ما العمل أمام كل هذا التوحش!
حاول الإعلام الإسرائيلي بقيادة نتنياهو وصف ما جرى في أمستردام بأنّه بوغروم ضد اليهود لكونهم يهودا، وأنّ جمهور مكابي تل أبيب ضحية لعنف الشبان العرب، إلا أن الكذب سرعان ما تلاشى، وبدأت الحقيقة في الظهور ورفضها الهولنديون أنفسهم، بل شعروا بالإساءة لتدخل سياسيي إسرائيل في شؤون بلدهم الخاصّة.
منطق تحميل الضحية المسؤولية هو نفسه في كل الساحات.
ما يجري يوميا بين المستوطنين والمواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية، احتلال يطرد الفلاحين من أراضيهم ويدمر محاصيلهم الزراعية، يحولونها إلى مشادة بين الطرفين أي أنهم يساوون بين المعتدي والمعتدى عليهم، وأن الجيش تدخل للفصل بين المتخاصمين، وهذا أيضا في أحسن الأحوال، فغالبا ما ينضم الجيش أو جنود منه إلى المستوطنين في اعتداءاتهم، الهادفة إلى ما بات معلنا وهو ضم الضفة الغربية لإسرائيل.
ما يجري الآن في الضفة الغربية ليس ردّة فعل لفوز ترامب الذي لا تمانع إدارته في ضم الغربية، بل هو نهج قديم.
الاحتلال يريد من سلطة رام الله لعب دور جيش لبنان الجنوبي في زمانه، وهذا ما لا تستطيع السّلطة في رام الله أن تقوم به مهما حاولت من إظهار مرونة وحسن نوايا، لأنّ الشعب الفلسطيني وقوات الأمن في الضفة الغربية ليست عميلة بالأساس، ولم تنشأ لغرض خدمة الاحتلال والمستوطنين، ومعظم أبناء الأجهزة الأمنية من بيوت مناضلة ونظيفة، ولم تأت من خلفية عملاء أو معادية لشعبها.
في كل الحالات، فإن ضم الضفة الغربية هو مشروع حكومة الاحتلال بغض النظر عن طريقة تعامل السلطة الفلسطينية مع الاحتلال، خدَمته أم لم تخدمه.
عودة ترامب إلى السّلطة في أميركا والإدارة الجديدة المؤيّدة للمستوطنين، ليست ذريعة للاستسلام، فقد كان ترامب من قبل، وكان بوش وكان غيرهم، وجوهر موقف الإدارات الأميركية من الصراع في المنطقة كان وما زال كما هو في جوهره، وكله متنكر لحق الشّعب الفلسطيني في كيان مستقل وحر، وسكوت على الاستيطان أو تأييده أو انتقاده بلطف، وانحيازا كاملا للاحتلال في التسلح والدعم المادي والمعنوي حتى الشّراكة كما يجري الآن في حقبة بايدن وهاريس الديمقراطيين.
هنالك ضحايا يصرون على تحميل المقاومة في قطاع غزة مسؤولية حرب الإبادة، ونسوا الاحتلال ومسؤوليته، ونسوا العرب المطبعين، ونسوا الموقف الأوروبي.
لا أقول إن هذا يشجع المجرمين على الإمعان في همجيتهم، لأنه ليس بحاجة إلى تشجيع، ولكنهم يمنحون غطاء أخلاقيا للمتخاذلين من العرب الذين وقفوا موقف المتفرج بل والشريك، ويمنحون الاحتلال فرصة نقل أصواتهم واستخدامها في دعايته السّامة التي تحمل الضحية مسؤولية ذبحها.
المسؤولية الثالثة يلقونها على الشّعب في قطاع غزة، لأنّه لم يثر ضد المقاومة، وهذا تبرير لمجرمي الحرب في إمعانهم في قتل المدنيين من أطفال ونساء، ويتجاهلون المجتمع الإسرائيلي المتطرّف، الذي يزداد شهية للاحتلال والتوسّع عاما بعد عام، وفي تصاعد طردي مع تواطؤ العرب وضعفهم وتطبيعهم معه.
يلي هذا تحميل حزب الله اللبناني مسؤولية الحرب على الجبهة الشمالية لأنّه ورط نفسه وورط لبنان في دعم مقاومة غزة، ويحمله البعض مسؤولية دمار لبنان!
هذه الأصوات اللبنانية والعربية، تمنح الاحتلال المزيد من الذرائع لمواصلة جرائمه، وتمنح الداعمين له في الغرب وأميركا غطاء سياسيا في مواقفهم المتواطئة والمشاركة إلى جانب الاحتلال.
نفس التوجّه لدى البعض إلى جرائم القتل في المجتمع العربي فهنالك من يعتبر أنّ سوء التربية هو السبب في كل هذه الجرائم، رغم أنّه بات واضحا مثل عين الشّمس أن مصدر السّلاح واستخدامه يجري تحت سمع وبصر وابتسامة الشُّرطة.
يسعى الاحتلال إلى إيجاد عملاء له من أهل قطاع غزة لإدارة القطاع، ويسعى في الضفة الغربية إلى قيام السّلطة الحالية بدور الوكيل للاحتلال أو التخلص منها بالتضييق المالي.
أما العرب في الداخل فيجري تغذية جرائم العنف وإتاحة العمل لعصابات الجريمة حتى تتحول إلى ميليشيات، وبالتالي دفع المجتمع العربي إلى التحلل من الناظم القومي والوطني، واللجوء إلى العشائرية لحماية الفرد والممتلكات، في غياب الشرطة الممنهج.
طبعا هذا يطرح السّؤال، ما العمل أمام هذه الهجمة الاحتلالية المتصاعدة الأشد شراسة، وما الذي يمكن عمله أمام هذه القوى المتطرّفة العاتية!
أولا، وحدة الضحايا والتركيز على مصدر العدوان وتحميله مسؤولية كل ما يجري من غير تأتأة، وعدم قبول منطق خلط الأوراق، فالاحتلال هو أساس كل كوارث المنطقة.
ثانيا، فضح المواقف المتواطئة مع الاحتلال وجرائمه سواء كانت فلسطينية أو عربية أو دولية أو إسرائيلية صامتة أو مشاركة، والتمسّك بحقوق شعبنا، مهما كانت الهزات عنيفة ومهما كان الطريق وعِرًا.
لقد قطع شعبنا طريقا طويلا بدأه منذ قرن لأجل نيل حقوقه أسوة بشعوب الكرة الأرضية، ودفع ومعه أحرار من العرب والعالم أثمانا باهظة ودماء زكية لم ولن تذهب سدى.
المصدر: عرب 48