مستوطِنات الحرب إلى نوبل للسلام

"الملفّ تقريبًا جاهز". كان هذا عنوانًا لمقابلة صحفيّة أجرتها صحيفة معاريف العبريّة في يوم الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير مطلع هذا العام مع دانييلا فايس، الناشطة اليمينيّة وعرابة الاستيطان على مدار العقود الأخيرة في الضفة الغربيّة. وأكثر من ذلك، المرشّح اسمها مؤخّرًا لجائزة نوبل للسلام، نعم للـ"سلام"، ومن دفع باسمها مرشّحة للجائزة ليسوا فاعلين من ماركة سموتريش وبن غفير، إنّما أكاديميّون ومنهم أساتذة في الجامعة العبريّة في القدس.
ليس عنوان المقابلة في معاريف الّذي جاء على لسان فايس "الملفّ تقريبًا جاهز" قولًا متّصلًا بالضفّة، إنّما بغزّة هذه المرّة، وتقصد فايس به جاهزيّة النزعة الاستيطانيّة اليمينيّة لانتزاع قطاع غزّة من أهله واستيطانه، ردًّا على طوفان السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، وفشل حكومة نتنياهو بساستها وجيشها في القضاء على حماس، ممّا لم يُبق خيارًا بالنسبة لفايس سوى تهجير سكّان القطاع واستيطان كلّ شبر فيه، فـ"غزّة هي المفتاح، وعلى دولة إسرائيل العمل على وضع خطّة مفصّلة لاستيطان كلّ شبر فيها"، تقول دانييلا فايس في المقابلة ذاتها.
وفي حفل استعراضيّ أقيم مطلع كانون الثاني/يناير الماضي، قبل أيام من المقابلة الصحفيّة معها، قادت فايس حملة دعائيّة لذلك الحفل تحت عنوان "بعث الاستيطان في غزّة" والّذي أقرّت إقامته في واحدة من المناطق العسكريّة شماليّ القطاع. وقد عملت فايس بالتعاون مع مستوطنين آخرين على تجهيز "كرفانات" لنقلها وزرعها في القطاع لتكون بمثابة أوّل بؤرة استيطانيّة يجري تجديدها فيه. في النهاية سمح جيش الاحتلال لفايس ومن معها بتجمهرهم وإقامة حفلهم ولكن بدون الكرفانات.
لا تحيل المقابلة مع دانييلا فايس في صحيفة معاريف إلى شخصها وسيرتها الذاتيّة، وهي ناشطة متطرّفة لها باع طويل في تأسيس الكتل الاستيطانيّة في الضفة الغربيّة، وتشغل حاليًّا منصب مديرة منظّمة "ناحلا" الّتي أقيمت عام 2005 لتمكين الاستيطان في الضفّة، وكانت من أبرز مؤسّسي المنظّمة، الّتي من صلبها ولدت جملة من الحركات والقطعان الاستيطانيّة للضفّة في العقدين الأخيرين، من بينها ما يعرف بـ "فتية التلال" ومن هنا لقّبت دانييلا فايس بـ"أمّ فتية التلال". كما شغلت عرّابة الاستيطان منذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي عدّة مواقع إداريّة متّصلة بالمشروع الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة، من بينها ترؤّس مجلس محلّي مستوطنة "كدوميم/ قدماء" الواقعة غربيّ نابلس شماليّ الضفّة على مدار دورتين رئاسيّتين.
إنّما تحيل المقابلة إلى شكل الرؤية المجتمعيّة في إسرائيل تجاه قطاع غزّة ما بعد الحرب عليه وعلى أهله، وذلك في رؤية قادمة من أسفل المجتمع الإسرائيليّ، وعلى لسان أسفل من فيه حقيقة، وليس على لسان قادة المجتمع من ساسة وضبّاط جيش ومخطّطاتهم تجاه القطاع الّتي كنّا نسمعها على ألسنتهم خلال أشهر الحرب الماضية. فقول فايس "الملفّ تقريبًا جاهز" تجيب عنه بنفسها، من خلال إجابتها على أسئلة مقابلة معاريف. كانت الأسئلة قصيرة، وكذلك أجابت عليها فايس على نحو مقتضب ومباشر، فالمرشّحة لجائزة نوبل للسلام لديها تصوّر شامل لقطاع غزّة الّذي ترى بوجوب إعادة إحياء استيطانه، لأنّ غياب اليهود عنه يجعله "موطنًا للأفاعي والعقارب" تقول امرأة السلام مستعينة بأمثلة من التوراة. كما تعي فايس مثل شريحة واسعة من المجتمع الإسرائيليّ، بأنّ الغياب للاستيطان اليهوديّ في القطاع منذ فكّ الارتباط معه عام 2005 هو الدافع إلى حدوث السابع من أكتوبر، وهذه خلاصة بات ينتهي إليها ساسة وإعلاميّون وأكاديميّون صهاينة لم يكونوا محسوبين على الاستيطان ودعمه في السابق.
