مسلخ “سديه تيمان”: ما الذي يحدث هناك؟
هو واحد من أدوات حرب الإبادة الدائرة على قطاع غزة وأهلنا فيه، مئات المُعتقلين من أبناء القطاع جرى زربهم فيه منذ اليوم التالي على السابع من أكتوبر، في ظروف لا تقل وحشية عن وحشية الحرب القائمة، فالغرض من تفعيل معتقل “سديه تيمان” الجماعي هو الهدف بذاته “الانتقام” من الغزيين، تماما مثلما بات كل ما هو متصل بغزة وأهلها انتقاميا بالنسبة للدولة العبرية.
كان خالد محاجنة المحامي الأول الذي أُتيحت له في يوم الأربعاء الماضي إمكانية زيارة المعتقل، إذ لم يُسمح لأي قانوني أو ناشط حقوقي أو مؤسسة إنسانية دولية ولا حتى الصليب الأحمر بدخوله منذ السابع من أكتوبر. فالشهادات المنقولة عن الممارسات الوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال داخل المُعتقل بحق المُعتقلين الغزيين كان قد كشف عنها ونقلها المعتقلون الغزيون المُفرج عنهم في الأسابيع الأخيرة من سديه تيمان، وبعض الأطباء الذين أوكلت إليهم مهام الكشف الطبي على المعتقلين، كشف بشروط جيش الاحتلال طبعا، وصور التقطها وسرّبها بحسب وسائل إعلام إسرائيلية بعض العاملون في المعتقل، علما بأنه لا يعمل في المعتقل غير مجندين ومجندات من جيش الاحتلال نفسه.
عموما، كان ذلك ما نبّه منه عدد من المؤسسات الحقوقية الإسرائيلية والإعلامية العالمية مشيرين إلى أن سديه تيمان ليس معتقلا إنما مسلخا بكل ما يعنيه المسلخ من إثارة وقسوة في مخيّلتنا، فقد استُشهد فيه 27 أسيرا معتقلا، وبعض المصادر تقول ما لا يقل عن 36 غزيا منذ بداية الحرب. أساسا لا إحصاءات ولا معطيات نعرفها عما يدور في سديه تيمان لناحية عدد المعتقلين فيه أو قَتلاه وجرحاه فهو “ثقب أسود” بتعبير إحدى ناشطات حقوق الإنسان، مجهول كليا للعالم من خارجه.
أُتيحت للمحامي محاجنة زيارة المعتقل بعد توكيلٍ رسمي من عائلة المعتقل محمد عرب ابن مدينة دير البلح في غزة، يعمل عرب في مجال الصحافة، واعتُقل في غزة ونُقل إلى سديه تيمان منذ مئة يوم تقريبا. حديثا، وبعد احتجاج وتحرك جمعيات حقوقية إنسانية إسرائيلية، والتماسها للمحكمة العليا عن الجاري في المعتقل، فضلا عن التقارير الصحفية، الإعلامية العالمية والإسرائيلية (هآرتس) التي كشفت وفضحت جريمة معتقل سديه تيمان، أصبحت إمكانية زيارة محام لمعتقل بتوكيل رسمي من أهله في غزة ممكنة، فكان محاجنة وبرفقته الحقوقية مرح أمارة أول حقوقيان تطأ أقدامهما أرض المعتقل. فيما قبل ذلك، لم تكن إمكانية دخول أي حقوقي للمعتقل واردة، كما لم يكن كثيرون يعرفون بوجود سديه تيمان أصلا.
إن السماح بدخول حقوقيين عرب إلى سديه تيمان على أهميته، إلا إنه لم يكن ممكنا لولا احتجاج ونشاط جمعيات حقوقية إسرائيلية، وبصرف النظر عن السقف الذي يجري فيه الاحتجاج الحقوقي الإنساني الإسرائيلي. فإن المؤسف هو في ذلك، أن ترمي جمعيات حقوقية إسرائيلية حجر الاحتجاج في مياه الانتهاك الجماعي الجارية لا الراكدة على أبناء غزة في سديه تيمان. بينما لا صوت لأي جمعية حقوقية عربية، ومُحزنٌ ذلك لا بل ومُخزٍ بعض الشيء أحيانا.
