لجنة “أنسكوب” تقدّم تقريرها للأمم المتّحدة 1947 (32/10)
بعد أن قامت لجنة “أنسكوب” بجولاتها في أنحاء فلسطين، ابتدأت في بداية شهر تموز / أيلول 1947، مرحلة الاستماع إلى شهادات الأطراف المتعلقة بعمل اللجنة، من عرب ويهود صهاينة وممثلي الحكومة الفلسطينية البريطانية ورجال دين وسياسة، اهتمت اللجنة بسماع أقوالهم وتوجيه الأسئلة لهم بشأن إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية.
أما العرب الفلسطينيون، فقد قاطعوا اللجنة مقاطعة تامة، وكانت اللجنة العربية العليا قد أصدرت بيانًا في الصحافة المحلية، قبل قدوم اللجنة إلى فلسطين، تدعو فيها إلى مقاطعة أعمال اللجنة الخاصة، وتعلن إضرابًا عامًا في يوم قدومها إلى فلسطين، وتطالب كافة الجهات والأفراد بعدم الإدلاء بشهاداتهم أمام اللجنة، وعدم إجراء أي اتصال مع اللجنة كتابيًا أو بأي وسيلة أخرى، وعدم التشاور مع أعضاء اللجنة بصورة رسمية وغير رسمية، ناهيك عن عدم إجازة حضور اجتماعات اللجنة وحفلاتها السرية والعلنية من طرف أي عربي بما يضم الصحفيين. كما تلقت اللجنة الخاصة رسالة بهذا الخصوص موقعة من جمال الحسيني، نائب رئيس اللجنة العربية العليا، مما اضطرها إلى مناقشة هذا الأمر في 17 حزيران / يونيو 1947، وأعربت اللجنة الخاصة عن “أملها أن لا يكون هذا القرار حاسمًا”، وناشدت اللجنة العربية العليا بمراجعة قرارها “من أجل مصلحة الجميع”. حاولت اللجنة الخاصة فيما بعد التوجه بواسطة رئيسها إلى اللجنة العربية العليا، ومناشدتها بالعدول عن المقاطعة، وذلك عندما ابتدأت مرحلة الاستماع إلى الشهادات، ولكن اللجنة رأت أن ليس هناك مبرر لتغيير رأيها في اللجنة ومقاطعتها، وتم إبلاغ ذلك للجنة بشكل رسمي في رسالة موقعة باسم جمال الحسيني، وذلك بتاريخ 10 تموز / يوليو 1947.
من الجدير ذكره هنا، أن اللجنة الخاصة كانت قد استلمت 20،000 طلب للإدلاء بشهادة خطية أو بشكل شفهي أمام اللجنة، وذلك قبل أن تترك مدينة نيويورك متوجهة إلى بريطانيا في طريقها إلى فلسطين، وكانت الأغلبية الساحقة من الطلبات موجهة من مؤسسات وشخصيات وأحزاب صهيونية. قامت اللجنة بتعيين لجنة فرعية لبحث كل هذه الطلبات، وتحديد المعايير المطلوبة من الطلبات التي ستقبل للشهادة أمام اللجنة. في النهاية أُدْلِي بست عشرة شهادة أمام اللجنة في مقر جمعية الشبان المسيحية في القدس، حوالي نصف هذه الشهادات كانت من شخصيات تابعة للوكالة الصهيونية، وشهادتين لممثلين عن الحكومة الفلسطينية البريطانية. أما باقي الشهادات، فكانت من ممثلي أحزاب ومؤسسات ورجال دين.
الشهادات الصهيونية أمام اللجنة
تمحورت الاستراتيجية الصهيونية في شهاداتها أمام اللجنة، حول النقاط التالية: ادعاء العلاقة والحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، وقدرة البلاد على استيعاب كميات كبيرة من المهاجرين اليهود، وحلّ مسألة الفلسطينيين العرب، وحلّ المسألة اليهودية، واقتراح حلّ للمشكلة الفلسطينية.
بالنسبة لادعاء الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، فقد كان هذا الادعاء هو محور الشهادة الصهيونية، وبعد أن رأت الوكالة الصهيونية بأن عددًا من أعضاء اللجنة الخاصة هم من خلفيات قانونية (قضاة ومحامون)، عملت على أن تكون الشهادات مدعمّة بأسس قانونية قوية، تؤكد حق اليهود في إقامة الوطن القومي في فلسطين اعتمادًا على وعد بلفور وصكّ الانتداب.
