد استفادت إسرائيل بشكل كبير من صداقة حليفتها.
“الأصدقاء الدّاعمون”
تطور ارتباط الولايات المتحدة بإسرائيل تدريجيًا منذ اعتراف الرئيس هاري ترومان بالدولة اليهودية في 14 مايو 1948، ولم تبدأ واشنطن في تقديم المعدات العسكرية لإسرائيل إلا في الستينيات، في عهد الرئيس جون كينيدي. وسرعان ما تبع ذلك إرسال شحنات بطاريات هوك المضادة للصواريخ في عهد خليفة كينيدي، الرئيس ليندون جونسون، بالإضافة إلى دبابات إم-48 پاتون القتالية، وطائرات الهجوم الخفيفة إيه-4 سكاي هوك، والقاذفات المقاتلة إف-4 فانتوم. جاء أول تعهد أميركي صريح بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، أي ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي على منافسيها، في رسالة عام 1982 التي أرسلها الرئيس رونالد ريغان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيگن.
مرّ التعاون الأميركي الإسرائيلي ببعض الاضطرابات أحيانًا، بيد أنه حافظ على مسار تصاعدي ثابت، وقد عززت المساعدات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة موقف إسرائيل في منطقة مضطربة. إن وجود «الأخ الأكبر» على كتفها مكّن إسرائيل من تجاوز ثقلها الديموغرافي وحجمها الجغرافي، وإبراز قوتها خارج حدودها. وقد استمر التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل من خلال الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، بما في ذلك أحدث من شغلوا هذا المنصب.
اعترف ترامب، في منصب رئاسته، رسميًا بالقدس عاصمة لإسرائيل ومرتفعات الجولان كأراض إسرائيلية ذات سيادة. وأكدت تصرفاته إجماعًا واسعًا بين الإسرائيليين وأرسلت رسالة قوية إلى الدول المجاورة حول دعم الولايات المتحدة لإسرائيل. إن «رؤية ترامب للسلام والازدهار ومستقبل أكثر إشراقا لإسرائيل والشعب الفلسطيني»، وهي الخطة التي توقع معظم الإسرائيليين فشلها، لم تؤد أبدًا إلى قبول الولايات المتحدة لتطلعات حكومة نتنياهو لتوسيع السيادة الإسرائيلية على جميع أنحاء الضفة الغربية، بل أصبحت حافزًا للاتفاقيات الإبراهيمية، التي كشفت علاقات إسرائيل السرية مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين إلى العلن. وأوضح يوسف العتيبة، سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة ومهندس الصفقة، منطق العلاقات في عام 2021: «سبب حدوثها، والطريقة التي حدثت بها، ووقت حدوثها كان لمنع الضم [لأراضي الضفة الغربية]».
وهذا لا يعني أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية لا تشوبها المشاكل. كشف ترامب عن معلومات استخباراتية إسرائيلية لروسيا في عام 2017، وربما كشف عن أساليب جمع حساسة. واتهم مرارًا وتكرارًا اليهود الأميركيين الذين يصوتون للمرشحين الديمقراطيين بأنهم «خائنون للشعب اليهودي وخائنون جدًا لإسرائيل»، ليس فقط من أجل ترسيخ إسرائيل كقضية محل اختلاف وتعريض رعاية الحزبين للعلاقات الأميركية الإسرائيلية الوثيقة للخطر، بل أيضًا من خلال تأجيج معاداة السامية. كما أن انسحابه الأحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني دون خطة بديلة لإحباط سباق إيران للحصول على أسلحة نووية لم يؤدِ إلّا إلى تسريع تقدم طهران. وقد شجع نتنياهو قرار ترامب في ذلك الوقت، لكن يمكن القول إن هذه الخطوة جعلت إسرائيل أقل أمنًا اليوم.
على الرغم من المماحكات القديمة، فإن دعم إدارة بايدن لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، والذي عُبّر عنه بالقول والفعل، كان واضحًا وصريحًا. وحضر المسؤولون المدنيون والعسكريون الأميركيون بشكل دائم في إسرائيل، وشاركوا كثيرًا في المشاورات مع مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي. وأرسلت الولايات المتحدة إلى إسرائيل عدة جسور جوية من القنابل والذخائر الأخرى لاستبدال مخزوناتها المستنفدة. كما تدخلت واشنطن لمنع قرارات مجلس الأمن الدولي التي من شأنها فرض عقوبات على إسرائيل أو الإصرار على أن ينهي الجيش الإسرائيلي مهمته في غزة، ولفتت الانتباه إلى محنة الرهائن الذين تحتجزهم حماس، وعملت على تأمين حريتهم. وطالبت الدول الأخرى بإدانة أعمال العنف الجنسي التي يرتكبها مقاتلو حماس ضد الفتيات والنساء الإسرائيليات.