يقع المعتقل في معسكر سديه تيمان العسكري، جنوبي البلاد، على مسافة 5 كيلومترات شمال مدينة بئر السبع، وهو معتقل عسكري يديره الجيش ولا يتبع لسلطة السجون الإسرائيلية التي لا صلاحيات لها فيه. معتقل لا مقومات السجن فيه إسوة بباقي سجون الاحتلال، ويتخذ جيش الاحتلال فيه إجراءات مشددة غير مسبوقة وغير مألوفة لزائري المعتقلات والسجون، إذ اضطر المحامي محاجنة عند وصوله سديه تيمان، صباح الأربعاء الماضي، لركن مركبته بعيدا عن بوابة المعتقل على مسافة بضع كيلومترات بحسب الأوامر العسكرية، ثم قامت مركبة مدنية تحمل رقما عسكريا يقودها جندي ويرافقه آخر إلى نقل محاجنة وزميلته أمارة إلى داخل المعتقل حيث الغرفة (الكرفان) المُعدة للقاء المحامي بوكيله.
إجراءات مشددة لا يخضع المحامون لها بالعادة منها التفتيش، وتفتيش مُستفز طبعا، ويقوم معتقل سديه تيمان على مساحة أرض كبيرة مُحاطة بألواح من الصفيح (زينكو)، بينما يقف جنود الاحتلال ببعض مواقعه ويتنقل بعضهم الآخر داخله، بينهم مُقنّعون وآخرون وجوههم مكشوفة بحسب محاجنة. تنبيه مسبق لتوقيت الزيارة ومدتها، الغرفة المُعدة للقاء المحامي بوكيله مراقبة بكاميرات وبعيدة عن كرفانات الاعتقال التي لا ترقى إلى مستوى المهاجع على سوء هذه الأخيرة. وبحسب محمد عرب الذي نُقل إلى لقاء محاميه معصوب العينين في مركبة عسكرية أُجلس على الأرض فيها قسرا، فإن المسافة من بركس مهجع اعتقاله إلى غرفة كرفان الزيارة يقدرها بما لا يقل عن 7 إلى 8 دقائق، إضافة إلى وجود عازل بلاستيكي مُشبك يفصل المحامي عن موكله أثناء اللقاء.
اعتقال على هامش التعذيب
ينقل المعتقل محمد عرب إلى محاميه تفاصيل الاعتقال المرعبة يوميا في سديه تيمان بما تيسر له من رؤيته، فحاسة النظر لدى المُعتقلين الأسرى معطلة على مدار الساعة بسبب تعصيب أعينهم، باستثناء وقت الطعام ودخول الحمّام أو الاستجواب وحالة أخرى رابعة ترفع فيه العصبة عن عينيّ المُعتقل ليرى “طقوسية” حفل الاغتصاب التي يمارسها جيش الاحتلال بحق بعض المُعتقلين، وفقا لشهادة عرب.
لا يعرف عرب المُعتقل، عدد المُعتقلين الأسرى من أبناء القطاع في سديه تيمان، وذلك لأن حركة نقل المعتقلين من غزة إليه جارية على قدمٍ وساق بشكلٍ يومي. بعض المصادر تُقدر تعدادهم بأنه يتراوح ما بين 1000 – 1200 أسيرا، من كل الفئات العمرية بدءا بأطفال غزيين مُعتقلين لا تزيد أعمارهم عن العشر سنوات وصولا إلى مُسنين تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين عام.
بينما يعرف المعتقلون تعدادهم في مهجعهم فقط، مئة مُعتقل أسير في كل مهجع، وذلك من خلال عَدهم اليومي، ثلاث مرات في اليوم، فجرا وظهرا ومساء. لا أسماء للمُعتقلين في سديه تيمان إنما أرقام، يحملُ كل أسير رقمه الخاص فيه، موشوم على إسوارة في مِعصمهِ.
غير أن ما يعرفه عرب، هو بأن جُل المُعتقلين من الأسرى المدنيين غير المقاتلين. على خلاف ما تروج له الحكومة الإسرائيلية بادعائها بأن مُعتقلي سديه تيمان هم عناصر من قوات النُخبة التابعة للقسّام في حركة حماس. صحيح، أن تفعيل المُعتقل في اليوم التالي على السابع من أكتوبر جرى للأسرى المُعتقلين من عناصر حماس الذين بقوا في مستوطنات الغلاف بعد اليوم الأول من مهاجمتها. غير أن معظم هؤلاء تم تحويلهم إلى عوفر، وهو معتقل آخر جرى تفعيله خلال الحرب لاستجواب عناصر المقاومة فيه، فيما تحوّل سديه تيمان إلى معتقل جماعي جُل مُعتقليه من مدنيي قطاع غزة.