أما بخصوص قدرة فلسطين على استيعاب كميات كبيرة من المهاجرين اليهود، فقد حاول الصهاينة إقناع اللجنة بأن قدرة البلاد على استيعاب الهجرة هو أمر ديناميكي، حيث إن هذا المعطى يتغير مع تطوير البلاد، فكلما قدم مهاجرون جدد، فإنهم يقومون بتطوير البلاد؛ ومن ثم يمكنها استيعاب كميات جديدة، وهكذا دواليك.
أما بالنسبة للمسألة العربية، فقد ادعى مندوبو الحركة الصهيونية أن وجود الدولة اليهودية هو أمر مفيد للعرب واليهود على حد سواء، إذ إن هذا من شأنه تطوير العرب اقتصاديًا وماديًا، من جهة أخرى يؤدي إلى حلّ جذري للمسألة اليهودية بواسطة إقامة الدولة وتكثيف الهجرة إلى البلاد، من خلال إحضار متضرري الحرب العالمية بأسرع ما يمكن.
في موضوع حلّ مشكلة الصراع القائم على أرض فلسطين مع العرب، كان التكتيك الصهيوني هو أن تتم المطالبة أولًا بدولة يهودية على كامل أرض فلسطين، وفي بعض الأحيان، كانت تتم الإشارة بشكل واضح على أن هذه الدولة يجب أن تضم شرق الأردن أيضًا. أما عندما يبدأ أعضاء اللجنة بتوجيه أسئلة صعبة بخصوص التقسيم، وإذا لم يكن بدّ من ذلك، فيجب ألا تتم معارضة هذا المشروع بشكل قطعي. زد على ذلك، أن باستطاعة أشخاص معينين من الصهاينة، مناقشة هذا الموضوع مع كلّ أو جزء من أعضاء اللجنة، بشكل غير رسمي، خارج نطاق الاجتماعات الرسمية، وذلك بتنظيم لقاءات فردية أو جماعية لدى مؤسسة أو شخص ما، كما حدث عندما اجتمع جزء من أعضاء اللجنة الخاصة مع “حاييم وايزمان” بشكل سرّي حيث شرح للجنة أن مشروع التقسيم يجب أن يكون في حدود ما اقترحته لجنة “بيل” مع إضافة النقب للدولة اليهودية. كذلك قام قسم منهم (رئيس اللجنة، و”راند” و”بلوم” و”سارتر” و”ليسيزتسكي” و”انتظام” و”جراندوس”) بزيارة لبيت “موشي شرتوك” في القدس بعد ذلك بساعات، ومناقشة موضوع الحل للمسألة الفلسطينية مع “بن غوريون” و”موشي شرتوك” و”غولدا ماريسون (مئير)” وغيرهم من قيادة الحركة الصهيونية، وتوصلهم في النهاية إلى أن التقسيم هو الحل الأمثل الذي على اللجنة أن تتبناه. في هذا اللقاء كان “بن غوريون” متحمسًا للتقسيم، بل إنه قام بترسيم حدود الدولة اليهودية أمام اللجنة، بل إنه صرح للصهاينة الموجودين بأن مؤتمر “بلتيمور”، الذي أعلنت فيه الحركة الصهيونية عدم قبولها لأي حل لا تشمل فيه الدولة اليهودية كل أرض فلسطين، لا يجب أن يكون حجر عثرة أمام حل التقسيم الذي يؤدي لإقامة الوطن القومي.
شهادة رئيس الوكالة الصهيونية أمام اللجنة
رجع “بن غوريون” رئيس الوكالة الصهيونية في شهادته أمام اللجنة في 4 تموز / يوليو 1947، بالتاريخ 3،300 عام عندما تحدث عن خروج اليهود من مصر إلى فلسطين، وتشكيلهم دولتهم الخاصة التي كان “يسودها العدل والأخوة، اتباعًا لتعاليم الأنبياء الذين تبعوا النبي موسى”. وتحدث عن طرد اليهود مرتين من فلسطين، ورغم ذلك لم ييأس اليهود، ولم يستسلموا “للقوة المادية المحرومة من الصلاحية الأخلاقية”، رغم أنهم عانوا الأمرين في بلاد غريبة لثمانين جيلًا، وها هي فرصتهم إلى العودة إلى أرض أجدادهم، وهي الأرض الوحيدة التي يرتبط بها اليهود، من أجل إرساء العدالة والسلام من جديد في فلسطين. ثم دخل في موضوع “التعهد الدولي قبل نحو ثلاثين عامًا منذ إعلان وعد بلفور عام 1917 وصكّ الانتداب عام 1922، “وهو وثيقة حصلت على تأييد 52 دولة ممثلة بعصبة الأمم”، كما قال.
