مكانة الفلسطينيّين في الداخل تحدّدها مكانة أحزابها
ألا يزال لفلسطينيّي الـ٤٨، تلك المكانة المتميّزة الّتي اكتسبوها في الوعي الفلسطينيّ العامّ؟، أو الألق الّذي حظوا به منذ انتفاضة يوم الأرض عام ١٩٧٦، وازداد بريقه بعد الانتفاضة الثانية وتأسيس حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ بخطابه المتحدّي ليهوديّة الدولة، هذا التأسيس الّذي مهّد لاستعادة أحزاب وحركات سياسيّة أخرى عافيتها، كالجبهة والحركة الإسلاميّة!
هذا السؤال الجديد المشكّك في تميّز دور الوجود الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر، لم ينشأ حديثًا، أي بسبب ضعف دورهم منذ بدء العدوان الإباديّ الإسرائيليّ المتواصل، بل كان برز أوّلًا بعد انفراط عقد القائمة المشتركة البرلمانيّة، الّذي سبّبه شركاء فيها، كشفت ممارستهم ضيق أفق سياسيّ، وعطبًا أخلاقيًّا، وعجزا عن فهم طبيعة الصراع ومستحقّات مواجهته بطريقة سليمة. ولكنّه احتدّ، وبات محرجًا وثقيلًا على الأحزاب والقيادات والأفراد، بعد نشوب هذه الحرب الهمجيّة على شعبنا، في غزّة والضفّة الغربيّة، بسبب هذا القصور والسلبيّة الّتي فاقمتها حملة القمع والإسكات غير المسبوقة. لقد عكس هذا السؤال شعورًا جماعيًّا بالقلق والحيرة إزاء المخرج؛ ممّا يمكن أن يتحوّل إلى حالة مستدامة من العجز واللاحيلة، والإفلاس السياسيّ، حالة قد تسهّل مواصلة مخطّطات المؤسّسة الصهيونيّة الجاري تنفيذها، وتلك المخبّأة للمستقبل.
لقد بدا النجاح التقنيّ في بناء قائمة برلمانيّة مشتركة عام ٢٠١٥، لأوّل مرّة في تاريخ الفلسطينيّين في إسرائيل، للداخل والخارج، اختراقًا نوعيًّا في العمل السياسيّ داخل الخطّ الأخضر، بل نظر إليه كحدث لافت وفريد في مشهد فلسطينيّ وعربيّ عامّ متشظّ ومتصارع (مثله الانقسام الفلسطينيّ، وتحوّل الربيع العربيّ إلى مذبحة وحروب أهليّة). وكان لهذا النجاح، في توحيد جميع الأحزاب العربيّة البرلمانيّة في قائمة واحدة، تأثير في الكثيرين ممّن قاطعوا دائمًا انتخابات للكنيست لأسباب أيديولوجيّة أو لعدم اكتراث، إذ ذهبوا وصوّتوا، يحدوهم الأمل ببزوغ مرحلة جديدة من الوحدة والقوّة والفعل السياسيّ الأكثر تأثيرًا. لقد شهدنا نشوة حقيقيّة، صادقة، من عموم الناس. ولكن تبيّن لاحقًا، وفي وقت قصير، أنّ ذلك لم يكن سوى سحابة صيف عابرة. والمفارقة أنّ من تسبّبوا بهذا الإخفاق الشائن، والانحلال السياسيّ والوطنيّ اللاحق، ما زالوا ماضين في غيّهم، ومتمترسين في مواقع قياديّة رئيسيّة حتّى اليوم، رغم تلاشي تأثيرهم ومكانتهم واحترامهم بين الناس، ورغم عجزهم عن إحداث نقلة نوعيّة في الحالة الّتي نعيشها. لا أحد منهم يعترف بالمسؤوليّة، ويتنحّى أو يعيد تقييم المرحلة، ويقدّم تصوّرات وخططًا جديدة، مرحليّة واستراتيجيّة، مطلوبة بإلحاح في ظروف في غاية الخطورة على شعبنا ومجتمعنا، مع أنّ مجتمعنا وإرثه النضاليّ يختزن طاقات وإنجازات ثقافيّة وأكاديميّة وإعلاميّة وكفاحيّة كبيرة. وكان من مظاهر البؤس والعجز والإفلاس، أنّ حظر حركة سياسيّة، بحجم الحركة الإسلاميّة الشماليّة وملاحقة قياداتها، أن يمرّ كأمر عاديّ، دون ردّ فعل احتجاجيّ شعبيّ مناسب.
حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، لم يتعرّض لملاحقة سياسيّة سلطويّة وحملات من التحريض الدمويّ، شملت اعتقال المئات والتعرّض للتحقيق خلال طيلة حياته السياسيّة فحسب، بل أيضًا، تعرّض لمؤامرة دنيئة من شركائه في القائمة المشتركة، عشيّة انتخابات الكنيست لعام ٢٠٢٢، استهدفت شطبه من الساحة السياسيّة، وكان ذلك بالتواطؤ مع أقطاب ممّا عرف بحكومة التغيير الّتي قادها الثلاثيّ نفتالي بيّنت وبني غانتس ويائير لبيد.
كان التجمّع، قبل تنفيذ المؤامرة، قد نجح في مراجعة ذاتيّة، جزئيّة ولكن هامّة، لنهج استمرّ لفترة قصيرة وهنت خلالها قوّته ومناعته الداخليّة، وبهت خلالها خطابه السياسيّ، تحت تأثير الرغبة في الحفاظ على وحدة المشتركة والذهاب بعيدًا إلى حدّ المشاركة في تقديم توصية على تلك الحكومة الصهيونيّة الاستيطانيّة، الّتي ثبت بالملموس أنّها كانت تنظر إلى التجمّع كصوت متطرّف، وتميّزه عن جميع مركبات المشتركة الأخرى، وتسعى إلى تحييده، على طريق شطبه من الساحة السياسيّة.
لذلك، اضطرّ التجمّع لخوض الانتخابات عام ٢٠٢٢، لوحده، معوّلًا على قاعدة واسعة من الناس، سواء من قاعدته التقليديّة، أو من خارجها، الّتي لا تتخلّى عن قيمها الوطنيّة باعتبارها شرطًا لتحقيق العدالة والمساواة، والحقوق المدنيّة. ولم يخضها كمعركة انتخابيّة فئويّة، بل معركة على الوعي، الوعي الوطنيّ، والسياسيّ الأخلاقيّ السليم. وعلى خلاف ما روّج له الخصوم، بـأنّ التجمّع لن يحصل سوى على خمسين في المائة من نسبة الحسم، فإنّه وصل إلى عتبة النجاح. أنا شخصيًّا، وقد كنت قد قاطعت التصويت للكنيست لمرّتين قبل ذلك، وقد استقلّت من كافّة مؤسّسات الحزب القياديّة، ومن لجنة المتابعة، قرّرت ردًّا على المؤامرة التصويت والدفاع عمّا يمثّله التجمّع، دفاعًا عن الخطّ الوطنيّ الّذي بدا واضحًا أنّ هناك تضافرًا لقوى خبيثة سعت لحصاره ووأده لتخلو الساحة للانتهازيّة والخواء السياسيّ والفكريّ والانحلال الأخلاقيّ-الوطنيّ، الّذي قد لاحت معالمه السافرة. لقد بقي التجمّع، في نظر الخصوم والمؤسّسة الصهيونيّة، “العقبة” الوحيدة في وجه الانحراف والسمسرة، وظنّ جميعهم أنّه بات لقمة سائغة. وهنا أودّ أن أعبّر عن الأمل بأن تتمكّن القوى السياسيّة الأخرى، مثل الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة أن تتخلّص من نهجها السياسيّ المدمّر، وتتمكّن الأقلّيّة المعارضة الرصينة فيها، أن تخرج عن صمتها، وترفع صوتها أكثر، وتصوّب طريقها، كون ذلك مهمّة وطنيّة قبل أن تكون حزبيّة. كما آمل أن تقف الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة، أيضًا أمام ما اعتراها من مظاهر مشوّهة، والّتي ساهمت في انفراط المشتركة وتعميق الشرخ بين القوى السياسيّة. وكذلك أمام عجزها عن النهوض بالمؤسّسات التمثيليّة القطريّة، وفي مقدّمتها لجنة المتابعة. استعادة هذه القوى وغيرها عافيتها وخطّها السليم، حاجة وطنيّة كبرى، خاصّة في هذه الظروف.
الحزب لم ينج فقط، بل نجح في البقاء قوّة مركزيّة خارج البرلمان
وربّما اللافت أيضًا في عمليّة استعادة التجمّع الكثير من عناصر قوّته وتماسكه، أنّ هذا الحزب ورغم ما تعرّض له، وبهمّة الجيل التجمّعيّ القياديّ الجديد الّذي كبر عمرًا وتجربة ومعرفة، وتقدّم الصفوف، حقّق نجاحًا لافتًا في إعادة تثبيت الحزب واستعادة خطابه، وعلاقاته مع قاعدته التاريخيّة، رغم وجوده خارج البرلمان وبإمكانيّات ماليّة شحيحة، تأتي أساسًا من رسوم العضويّة، ومن العمل التطوّعيّ الّذي تضاعف عدّة مرّات. عمل أبناء وبنات هذا الجيل بصمت وبمثابرة، وطافوا القرى والمدن والأحياء، وتواصلوا مع الناس، وأعادوا وصل الكثير ممّا انقطع، مستندين إلى إرث تنظيميّ وسياسيّ متماسك، شيّده الأوّلون، وطوّره وصوّب بعض أخطائه اللاحقون.