وفي حديثه في البيت الأبيض في 10 أكتوبر/تشرين الأول، حذر بايدن أعداء إسرائيل من الانضمام إلى حماس. وقال: «إلى أي بلد، وأي منظمة، وأي شخص يفكر في الاستفادة من هذا الوضع، لدي كلمة واحدة: لا تتجرؤوا». ومن بين مجموعة زعماء العالم الذين حثوا على توخي الحذر نفسه، كان بايدن هو الشخص الوحيد الذي نشر مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات وغيرها من الأصول العسكرية لتعزيز التحذير. وكان الدعم الثابت للرئيس أكثر وضوحًا مع دخول الولايات المتحدة عام انتخابي، نظرًا للانتقادات الصريحة لسياسة بايدن تجاه إسرائيل في بعض أوساط حزبه.
ومن ناحية أخرى، بدأت تظهر اختلافات بين وجهات النظر الأميركية وأولويات إسرائيل العملياتية. ومع استمرار القتال في غزة، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا لصالح «وقفات إنسانية تكتيكية»، والتي كما حدث خلال الهدنة من 24 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 1 ديسمبر/كانون الأول، من شأنها أن تمنح حماس الوقت لإعادة إنشاء خطوط الاتصال الداخلية وإعادة تمركز قواتها من أجل القتال، وتنفيذ هجمات إضافية على قوات الجيش الإسرائيلي وإطلاق صواريخ على مدن إسرائيلية. (وقد رضخت الحكومة الإسرائيلية لهذه الوقفات، والتي يجري التفاوض الآن على وقفة أخرى مشابهة، وذلك فقط من أجل تسهيل عملية إطلاق سراح الرهائن). كما استغلت حماس المناشدات الأميركية لإسرائيل بالسماح بدخول المزيد من الغذاء والوقود وغير ذلك من أشكال المساعدات إلى غزة. وعلى الرغم من أن الاحتياجات المدنية ملحة، فقد صُوّرت الجماعة “الإرهابيّة” وهي تستولي على هذه المساعدات للحفاظ على قبضتها على السلطة. إن اعتراضات بايدن على «القصف العشوائي» الذي تنفذه القوات الجوية الإسرائيلية وعلى الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين في غزة، أجبرت إسرائيل على إعادة ضبط هجوم الجيش الإسرائيلي، الذي يزعم بعض القادة الإسرائيليين أنه أدى إلى إطالة مدته وعرض الجنود الإسرائيليين لخطر متزايد.
ومع ذلك، بشكل عام، كسبت إسرائيل الكثير من شراكتها مع الولايات المتحدة. لقد ساهمت الاتفاقيات الإبراهيمية في تعزيز التكامل الرسمي لإسرائيل في الشرق الأوسط، مما أدى إلى تغيير الخريطة الإقليمية بطرق تعزز أمن إسرائيل. وعلى الرغم من أن القتال في غزة أدى إلى تباطؤ وتيرة التطبيع، إلا أن البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة أشارت جميعها إلى أنها لا تنوي التخلي عن علاقاتها مع إسرائيل. وأعرب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في اجتماع مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في 13 ديسمبر/كانون الأول، عن اهتمامه بفكرة الانضمام إلى صفوفهم في نهاية المطاف.
كما كان الغطاء المادي والسياسي الذي توفره الولايات المتحدة ضروريًا لقدرة إسرائيل على استعادة قوة الردع التي فقدتها بعد كارثة 7 أكتوبر/تشرين الأول. وقال بلينكن في رسالة إلى الشعب الإسرائيلي في 12 أكتوبر/تشرين الأول: «قد تكونوا أقوياء بما يكفي للدفاع عن أنفسكم، لكن طالما أن أميركا موجودة، فلن تضطروا إلى ذلك أبدَا». إن التوازن الدقيق الذي أقامه الوزير بين التحقق من قدرات إسرائيل المستقلة وإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بأمنها يوضح السبب الذي يجعل إسرائيل غير قادرة على تحمل خسارة أفضل صديق لها.