بعدها تكلم “بن غوريون” عن صراع اليهود مع القوة المنتدبة في فلسطين، وادعى أن بريطانيا تنصلت من وعد بلفور الذي يعني “اعتراف بريطانيا العام باليهود كشعب، لديهم الحق في وطن قومي، ليس ليهود فلسطين فقط، بل للشعب اليهودي بأكمله، وأن هذا الوطن القومي يجب أن يقام على كامل فلسطين التاريخية، أي أنه يشمل شرق الأردن”، وتجلّى التنصل البريطاني بسياسة الكتاب الأبيض عام 1939، ومنعها لهجرة اليهود إلى فلسطين بموجب هذه السياسة، مما أدى إلى مقتل عشرات، بل مئات آلاف اليهود على أيدي النازية في أوروبا. وطالب “بن غوريون” بتشجيع “وتحفيز هجرة اليهود إلى فلسطين بشكل واسع، وبأسرع ما يمكن من خلال الاستيطان والزراعة المكثفة للتربة”، وذلك لأن الصهاينة “يراهنون على هجرة الملايين من اليهود إلى فلسطين، حيث إن اليهود، إذا ما أتيحت لهم الفرصة في العودة وامتلاك الأراضي، فسوف يأتون بكميات كبيرة لتشكيل أمّة يهودية”. أما الحلّ الذي يراه “بن غوريون” ملائمًا، فيتمثل في الهجرة الواسعة وإقامة الدولة اليهودية في كامل فلسطين. وادعى “أن التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي للعرب في فلسطين لن يتحقق إلا من خلال إقامة دولة يهودية في فلسطين”. أما العرب فقد تم تحقيق أحلامهم في الحرية من الدولة العثمانية ولديهم الآن سبع دول، “أما اليهود فلم تتحقق طموحاتهم السياسية بعد، وأن المصالح والطموحات التاريخية لليهود والعرب ليست متعارضة، بل إن كل طرف بحاجة إلى الآخر”. لذلك يجب “إلغاء الكتاب الأبيض فورًا، وإقامة الدولة اليهودية وتعزيز التحالف العربي اليهودي”.
خلال طرح الأسئلة على “بن غوريون” من قبل اللجنة، حدثت مشادّة كلامية بينه وبين المندوب الهندي، ورفض أن يعلن تأييده لمشروع التقسيم، بل استمر في نفس النهج في إجاباته: العلاقة التاريخية والقانونية لليهود بفلسطين، والتهجم على بريطانيا بسبب سياسة الكتاب الأبيض، واتهامها بالقمع البوليسي العسكري لليهود في فلسطين، واعتبر حكمها لفلسطين غير شرعي بفعل أنها لا تعمل على تحقيق مطالب سكان فلسطين اليهود السياسية، المتمثلة بحقهم في إقامة وطنهم القومي.
شهادات يهودية وصهيونية أخرى
أمّا “حاييم وايزمان” الذي كان سابقًا رئيسًا للوكالة الصهيونية، فقد شهد أمام اللجنة الخاصة بصفته الشخصية، وكان هو الوحيد الذي حصل على إذن بذلك من بين جميع الأشخاص الذين لا يمثلون أي مؤسسة، وتقدموا بطلب للجنة بطلب للمثول أمامها. وكما فعل “بن غوريون” عاد “وايزمان” إلى النبي موسى وقيادته لليهود نحو فلسطين، في معرض تفسيره للجنة لماذا اختار اليهود فلسطين للاستيطان فيها، بدل “كامتشاكا، أو ألاسكا، أو المكسيك، أو تكساس” أو أي بلد آخر. وادعّى أن فلسطين كانت قاحلة ومهجورة عندما زارها للمرة الأولى عام 1908 ثم برفقة الجنرال “اللنبي” عام 1918، ورغم ذلك قدم اليهود إليها بفعل الرابط التاريخي، ورغم معارضة العرب لذلك، وأصبحت بفضلهم “جذابة ومغطاة بالأشجار والعشب”. بعدها تحدث عن وعد بلفور بصفته الحدث الأعظم في تاريخ اليهود، والوثيقة القانونية التي اعتمدها صكّ الانتداب فيما بعد. وفي نهاية خطابه أمام اللجنة تحدث ضد سياسة الكتاب الأبيض، وأن هذه السياسة تؤثر سلبًا على علاقة اليهود بالعرب، “فلماذا يستمع العربي إلى عروض اليهود إذا كان يعلم أنه باستخدام القليل من العنف، يمكنه أن يحصل على ما يريد وأكثر”. ولذلك “فشلت كل المحاولات لإقناع العرب بأن من مصلحة الطرفين الوصول إلى اتفاق في بينهما”.
