مدينة حلب تستعد لنفض ركام الحرب عن تراثها
مما نجا من سنوات الحرب والفوضى، الكنوز الأثرية التي يحويها المتحف، وهي تشهد على تسعة آلاف سنة من عمر البشريّة، وعلى ظهور الكتابة في بلاد ما بين النهرين المجاورة.
قلعة حلب (Gettyimages)
يشهد فندق بارون الأثريّ على تاريخ عريق، يمتدّ لقرن من الزمان في مدينة حلب، كبرى مدن الشمال السوري، وأيضًا على معارك قاسية عاشتها المدينة في العقد الماضي، بين قوات الحُكم السابق وفصائل المعارضة المسلّحة.
وأتت المعارك في شوارع المدينة، والقصف الجويّ والصاروخي، على كثير من معالم هذه المدينة المُدرجة على قائمة اليونسكو، ولا سيما بين العامين 2012 و2016.
وبعدما سيطرت فصائل المعارضة على المدينة، في مطلع كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تبدو المدينة وكأنها تستعد للخروج من حالة الفوضى، والتقاط أنفاسها، رغم الدمار الكبير فيها.
ويقول جورج إدلبي، وهو مرشد سياحيّ منذ 35 عامًا إنه “للأسف، أكثر من 60% من مباني حلب القديمة هدمت”.
رغم ذلك، يبدو المتحف الوطني في حلب جاهزًا لاستقبال زواره، بعد شيء من أعمال الترميم، فالقذائف التي سقطت في محيطه أصابت بشكل أساسي باحته، من دون أن تسبب ضررًا كبيرًا للمبنى نفسه.
ومما نجا من سنوات الحرب والفوضى، الكنوز الأثرية التي يحويها المتحف، وهي تشهد على تسعة آلاف سنة من عمر البشريّة، وعلى ظهور الكتابة في بلاد ما بين النهرين المجاورة.
يقول مدير المتحف أحمد عثمان لوكالة “فرانس برس” إننا “استفدنا مما جرى مع الدول المجاورة”، ولا سيما العراق الذي “تعرّض متحفه للنهب”، لذا “اتخذنا التدابير اللازمة لحماية ما لدينا من قطع أثريّة”.
ويضيف أن “التماثيل الثقيلة التي كان يصعب نقلها حُميت في المكان نفسه، بصبّ الإسمنت حولها، أما القطع القابلة للنقل، فقد نُقلت إلى مستودعات آمنة”.
تروي جدران الأسواق القديمة في حلب، العابقة برائحة صابون الغار الحلبي الشهير، قصص المعارك العنيفة والقصف الذي حوّل مساحات منها إلى ركام، ترتفع من ورائه قلعة حلب المهيبة، الشاهدة هي الأخرى على صعود دول وسقوط أخرى، على امتداد الزمن.
واليوم، وبعدما توالت على هذا الموقع جيوش من عصور مختلفة، باتت القلعة تحت حراسة مسلّحين من إدارة العمليّات العسكريّة، يضع أحدهم وردة في فوهة بندقيّته، في مؤشر على انتهاء نزاع دام 13 سنة، مع حُكم عائلة الأسد الذي أمسك بمقاليد البلاد، أكثر من نصف قرن، بالحديد والنار.
وأضافة للنزاع الطاحن، واستخدام الجيش السوري القلعة كمربض للقصف، عانى هذا البناء الأثريّ من تداعيات الزلزال العنيف، الذي ضرب تركيا والشمال السوري، في شباط/فبراير 2023، وفقا للمرشد السياحي.
وبجوار القلعة، عادت الحياة إلى الأزقة الصغيرة، التي تشكّل السوق القديم، بعدما خضعت لأعمال ترميم، بتمويل من مؤسسة الآغا خان الثقافية، بموجب اتفاق مع السلطات السورية، وأيضًا بتمويل سعودي، بحسب ما تُظهر اللوحات الموضوعة في المكان.
يقول جمال حبال، البالغ من العمر 66 عامًا، والذي أعاد قبل نحو عام افتتاح متجره في السوق، لبيع الحبال والمشغولات الحرفيّة إننا “لدينا الكثير من الذكريات هنا، كان سوقًا كبيرًا ينبض بالحياة، كانت العرائس يأتين إلى هنا لشراء جهازهنّ، ويجدن كل شيء هنا. ثم فجأة، وقعت الأزمة”، متجنّبًا استخدام كلمة “حرب”.
ويروي هذا التاجر أنه اضطر لترك متجره، ثم عاد إليه في العام 2018. ويقول وسط آثار الدمار، وقلّة الحركة، وضعف الإنارة إن “الأوضاع ما زالت صعبة”.
وعلى غرار جمال حبال، أعاد فاضل فاضل فتح متجره المخصص لبيع التذكارات، والصابون، والصناديق المرصّعة.
ويقول هذا التاجر البالغ 51 عامًا إن “كلّ شيء كان مدمرًا هنا”، آملًا أن تعود المدينة “مركزًا تجاريًا وصناعيًا وسياحيًا”، مثلما كانت. ويضيف أن “الأمل يحدونا بحياة أفضل”.
استقبل فندق بارون في خالي الأيام شخصيات ذات شهرة عالمية، من بينها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، ومؤسس نظام جمهورية تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وأيضًا الكاتبة البريطانية الشهيرة آغاتا كريستي.
وكان الفندق مقصدًا للسياح والمهتمين بالتاريخ، سواء لعمارته الساحرة، أو لمعاينة مقتنيات توثّق تاريخًا مضى، من بينها فاتورة لم تُسدّد، تعود للضابط والدبلوماسي البريطاني لورانس العرب. لكن غرف الفندق وباحاته تحتاج لنفض غبار السنين عنها، قبل أن تعود لاستقبال زوارها.
في العام 2014، وفيما كانت الحرب السوريّة في ذروتها، أعرب آخر مالكي الفندق، آرمان مظلوميان، لوكالة فرانس برس، عن تشاؤمه لمصير الفندق. وقال يومها إنني “أخشى أن تكون الأيام الجميلة قد ولّت”، وقد توفي بعد ذلك، قبل أن تضع الحرب السوريّة أوزارها.
المصدر: عرب 48