على دول عدّة في العالم أن تستعدّ "لاستيعاب" سكّان قطاع غزّة، تقول فايس في المقابلة، والّتي تقدّم فيها تصوّرًا شاملًا لكيف يجب تهجير سكّان غزّة من قطاعهم، فـ"دولة مثل إسبانيا الّتي تعاني من أزمة ديموغرافيّة سيّئة تنعكس على سوق العمل سلبًا فيها، يمكن حلّ ذلك عبر استيعاب لاجئين من القطاع"، تقول فايس مقرعة إسبانيا ودول أخرى مثل ألمانيا وكندا لرفضهم فكرة استيعاب غزيّين لاجئين من القطاع، بينما كانت هذه الدول قد استوعبت مهاجري ولاجئي حروب من قبل، وتشدّد عرابة الاستيطان على أنّ دولة مثل ألمانيا كانت قد استقبلت سابقًا لاجئي حروب، منهم السوريّين، ومن قبلهم الأتراك. فلم ترفض الدول، لطالما يلزمها القانون الدوليّ باستيعاب لاجئيّ الحروب؟ تسأل مرشّحة جائزة نوبل للـ"سلام"…
وفق تصوّر فايس، ليس تهجير أهالي قطاع غزّة منه عقابًا لهم، إنّما تخليصًا لهم ومن جهنّم الّتي "تسبّبت فيها حماس" لهم وفق تصوّرها وتصوّر كلّ الإسرائيليّين اليوم. كما تعتبر ابنة نوبل للـ"سلام" بتهجير سكّان قطاع غزّة الحلّ الأمثل والوحيد الممكن لتخلّص من حماس بعد أن فشلت الآلة العسكريّة في تحقيق ذلك، فطرد أهالي القطاع إلى خارجه، لا يبقي لحماس من تحكّمه وبالتالي انتهائها.
ليس ما تقوله وتسعى إلى تحقيقه فايس بجديد، إنّما أن يدفع باسمها إلى الواجهة ليُقَتَرح من قبل أكاديميين إسرائيليين في الجامعات كمرشحة للسلام، فهذا الجديد في الأمر، خصوصًا أن النزعة الذكوريّة – الصهيونيّة كانت قد هيمنت على مؤسّسة الاستيطان ومؤسّسات الدولة بشكل عامّ على مدار عقود طويلة، غير أنّ هناك محاولة مؤخّرًا لإعادة إحياء دور المرأة اليهوديّة اليمينيّة في الجانب الاستيطانيّ وكتابة تاريخها فيه، باعتبار المرأة وأطفالها بمثابة الركن الأساس لإقامة فكرة المستوطنة وتثبيتها منذ سبعينيّات القرن الماضي في تلال الضفّة الغربيّة.
غير أنّ اسم دانييلا فايس واختيارها مرشّحة لجائزة نوبل للـ"سلام" على ما في الأمر من صلافة ووقاحة وعري لهذا العالم ومنظومته، إلّا أنّ اقتراحها جاء ليس فقط في سياق دور فايس الصهيونيّ المتطرّف في البثّ والترويج لضرورة بعث الاستيطان في قطاع غزّة أثناء حرب الإبادة عليه، إنّما في سياق الردّ على حكومات بعض الدول الغربيّة منها كندا على سبيل المثال، الّتي أعلنت حكومتها في تمّوز/ يونيو العام الماضي حزمة من العقوبات على مستوطنين إسرائيليّين متطرّفين في أراضي الضفّة الغربيّة، وكانت العقوبات الكنديّة قد طاولت دانييلا فايس بالاسم، ممّا دفع بعض الأكاديميّين بدفع اسمها للواجهة عبر ترشيحها للجائزة ردًّا على محاولة معاقبتها، بوصف فايس ليست متطرّفة إنّما "امرأة سلام" تستحقّ جائزة نوبل.
الموضوع ليس مستوطِنة متطرّفة مثل دانييلا فايس، إنّما السؤال هو الدولة والمجتمع الإسرائيليّين، وفايس ومن مثلها ليسو إلّا نسخة عن مستقبل إسرائيل، فالاستيطان في الضفّة الغربيّة وغزّة الّذي ظلّ لعقود على هامش مؤسّسات الدولة، ومنبوذ منها مثل الإعلام والقضاء والجيش، باتت أكثر من متصالحة معه اليوم إلى حدّ الوقوف خلف الاستيطان وترشيح "أبطاله" لجوائز عالميّة، في مسار إسرائيليّ – مجتمعيّ يدفع نحو تعزيز مقولتي: "نحن لا نستوطن إنّما نرث" الأولى، والثانية "وحده التمدّد والاستيطان الضامن لأمن إسرائيل"… وعلى هذا بات يصير التصوّر الصهيونيّ الأمنيّ مجدولًا بالدينيّ أكثر من أيّ وقت في مضى في الضفّة والقدس والقطاع وكذلك في الجولان وجنوبيّ لبنان.
المصدر: عرب 48