على عكس “بن غوريون”، تحدث “وايزمان” بكل وضوح عن مشروع التقسيم؛ لأن له “ميزتين عظيمتين، فهو نهائي ويساعد في تبديد بعض مخاوف أصدقائنا العرب”، وإذا “كان التقسيم نهائيًا، فسوف يدرك العرب واليهود أنهم لا يستطيعون التعدي على مجالات بعضهم البعض”. أما بالنسبة لليهود “فهذا يعني المساواة في المكانة مع جيراننا العرب، وهو الشرط الأكثر أهمية للعلاقات الطيبة بيننا وبينهم”. وأنهى خطابه مطالبًا “بالتخلص من الكتاب الأبيض وإلقائه في كومة القمامة حيث ينبغي له أن يكون”.
كذلك مثل أمام اللجنة “الحاخام فيشمان” ممثل الجناح الديني للحركة الصهيونية في اللجنة التنفيذية للوكالة الصهيونية، الذي شدّد على الارتباط الديني لليهود بأرض فلسطين، والقدرة الإنتاجية الاقتصادية لفلسطين الكافية لحل مشكلة الهجرة اليهودية. و”ف. بيرنشتاين” ممثل الوكالة الصهيونية، الذي عرض الجوانب الاقتصادية والقدرة الاستيعابية للبلاد للمهاجرين اليهود. و”اليعيزر كابلان” أمين صندوق الوكالة الصهيونية، والذي تركزت شهادته حول الأراضي الزراعية في فلسطين وإمكانية تطوير الزراعة بحيث يتم استيعاب مزيد من المهاجرين اليهود. كذلك مثل أمام اللجنة ممثلون عن أحزاب صهيونية مثل حزب “فاعد لئومي” و”أجودات يسرائيل” والحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي مثله أمام اللجنة “صموئيل ميكونس”، و”مئير فلنر”، ودكتور “إيرليتش”، وتلخصت مطالب الحزب بالاستقلال التام لفلسطين، وإلغاء الانتداب، وإجلاء الجيوش الأجنبية، وإلغاء السيطرة الاقتصادية للاحتكارات الأجنبية، والاعتراف بحق الشعبين في الاستقلال في دولة فلسطين واحدة حرة وديموقراطية على أساس مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق المدنية والوطنية والسياسية. كانت شهادة الحزب الشيوعي هامة لأعضاء اللجنة، رغم صغر الحزب وقلّة أعضائه، لأن موقفه يمثل بشكل ما موقف الاتحاد السوفييتي.
لقاء اللجنة مع ممثلي الدول العربية
لم تستطع اللجنة الخاصة إقناع اللجنة العربية العليا بإلغاء مقاطعتها للجنة، لذلك وبعد سماع الشهادات الصهيونية وممثلي الطوائف المسيحية واليهودية، وممثلي الحكومة البريطانية في فلسطين، كان على اللجنة أن تأخذ قرارها النهائي بالنسبة لسماع الطرف العربي. اقترح ممثل الهند السير عبد الرحمن أن تقوم اللجنة الخاصة بسماع رأي الدول العربية كبديل عن ممثلي الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تمت مناقشته مطولا داخل اللجنة، وذلك خوفًا من الوقوع في خطأ سياسي تكون نتيجته غير محسوبة، وربما يكون له تأثير كبير على مهمة اللجنة. وفي النهاية اتخذت اللجنة قرارها بمقابلة ممثلي الدول العربية السبع الممثلة بجامعة الدول العربية، وهي: مصر وسورية ولبنان والعراق واليمن والسعودية وشرقي الأردن، وتقرر أن يكون اللقاء في بيروت، ما تم فعلًا في 22 تموز / يوليو 1947، في مقر وزارة الخارجية اللبنانية.