لا ضمانات
يعزو الإسرائيليون الدعم الأميركي القوي لبلادهم دائمًا إلى مجموعة من القيم المشتركة، بما في ذلك الحرية، والتعددية، والديمقراطية والمصالح، مثل تعزيز السلام والاستقرار. وقد بدأت هذه الأرضية تتغير الآن، خاصة وأن الأميركيين الأصغر سنًا يعبرون عن قدر أقل من الانجذاب تجاه إسرائيل مقارنة بالأجيال الأكبر سنًا. وربما يكون جو بايدن، الذي أكد في كثير من الأحيان أنه «ليس من الضروري أن تكون يهوديًا لكي تصبح صهيونيًا»، آخر رئيس ديمقراطي يتمتع بهذا الدعم اللامشروط لإسرائيل.
وهذا الاتجاه ينبغي أن يقلق إسرائيل، وهو ما يقلقها بالفعل. والحقيقة الصارخة هي أن البلاد ليس لديها بديل صالح لمساعدة الولايات المتحدة. إن التحوط في رهاناتها، كما فعلت دول أخرى في الشرق الأوسط، من خلال بناء علاقات مع الصين وروسيا، العضوان الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واللتين وقفتا إلى جانب حماس، ليس خيارًا بالنسبة لإسرائيل. ومؤخرًا، حتى بايدن نفسه بدأ يضبط تصريحاته حول الحرب في غزة. وفي خطاب ألقاه في 12 ديسمبر/كانون الأول، أكد أن «أمن إسرائيل يمكن أن يعتمد على الولايات المتحدة»، لكنه أضاف أن إسرائيل «بدأت تفقد» دعمها في أجزاء أخرى من العالم. وفي الوقت نفسه، دعت هاريس إلى اتباع نهج «أكثر صرامة» في تعاملات واشنطن مع نتنياهو.
وبدلًا من محاولة تقريب هذه المسافة من الولايات المتحدة، ربما يسعى نتنياهو في الواقع إلى إثارة خلاف مع واشنطن من أجل تحسين فرص عمله مع انخفاض معدلات تأييده. أعلن نتنياهو أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في 11 ديسمبر/كانون الأول أن «رئيس الوزراء الذي لا يستطيع تحمل الضغوط الأميركية يجب ألا يدخل مكتب رئيس الوزراء»، لكن الانخراط في مشاجرات علنية مع الولايات المتحدة هو آخر ما تحتاجه إسرائيل الآن. ولتجنب مستقبل تضطر فيه إسرائيل إلى مقاومة المخاطر الوجودية دون اللجوء إلى الترسانات العسكرية الأميركية أو استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يتعين على صناع السياسات الإسرائيليين أن يغيروا مسارهم.
أولًا، عليهم أن يهتموا بمتابعة الحملة العسكرية في غزة بحذر. وكان إدراج أعضاء حزب المعارضة في حكومة الحرب خطوة مسؤولة في هذا الاتجاه. ومع استمرار الحرب، يجب على جيش الدفاع الإسرائيلي أن يسعى إلى تحقيق أهدافه، التي يؤيدها الإسرائيليون بأغلبية ساحقة، في أسرع وقت ممكن مع تقليل الأضرار الجانبية والأذى الذي يلحق بالمدنيين. ولتحقيق هذه الغاية، يجب على سلسلة القيادة في جيش الدفاع الإسرائيلي أن تكون دقيقة في تحديد الأهداف العملياتية المشروعة، ولا تسمح بالهجمات إلا عندما يتم استيفاء هذه المعايير. وينبغي لها أيضًا أن تستمر في تنفيذ البروتوكولات الأخلاقية للقتال. إن إظهار الاحترافية والنزاهة من شأنه أن يساعد إسرائيل على تجنب تكرار حرب عام 2006 في لبنان، عندما دفع غياب النصر الإسرائيلي الواضح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إلى الاستنتاج بأن إسرائيل «أساءت استغلال الفرصة» لتوجيه ضربة حاسمة ضد حزب الله وداعميه في إيران وسوريا.
إن إسرائيل بحاجة ماسة إلى إعطاء الأولوية للأمن القومي على السياسة. الميزانية التكميلية لعام 2023 التي تم إقرارها في 14 ديسمبر/كانون الأول، والتي كان من المفترض أن تغطي النفقات غير المتوقعة للحرب في غزة، حولت الأموال الثمينة إلى بيروقراطيات غير ذات صلة، بما في ذلك وزارة القدس والتراث ووزارة الاستيطان والبعثات الوطنية، لإرضاء الدوائر الانتخابية الرئيسية. بدلًا من ائتلاف نتنياهو. ويوجد قلق واسع النطاق من أن ميزانية 2024 ستتبع نفس النمط من تخصيص الموارد للرعاية السياسية للأحزاب الدينية في نفس الوقت الذي يُطلب فيه من الولايات المتحدة المساعدة في تعويض تكاليف الحرب.
