لن يبرحوا الأرض يا أبي
أطفال في غزّة يلعبون ويبرّدون أجسامهم بالماء في ساحة بيتهم المدمّر إسرائيليًّا، 2015 | مؤمن فايز، Getty.
يا أشلاء غزّة… بعد أن تنتهي الحرب، ستقفون طوابيرَ برابرةٍ على شكل أكياس طحين، كي أهرس ما تبقّى مِنْ ألسنتكم. أنتف بسكاكين مدينتكم العربيّة من اللوزتين، مِنْ نخاع البلاغة أبترها وهي ترفع استعاراتها عاليةً في سماءٍ مِنْ رمادٍ وعصف. أَمَسَّكُم جنون الآلهة كي ترفعوا باللغة أجسادكم وطحين قبوركم!
طويلٌ بيننا الحساب…
نزلتم غريبين على أرضٍ غريبةٍ مثل نخلة عبد الرحمن الداخل، لسانكم أعجميٌّ ناءٍ في المدار والجمجمة، وإحلالكم هواءٌ حرامٌ في رطوبة الرمل. فبماذا نسامح أشلاءكم، وما كنّا إلّا ربًّا للخراب والمعجزة. يا أنكيدو أَمْعِنْ وأَطِعْ… يا هابيلُ انْطِقْ… ويا بشرى أبشري بالقيامة والموت يفتّت حصو اللغة الفاجرة.
بيننا حسابٌ وزرعٌ وقرابين!
صورٌ ومصائرُ هالكة… بالأبدان، بالألسن بالنار بالحديد اقْصِفْ… وعلى مدّ ذراعيكَ اقْتُلْ وابْطِشْ ولا تَرْأَفْ يا زمان النسور في فرائسَ ناجزةٍ وجبةً دسمةً للمشتهين. يا شهيّة الدم في نهر غزّة وخمورًا للفيالق!
*
دعنا نموت هادئين!
دعنا نلملم يا أبيضُ آخر أطرافنا مِنْ أعراسنا الجماعيّة. دعنا نزحف إلى قبورنا بأكفانٍ ليس أكثر!
*
عانقوا أطفالكم جيّدًا واخلدوا في حلمٍ فوق النجاة بإبرةٍ تزيح سنتمترًا مِنْ شرود القاذفة، فتخطئ الهدف. هذا كلّ ما في جعبتي مِنْ رحمةٍ. ومع ذلك، فأنا قادمٌ بكلّ ما في دمي مِنْ أودية الانتقام، كي ألقنّكم درس العصر الأخير، وكي تكون إبادتكم على يد الخير والناس الطيّبين.
*
أعدكم بالعتمة. أعدكم بالحديد والجوع والإملاق، وبول الطائرات، حيث تحلّق سعيدةً أكثر مِنْ فراشةٍ وأعظم مِنْ باشق. سينتهي كلّ هذا الموت، وسأختم المعركة بالتغوّط على «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرّي، وأقذف بعد ذلك لغتكم إلى حصّتكم في الأبديّة. لا أرضَ لأطفالكم وهم يتفجّعون على ألعابهم، وللأرامل وهنّ يكنسن بأثوابهنّ غبار الحرب.
*
مسحًا رحيمًا… إبادةً هانئة… واسألوا في غدكم الجرائد عن أشلائكم المنسيّة. سينتهي زمن الحرب وأنتم ما كنتم سوى أرقامٍ ترعاها عين الخائفين. عذابكم جنّتنا، وسحقكم عيون مائنا ونهاركم عتمة أمرنا، فَلِمَ انتظار الحمام وأسراب الخريف ونذور الشتاء ووهم الزيتون. نربّي شجرًا مِنْ أرض الكيبوتس الحضاريّة، نجني لهاث الجنود وهم ينجبون أطفالًا بيضًا في عتمة جرحنا الأزرق… يا أشلاء غزّة ارحلوا ولا تطؤوا بيّاراتنا ولا تجمعوا ألعاب أطفالكم النجسين. فأنتم لستم أكثر مِنْ دودٍ في أرض أنبيائنا وطهارة صهيون.
*
كنّا نترك لكم مِنَ الهواء حصّةً تكفيكم يا أوغاد الأرض، فعن ماذا بحثتم في عذابنا الأشرف. خلّفنا لكم مِنْ سمادنا زردًا كاظمًا علّكم تعقلون، فما كنتم إلّا مِنَ الطامعين الخائنين. عالجنا الكثافة السكّانيّة بالإجهاز على رعاعكم، فتناسلتم كالأرانب، متّكئين على عكّاز الغيب وقانطين مِنْ جيب السماء، اِذْهَبوا للسماء مرّةً واحدةً وأريحوا مصائركم ومصائرنا مِنْ عذاب الأرض وفجيعة الغرق، فأنتم للبحر أقرب، وللموت أدنى، وللاختفاء أخفّ، فاختاروا موتكم لنختار حياتنا فيما وعدنا الربّ ووعدتنا السيوف به.
*
لن أبرح الأرض يا أبي
حتّى تأذن بالمكاتيب
وحتّى يصير الليل فرج المنكوبين في عراءٍ وسماءٍ رعدها حجارةٌ وإسمنت
يا أبي
يا أبي
ضحلٌ رملك وشمسك الندم
أَشْرِقْ يا ندم على عذابي
واغْرُبْ يا قمر عن سبل نجاتنا.
نريد أن نشرب مِنْ ماء النبيّ علقمًا
وننسج مِنْ حرّائه أناةً وخذلانا
*
إليك يا يحيى عاشور يا ابن غزّة المعاقة
سيصلك ردّنا بمزيدٍ مِنَ الليلك والعناقيد لترى عيناك لهيب جروحنا الفضيّة والأنباء السيوف. أو تظنّ نفسك عمّا تغوي فيهم ناجيةً. على ما كلّ هذا العذل يا يحيى؟ تركناك تلهو بشعرك وتركنا لك النوافذ تتأمّل منها السماء وتركنا لك هواء البحر، وأبقيناك في علبة السردين حالمًا، وقلنا ننساه فينسانا. وقلنا شابٌّ يكتب عن حبّ أبيه لأمّه وهو يهديها شتلة وردٍ بدلًا من الوردة، فلم تعجبك الورود والوعود ونايات الصمت. انتظر إذًا مصيرك كي تنزح مع النازحين وتشرب مع الشاربين هلاكًا أحمر. سوداءُ لغتك بعد اليوم، محيّاك مُبَشَّرٌ بالندى… نجفّفه على خدّيك سنبلةً، فيزهر وجهك حقل قمحٍ للأطفال. إنّها أخلاقنا في تصنيف الشعراء مِنَ العوامّ، نخصّصك يا يحيى بالمجد، فلا تكفر به واتْبَعْنا ننجّك!
يا أبناء غزّة إن هي إلّا ضربةٌ واحدةٌ
فاكتبوا أسماءكم على أكفّكم كي نضيفها في قائمة مجرمي الحروب!
من مواليد قرية نحف في الجليل. شاعر ومعلّم للغة والأدب العربيّين في المرحلة الثانويّة بمدرستي «مسار» – الناصرة، و«ابن سينا» – نحف. يعمل محرّرًا أدبيًّا لمجلّة «الغد الجديد» الثقافيّة، الصادرة عن «جمعيّة المنار للثقافة والهويّة الفلسطينيّة». له مجموعة شعريّة بعنوان «ثلاثون خرابًا… وجثّة».
المصدر: عرب 48