كان الموقف العربي من لجنة “أنسكوب” متفاوتًا، فبينما كان هناك دعوة للمقاطعة التامة للجنة من قبل سورية والعراق، مع إعلان واضح بأن هاتين الدولتين لن تقفا مكتوفتي الأيدي إذا أقرت اللجنة قرارًا ليس في صالح الشعب العربي في فلسطين، كانت اليمن والسعودية تصرحان عن رفضهما للتعاون مع اللجنة أيضًا، ولكن بدون محاربة أي قرار يصدر عنها. أما مصر فكانت تريد العمل في إطار الأمم المتحدة، أي أنها لم تكن تفضل أن “تقيم الدنيا، وتقعدها” على أثر أي قرار لا يضمن للعرب حقوقهم الكاملة، حتى تستطيع الاستفادة من الأمر في سعيها إلى فرض سيطرتها على السودان بعد انسحاب بريطانيا منه. في حين أن دولة لبنان كانت تعصف بها تيارات مختلفة، فمنها من كان يريد التعاون الاقتصادي مع اليهود، ومنهم من كان على موقف سورية والعراق، لكن الموقف الرسمي المعلن كان ضد إقامة دولة يهودية. بالنسبة لملك الأردن، فقد كان يفضل أن يطرح رأيه المستقل عن باقي الدول العربية، وذلك لأنه كان يطمح إلى ضم أي قسم يخصص للعرب في الضفة الغربية لنهر الأردن، ولذلك لم يشارك في الاجتماع الذي عقد في لبنان، وطالب أعضاء اللجنة بزيارته في مدينة عمان، بعد انتهائهم من الاجتماع مع الدول العربية.
قبل الاجتماع في لبنان قررت الدول العربية أن يتم تحضير مذكرة مشتركة، تتم تلاوتها أمام أعضاء اللجنة، وأن لا يتم إصدار أي بيان منفرد من أي دولة كانت. كذلك وفد إلى لبنان جمال الحسيني وأميل الغوري ورفيق التميمي من اللجنة العربية العليا، وكانوا محملين برسالة من الحاج أمين الحسيني إلى الدول العربية، يشرح مجددًا موقف اللجنة العربية العليا من الحلّ الوحيد المقبول على الشعب الفلسطيني، وهو إعطاء الاستقلال للشعب الفلسطيني بشكل فوري.
شهادة ممثلي الدول العربية أمام اللجنة الخاصة
كما أشير سابقًا، عقدت جلسة الاستماع لممثلي الدول العربية في 22 تموز / يوليو 1947. افتتحت الجلسة بترحيب من رئيس مجلس النواب اللبناني باللجنة التي اختارت القدوم إلى لبنان، ثم أشار إلى أن ما يفعله اليهود في فلسطين، إنما “يعكر صفو تناغم الدول العربية”، ولذلك فإنها، أي الدول العربية “لن تسمح بفرض وطن يهدد علاقاتها الوثيقة، ولذلك فإنها ستدافع عن نفسها بواسطة الدفاع عن فلسطين”. بعدها دعا وزير خارجية لبنان حميد فرنجية ليلقي على اللجنة البيان المتفق عليه عربيًا.
رحب وزير الخارجية اللبناني باللجنة “بالرغم من اقتناع الدول العربية بأن هناك حلًا واحدًا للمشكلة الفلسطينية، ألا وهو إنهاء الانتداب واستقلال فلسطين”. ثم لفت انتباه اللجنة إلى نقطتين أساسيتين: حق فلسطين في تقرير المصير، وضرورة حفظ السلام في الشرق الأوسط. في معرض شرحه للنقطة الأولى تتطرق للوثيقتين اللتين “لا قيمة لهما”، كما قال، وهما وعد بلفور وصكّ الانتداب اللذين يتنافيان بشكل قاطع مع المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، فبينما “ينص الميثاق على أن الغرض من صكّ الانتداب هو خدمة مصالح الأراضي الخاضعة للانتداب، ويطالب الدولة المنتدبة بدفعها إلى الاستقلال، فان صكّ الانتداب في فلسطين ينص على ضرورة إقامة وطن قومي لليهود”. أما وعد بلفور، فقد صدر قبل أن تكون فلسطين تحت الحكم البريطاني، إذ كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وكان اليهود يشكلون 7٪ من سكانها فقط.