يُرغم المعتقلون في سديه تيمان على الجلوس على الأرض ساعات طويلة بوضعية لا تتُيح لهم رفع رؤوسهم ولا طأطأتها في الوقت نفسه منعا من نومهم، إذ لا يُسمح لهم بالنوم إلا ساعات قليلة ومحددة ما بين الساعة الثانية عشرة ليلا وحتى الخامسة فجرا، ينامون على الأرض بلا فراش أو في أحسن الأحوال يفترشون قطعة من البلاستيك لا يتجاوز سمكها الواحد سنتيمتر، وبلا غطاء وأحيانا غطاء لا يُغطِي إلا نصف جسد المُعتقل، بينما يتوسد المُعتقلون أحذيتهم عند نومهم. وهذا في ظل مهجع عبارة عن بركس أشبه بصندوق حديدي، يُكدس فيه المعتقلون الأسرى بالعشرات، لا تهوية فيه غير فتحات في سقفه تُبقي رؤوس المُعتقلين عُرضة لبُراز طيور الحمام من فوقهم، وذلك تحت رقابة صارمة على مدار الساعة من قبل حُراس المهاجع الذين يُحيطون بهم برفقة كلابهم البوليسية المتربصة بلحم المُعتقلين الغزيين.
يقول عرب إنه لم يبدل ثيابه منذ جرى اعتقاله، غير قميصه الذي سُمح له بتبديله بعد سبعين يوما على اعتقاله، فيما بنطاله ظلّ عليه إلى يوم زيارة محاميه له، كانت زيارة المحامي محاجنة بمثابة متنفس لعرب المُعتقل لناحية استعادته جدوى البقاء على قيد الأمل في الحياة، ليس لأن الزيارة أتاحت له تبديل ثيابه، إنما لتخلصه لمدة 45 دقيقة من قيوده الحديدية التي سلخت ونهشت لحم معصميه أولا، وثانيا لأن عرب وجد من ينقل عنه وعن مُعتقلي سديه تيمان الغزيين إلى العالم خارج عالم جحيمهم المُصمم لهم منذ أشهر.
لا يُسمح لمعتقلي سديه تيمان بالاستحمام إلا مرة واحدة في الأسبوع ولمدة دقيقة واحدة، ما يضطر المعتقلون إلى الاستحمام بثيابهم، لأن التأخير عن أكثر من دقيقة يترتب عليه عقاب على هامش العقاب القائم أصلا، إما برميه في حر الشمس لساعاتٍ طويلة أو في البرد كمان كان في الشتاء الماضي، أو بالضرب أو بترك المُعتقل للكلاب تهاجمه، والحمّام هو عبارة عن غرفة بلاستيكية، تُشبه تلك المخصصة للعمال في ورشات البناء.
يستغل المعتقلون خلال دخولهم الحمّام فرصة الحديث، لأن الدخول إليه يجري جماعيا، كل أربعة مُعتقلين معا، كما تُرفع العصبة عن أعينهم مما يُتيح لهم التعرف والحديث إلى بعضهم البعض ومن هنا معرفة محمد عرب وتقديراته عن طبيعة المُعتقلين والمناطق التي اعتُقلوا منها في غزة. أما عن حمّامات قضاء الحاجة المتنقلة فحدّث ولا حرج لحالها، ينقل محاجنة عن عرب، عموما قلما يستخدمها المعتقلون، ليس لحالها، إنما للإمساك الذي يعاني منه معظم المعتقلين بسبب سوء الطعام الذي يضارع التجويع.
يُرمى لمُعتقلي سديه تيمان طعامهم ثلاث مرات في اليوم، هي ليست وجبات طعام، إنما علبة لبنة صغيرة “لحسة الأصبع” بتعبير عرب، معها حبة بندورة أو خيارة، بالإضافة إلى قطعتين من خبز المصة غير الصالح للأكل، وهذا يوميا لا يتغير بما يُبقي على المُعتقل حيا كي يظلَّ شاهدا على إهانته وانتهاكه وإذلاله. في بعض الأحيان تقدم حبة تفاح واحدة، مرة في كل أسبوعين. أما عن مياه الشرب، فغير متوفرة إلا من مياه حمامات قضاء الحاجة.