كما قرر نتنياهو تأجيل تصويت مجلس الوزراء على الموافقة على تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية والسماح للعمال الفلسطينيين من الضفة الغربية باستئناف العمل في إسرائيل. ويدعم الجيش الإسرائيلي، والشاباك (جهاز الأمن الداخلي)، ومجلس الأمن القومي، إجراء التوظيف بشروط معينة. اُتخذ هذا القرار لتجنب الصراعات مع الوزراء المتشددين الذين يتسامح رئيس الوزراء بشكل عام مع تصريحاتهم وأفعالهم الاستفزازية. إن استخدام نتنياهو للخطاب التحريضي لتعزيز أرقامه المتراجعة في استطلاعات الرأي يساهم بشكل أكبر في الانقسام في وقت يشعر فيه الإسرائيليون بالحداد على خسائرهم. ومن أجل إعادة بناء العقد الاجتماعي الممزق في إسرائيل، والذي وحد مجتمعها المتنوع في السابق حول مبادئ يهودية وديمقراطية مشتركة، واستعادة الثقة في القيادة المنتخبة في البلاد، فمن المقترح بذل الجهود لإجراء انتخابات برلمانية جديدة بمجرد أن يسمح الوضع الأمني بذلك.
وأخيرًا تحتاج إسرائيل، وبشكل عاجل، إلى صياغة موقف واضح بشأن القضية الفلسطينية. عندما أُنشئت دولة إسرائيل قبل 75 عامًا، كان عليها أن تحارب التهديدات التي تهدد بقاءها، واليوم، يتعين على وكلاء إسرائيل أن يعبروا عن رؤية متماسكة لوجهتها النهائية. وإلا فإنهم سوف يجدون صعوبة في إقناع الولايات المتحدة والدول الأخرى بالبقاء إلى جانب إسرائيل. يجب على نتنياهو أن يرفع الحظر الذي يفرضه على إجراء نقاش حقيقي، داخل حكومته ومع إدارة بايدن، حول ما سيأتي بعد الصراع في غزة، وأن يحدد ليس فقط ما لن تقبله إسرائيل، بل أيضًا النتائج التي ستقبلها. ورفض رئيس الوزراء محاولات إجراء هذه المحادثة خوفًا من زعزعة استقرار ائتلافه الحاكم. وقد أعرب بايدن عن إحباطه من هذا الوضع، حيث علق في 12 ديسمبر/كانون الأول قائلًا إن نتنياهو «يجب أن يتغير»، لكن «الحكومة في إسرائيل تجعل الأمر صعبًا للغاية».
وسواء كانت إسرائيل تريد دولة واحدة، أو دولتين، أو أي شيء آخر، فيتعين على قادتها ومواطنيها أن يقرروا المسار الذي سيسلكونه قريبًا. ويجب عليهم أن يدركوا أيضًا أنه بغض النظر عن قرارهم، وهو القرار الذي يجب عليهم اتخاذه وحدهم، فسيكون له عواقب ليس فقط على إسرائيل نفسها، بل أيضًا على علاقتها الأساسية مع الولايات المتحدة. وإذا أصبحت الولايات المتحدة محبطة بما فيه الكفاية من السياسات الإسرائيلية لدرجة أن واشنطن قد تفرض شروطًا على تقديم المساعدة العسكرية الأميركية، فقد تجد إسرائيل نفسها مقيدة بشكل كبير. إن تأخير إدارة بايدن مؤخرًا في تصدير أكثر من 20 ألف بندقية من طراز M-16 المخصصة لفرق الدفاع المدني الإسرائيلية؛ بسبب مخاوف الولايات المتحدة بشأن عنف المستوطنين في الضفة الغربية يمكن أن يكون نذيرًا لمزيد من العوائق.
مع تعهد حماس بتكرار عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول حتى «إبادة» إسرائيل، وتصعيد حزب الله هجماته عبر الحدود الإسرائيلية مع لبنان، وتعطيل الحوثيين في اليمن للشحن الإسرائيلي في البحر الأحمر، واستمرار تعلق المملكة العربية السعودية باحتمال التطبيع، فإن التحركات الإسرائيلية القادمة قد تكون الفاصلة بين تعميق العنف والتقدم نحو السلام.
هذا المقال مُترجم عن مجلة “فورين أفيرز” الأميركية.
المصدر: عرب 48