لذلك يرى البيان العربي على “أن وعد بلفور وصكّ الانتداب كانا غير نظاميين، ولا يمكنهما توفير الأساس لوضع قانوني مقبول…. ويشكل تهديدًا لأعز الحقوق وهو حق الشعب الفلسطيني في الوجود”. وأن “الحق في تقرير المصير الذي يستحقه الشعب العربي في فلسطين، والذي ينبغي أن يكون بوسعه أن يمارسه، قد تعرض للانتهاك المستمر، ولا يزال يتعرض للانتهاك حتى يومنا هذا، مع أنه حق طبيعي ومطلق وغير قابل للتصرف، ولا يمكن لأي قوة أو أمر واقع أن يزيله”.
أما النقطة الثانية وهي التهديدات التي تواجه السلام في الشرق الأوسط، فقد عزى هذه التهديدات إلى وجود الحركة الصهيونية في فلسطين، حيث إن الحركة الصهيونية كانت قد “اكتفت في البداية بالتطلع إلى فلسطين كملجأ، ثم طالبت بوطن قومي. وبعد أن حصلت عليه سعت إلى توسيع سيطرتها، وإنشاء نوع من الدولة داخل دولة فلسطين، والآن يخطط الصهاينة لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين بأكملها. ويسعون إلى التوسع على حساب الدول العربية المجاورة”. وشرح وزير الخارجية اللبناني بإسهاب عن مطالبات الحركة الصهيونية بضم شرق الأردن إلى الدولة اليهودية، وضم أجزاء من سورية ولبنان. وتم ربط ذلك بلجوء الصهيونية إلى الإرهاب من أجل تحقيق مآربها، لذلك لا يمكن للدول العربية أن تمر مرّ الكرام على السلوك العدواني الصهيونية، التي جعلت الوضع في فلسطين في حالة عدم استقرار دائم، مما يشير مستقبلًا إلى أنها، أي الحركة الصهيونية، تشكل خطرًا على سلامة البلدان العربية.
في ختام بيان الوزير حميد فرنجية، أشار إلى الحل الصحيح والعادل من وجهة نظر الدول العربية ويتلخص في: الاعتراف حرية الشعب العربي في فلسطين واستقلاله السيادي، وان هذا شرط أساسي، ولا يقبل أي تسوية. كذلك “يجب وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين على الفور، والحفاظ على الأنظمة المعمول بها الآن فيما يخص بنقل الأراضي”. كما ويجب “إنشاء حكومة عربية مستقلة على أساس المبادئ الديموقراطية بدون تأخير”. هذا ويرى البيان بأن “أي خطة تتضمن تقسيم فلسطين لن تؤدي إلا إلى تفاقم النزاع. ومن المحتم أن تتحول أي دولة يهودية تقام في فلسطين إلى مركز للمكائد ونقطة تجمع للقوات الصهيونية التي ستوجه ضد الدول العربية”، ولذلك “لن تسمح الدول العربية تحت أي ظرف من الظروف بإنشاء دولة صهيونية مستقلة على الأراضي العربية”.
أما بالنسبة لليهود الفلسطينيين، فيتم منحهم الجنسية الفلسطينية من خلال القنوات القانونية، بحيث تكون نفس الحقوق التي يتمتع فيها العرب. وبخصوص اليهود المتضررين في أوروبا من الحرب الكونية، فيجب أن يتم معالجة مشكلتهم بمعزل عن المشكلة الفلسطينية، “ولا يجوز أن نسعى إلى تخفيف معاناة أمة ما من خلال تفاقم معاناة أمة أخرى وإبادتها”.
في اليوم التالي عقدت جلسة أخرى للجنة، تم فيها توجيه أسئلة لممثلي الدول العربية بعضها كان بهدف إحراجهم، وكان هذه الأسئلة تتمحور حول النقاط التالية: تعريف المهاجر اليهودي الشرعي ومصير غير الشرعيين منهم، ووضع اليهود داخل الدولة العربية في فلسطين وإمكانية تطورهم، ومعاملة اليهود أو ادعاء اضطهادهم في الدول العربية القائمة، وعن أعداد القوات الشرطية التي تحتاجها الدولة العربية المنشودة من أجل الحفاظ على الأمن، وعن المقاطعة العربية للمنتجات الصهيونية، وعن الأخطار التي تسببها إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وعن موقف الدول العربية من الحلول المطروحة مثل التقسيم أو الدولة ثنائية القومية أو الدولة الفدرالية، وعن مدى إمكانية قبول الشعب العربي في فلسطين لأيٍّ من هذه المقترحات، وغيرها.