لا طب علاجي ولا وقائي للمُعتقلين الغزيين في سديه تيمان، ولا حتى الدواء متوفرا. مع العلم بأنه في المُعتقل مستشفى ميداني فيه بعض الأطباء والممرضين يقتصر عملهم على الحالات الطارئة المتصلة ببتر الأطراف عادةً. يؤدي الطب مهمة عقابية في المُعتقل، حيث تُبتر أطراف بعض المُعتقلين بعمليات جراحية دون تخديرهم، ليغدو الطب الجراحي في سديه تيمان تعذيبا بذاته على المستويين النفسي والجسدي، إذ يشهد المريض المُعتقل بكامل وعيه على عملية بتر قدمه أو يده إلى أن يغيب عن وعيه من شدة ألمه ورائحه دمه معا. عادة من يقوم بتلك العمليات ممرضون وليسوا أطباء، ما يجعل المُعتقلين الغزيين حقل تجارب للممرضين الصهاينة الذين يطمحون لأن يكونوا أطباء.
قلما يتم استجواب المعتقلين الغزيين في سديه تيمان، فمحمد عرب لم يستجوب من قبل مُحققي جيش الاحتلال في المُعتقل، إلا بعد أربعين يوما منذ يوم اعتقاله، ولمرة واحدة سُئل فيها عما إذا كانت تربطه علاقة بحركة حماس وعناصرها أو إذا ما كان يعرفُ شيئا عن مواقع إطلاق الصواريخ من غزة. ولا مسار قانوني – قضائي يترتب على المُعتقل في اعتقاله هناك، فعرب قُدم لمحكمة لا يعرف عنها شيئا كما أخبر محاميه، محاكمة عبر تطبيق الواتس آب شاهد فيها ما يُقال بأنه قاضيا كان يرتدي روبا أسود. كانت محاكمة مدتها أقل من دقيقتين، وبلا محامي دفاع عنه، مُدد فيها اعتقال عرب لأجلٍ غير مسمى.
كان أكثر ما أثارت في عرب غريزة الموت كخلاصٍ من ذلك الجحيم، هي عقوبة المخالفين لنظام العقاب بـ”الاغتصاب”، نعم يُغتصبُ المُعتقلون الغزيون في سديه تيمان. وقد “حظي” عرب بفرصة رفع العَصبة عن عينية، غير أنها كانت من أجل مشاهدة 6 حالات اغتصاب لستة مُعتقلين أسرى اعتبرتهم سلطات مُعتقل الاحتلال المتوحشة، بأنهم خالفوا الأوامر والتعليمات غير مرة.
يُسحب المُعتقل الأسير إلى وسط ساحة المهجع تُحيطه ثُلة من المجندين والمجندات المُقنّعة وجوههم، يتم خلع بنطال المُعتقل المُخالف، ثم سرواله الداخلي، ومن ثم يتناوبون على حشو العصا في مؤخرته، بكل وحشية وسادية تفوق قدرتنا على تخيّلها، فكيف بحال الذين مورست عليهم أو الذين أُرغموا على مشاهدتها… ويكفي عن ذلك إلى هنا.
ليس في مُعتقل سديه تيمان تعذيبا جارٍ على هامش الاعتقال، كما هو متعارفٌ عليه من سيرة الأسر في معتقلات وسجون الاحتلال. إنما هو تعذيب قائم ودائم يتضمن اعتقالا أو لنقل إن الاعتقال على هامش التعذيب يجري. كل ذلك ليس إلا انتقاما حثيثا ينزعُ إلى نزع الصفة الآدمية عن أي غزي – فلسطيني يقع بين أيدي أولئك المتوحشين.
عندما نبّه أحد مُجندي حرس غرفة الزيارة المحامي محاجنة ببقاء دقيقة على انتهاء الزيارة، وكان قد مضى 44 دقيقة عليها، فوجئ محاجنة بأن عرب لا يعرف بأنه موجود في معتقل سديه تيمان قرب بئر السبع. كان يظنُ عرب بأنه موقوف في مُعتقل “صوفا” الذي أقامه جيش الاحتلال خلال الحرب في خان يونس. مئة يوم على اعتقاله، دون أن يعرف عرب أنه هناك في مسلخ سديه تيمان، ومثله المئات من الغزيين المعتقلين من قبله وبعده، لا يعرفون أين هم.
المصدر: عرب 48