وجّه رئيس اللجنة “سناستروم” سؤالًا حول ماذا سيكون موقف الدول العربية في حالة أن الأمم المتحدة قررت إقامة دولة يهودية على قسم من أرض فلسطين، “هل سيعتبر العرب أنها أقيمت بالقوة؟ ولذلك سيقومون بالردّ على إقامتها بالقوة؟”. ردّا على هذا السؤال كانت الإجابة بأن الأمم المتحدة إذا فعلت ذلك فإنها تنحرف عن ميثاقها، ولذلك لدى العرب الحق في اتخاذ أي قرار يرونه مناسبًا للرد على هذه الخطوة. أما الرد على السؤال حول التسوية التاريخية المناسبة للوضع الحالي في فلسطين، كان الرد “أن العرب لما توجهوا إلى الأمم المتحدة لم يتحدثوا عن تسوية بين حلّ عادل وحلّ غير عادل، بل إنهم يريدون الحلّ العادل فقط، وهذا لا يتم عن طريق أيّة تسوية، في إشارة إلى الرفض القاطع لأي حلّ ما عدا إقامة دولة عربية على كامل تراب فلسطين.
اللجنة الخاصة تقدم تقريرها للأمم المتحدة 31 آب / أغسطس 1947
بعد الاجتماعين في بيروت، توجه قسم من أعضاء اللجنة إلى عمان للقاء الملك عبد الله بن الحسين، الذي عرض على اللجنة موقفه من حلّ المشكلة الفلسطينية، والذي لم يكن بعيدًا عن ما عرضه ممثلو الدول العربية الأخرى. ورغم ذلك كتب “رالف بانش”، عضو سكرتارية اللجنة، في مذكراته أن “عبد الله الماكر يرى إمكانية قائمة لتوسيع مملكته بمساعدة التقسيم”.
بعد هذا اللقاء توجه أعضاء اللجنة إلى مدينة جنيف من أجل وضع نتائج تحقيقاتهم في تقرير يشمل الحلّ أو الحلول المقترحة للمشكلة الفلسطينية، على أن يتم ذلك قبل الموعد النهائي الذي حدده الأمين العام للأمم المتحدة، وهو الأول من أيلول / سبتمبر 1947، من أجل توزيعه على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليتسنى لهم مناقشته في الدورة المقبلة في خريف نفس السنة.
منذ نهاية تموز / يوليو حتى اليوم الأخير من شهر آب / أغسطس، عقدت اللجنة العديد من الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية من أجل التوصل إلى نتيجة يتفق عليها الجميع، ولكن ذلك لم يحدث، إذ إن اللجنة قدمت في النهاية مشروعين: مشروع الأغلبية وهو اقتراح التقسيم، ومشروع الأقلية وهو عبارة عن اقتراح لإقامة دولة فدرالية، مع حكم ذاتي للمنطقتين العربية واليهودية.
في بداية نقاشاتها، عقدت اللجنة 11 اجتماعًا غير رسميّ، وانتهجت هذه الطريقة من أجل معرفة الموقف الشخصي لكل عضو في اللجنة من أيّ مسألة مطروحة على طاولة البحث. عقدت الجلسة الغير رسمية الأولى في 6 آب / أغسطس 1947، واتفق الحاضرون بالإجماع على عدم إمكانية استمرار الانتداب البريطاني لفلسطين، ولكن الأغلبية رفضت أن تناقش ما هو الحلّ البديل للانتداب في ذلك الاجتماع. في الجلسة التالية تم الاتفاق بالإجماع أيضًا على رفض حل الدولة العربية على كامل تراب فلسطين، كذلك تم رفض فكرة الدولة اليهودية على كل فلسطين.
الموضوع الثالث الذي تمت مناقشته في الجلسات الغير رسمية، كان موضوع الدولة ثنائية القومية حيث أعلن قسم من أعضاء اللجنة أنهم لا يعرفون ما معنى ذلك بشكل واضح، ولذلك وضع كل عضو تصوره الخاص ورؤيته للدولة الثنائية القومية. ثم تناولت اللجنة الخاصة مشروع الدولة الفدرالية، وهنا طرح ممثل كندا “راند” اقتراح مشروع دولتين لكل واحدة منهما ممثل في الأمم المتحدة، ولكن سياساتهما الاقتصادية والاجتماعية تتم إدارتهما بواسطة سلطة مركزية تكون مكونة من ثلاثة يهود وثلاثة مسلمين وثلاثة مسيحيين. أما السير عبد الرحمان، فقد اقترح الحل الذي طرحته اللجنة العربية العليا، بحيث تكون هناك دولة واحدة يتمتع اليهود فيها بحقوق مدنية وقومية، ولكن اقتراحه رفض من قبل الأغلبية.
أما الموضوع الأخير الذي تم طرحه في الاجتماعات الغير رسمية، كان موضوع التقسيم إلى دولتين، ولكن هذا الحل واجه نقاشًا حادًّا بين الأعضاء، وقدم بعض الأعضاء مثل ممثل البيرو اقتراحًا مفاده أن يكون التقسيم صارمًا بحيث إن الدولة اليهودية تكون صغيرة، ولكنها لا تحوي في داخلها عربًا، وتكون الدولة العربية خالصة مع أغلب مساحة فلسطين، أما الأماكن المقدسة خاصة القدس، فتكون تحت إدارة دولية.
بعد إتمام كل الجلسات الغير رسمية، كان هناك أحد عشرًا حلًّا مختلفًا، حيث إنه لم يكن هناك اتفاق بين أي اثنين على حلّ معين. وقد كتب المندوب الغواتيمالي “غراندوس” وصفًا دقيقًا لذلك بقوله “لم نكن لجنة مؤلفة من أحد عشر عضوًا، بل كنا إحدى عشرة لجنة مؤلفة كل منها من عضو واحد”. ولكن بعد جلسات مطوّلة ونقاشات مستفيضة أحيانًا وعقيمة أحيانا أخرى، أو كما وصف “بانش” في مذكراته هذه النقاشات بأنها عبارة عن تحرك أعضاء اللجنة في دوائر؛ مما يمنعهم من الوصول لحلول متفق عليها، اقترح هذا على رئيس اللجنة أن يتم تشكيل لجان فرعية، على أن يناقش أعضاء كل لجنة الحل الذي يرونه مناسبًا، ولمّا كانت الحلول المختلفة تصبّ في موضوعين رئيسيين، تم تشكيل لجنتين، لجنة الأقلية المكونة من ممثلي إيران والهند ويوغوسلافيا، على أن تعرض هذه اللجنة الفرعية اقتراحها المتكامل بالنسبة للدولة الفدرالية. أما اللجنة الثانية والتي ضمت ممثلي باقي الدول الثمانية وهم ممثلو: السويد وكندا وأستراليا وهولندا وتشيكوسلوفاكيا وبيرو وجواتيمالا وأورغواي، فكان عليها أن تقدم اقتراحها المفصل لمشروع التقسيم، وإقامة دولة عربية مستقلة وكذلك دولة يهودية مستقلة. قامت مجموعة مشروع التقسيم بتكوين لجنتين فرعيتين منها، الأولى تعنى بتفاصيل مشروع التقسيم المتكامل، لعرضه على الأمم المتحدة، والثانية تعنى بوضع حدود الدولتين العربية واليهودية. وكان اقتراح هذه المجموعة يقضي بوجوب وجود فترة انتقالية، وأن الحلّ المطروح يجب أن يفرض وينفذ بالقوّة، على أن تقوم بريطانيا بذلك، رغم اعتقاد أعضاء اللجنة بأن بريطانيا لا تريد أن تنفذ أي حلّ تطرحه اللجنة.
في يوم 27 آب / أغسطس 1947، صوتت اللجنة الخاصة على الاقتراحين: خطة التقسيم إلى دولتين مع وحدة اقتصادية، وخطة الدولة الفدرالية. نجح اقتراح التقسيم بأغلبية سبعة أعضاء وهم مندوبو: السويد وكندا وهولندا وتشيكوسلوفاكيا والبيرو وجواتيمالا والأورغواي، بينما صوت مندوبي الهند وإيران ويوغوسلافيا لصالح مقترح الدولة الفدرالية، وامتنع المندوب الأسترالي عن تأييد أيّ من الاقتراحين. بعد هذا القرار، تبقى على اللجنة أن تقدم اقتراحًا يتضمن حدود الدولتين المقترحتين، وتركز النقاش في هذا الموضوع حول الجليل والنقب، وكان القرار أن يكون النقب جزءاً من الدولة اليهودية، وكذلك الجليل الغربي ومنطقة الحولة وأصبع الجليل.
قام “بانش” بكتابة اقتراحي اللجنتين (التقسيم والفدرالية)، وتم توقيع التقرير وتقديمه للجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 31 آب / أغسطس 1947.
المصدر: عرب 48