لا نقول إنّ الأمور سهلة، أو أنّ الحزب تجاوز كلّ الصعاب، أو استكمل مراجعاته، إذ تنتصب أمامه طريقًا شاقّة وطويلة، وسط واقع سياسيّ واجتماعيّ شديد الخطورة. ما نريد قوله إنّ الإرادة، والقناعة الراسخة، إرادة العمل والقناعة بالواجب الأخلاقيّ وبالخطّ السياسيّ السليم، وبالرؤية الاجتماعيّة التحرّريّة، كلّ ذلك قادر على تليين الصعاب ومواصلة الدرب.
أمام التجمّع تحدّيات كثيرة، ومهامّ متعدّدة، عمليّة ونظريّة، ولكنّي أكتفي بذكر اثنين فقط لنترك الباقي لاحقًا.
الأوّل؛ تطوير وتحديث البنية التنظيميّة، وآليّات العمل الجماهيريّ، بحيث تكون ملائمة للتحوّلات المجتمعيّة الجارية في مجتمعنا الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر، وابتكار طرق جديدة في عمليّة تنظيم العمل الشعبيّ، والبناء الداخليّ من ناحية وممارسة الفعل الاحتجاجيّ، ضدّ نظام الأبرتهايد الإباديّ، من ناحية أخرى. وهذا يشمل إعادة صياغة تصوّر التجمّع للمشروع الوطنيّ الخاصّ بفلسطينيّي الـ٤٨، والارتباط مع قضيّة فلسطين. ومن شأن التحرّكات الشعبيّة الاحتجاجيّة المتصاعدة ضدّ المذابح الإبادة في غزّة مؤخّرًا، والّتي تعبّر عن بدايات تصدّع جدار الترهيب السلطويّ، أن تساهم في استعادة الدور الشعبيّ الّذي تميّز به التجمّع.
الثاني: تطوير خطاب التجمّع بحيث يصبح مرتبطًا بصورة مباشرة، وليس فقط ارتباطًا ضمنيًّا، بالمشروع التحرّريّ الفلسطينيّ الشامل، أي التحرّر من نظام الأبرتهايد الكولونياليّ، وأن يكون ذلك متجسّدًا في لغة تحرّريّة واضحة، ومصطلحات عادت مجدّدًا، في دوائر أكاديميّة، غربيّة، وفلسطينيّة، وعالميّة، لتصف وتحلّل إسرائيل كاستعمار استيطانيّ ونظام فصل عنصريّ.
ربّما لم يقرّبنا الحدث الزلزاليّ الّذي نشهده في فلسطين، وحرب الإبادة الهمجيّة، إلى الحلّ السياسيّ العادل، لكنّه ولّد وعيًا معرفيًّا وأخلاقيًّا غير مسبوق من حيث العمق والاتّساع على مستوى العالم، لصالح قضيّة فلسطين والعدالة الكونيّة، والسلام الحقيقيّ. يستطيع التجمّع أن يموضع نفسه ضمن هذا التحوّل الجارف، من الناحية النظريّة، وأيضًا من الناحية العمليّة من خلال المبادرة للتشبيك المباشر مع تلك الثورة العالميّة المستمرّة.
وأخيرًا، وعودة إلى السؤال حول مكانة فلسطينيّي الـ٤٨، وهو سؤال يحتاج إلى نقاش وطنيّ واسع ومعمّق يشمل أطيافًا مختلفة. ولكنّي أكتفي بالقول، إنّ لهذا الجزء من شعبنا ستظلّ أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة في القضيّة الفلسطينيّة، وفي تحدّي المشروع الصهيونيّ، أوّلًا بسبب موقعه الجغرافيّ، وبسبب التجربة السياسيّة الّتي راكمها في مقارعة نظام الأبرتهايد، من خلال أحزابه السياسيّة. وكلّ ذلك مشروط بكيفيّة إدارة الصراع، وكيفيّة نسج التعاون الداخليّ، وبناء المؤسّسات، وتنشئة أجيال جديدة مسلّحة بالوعي والمعرفة التحرّريّة. يستطيع هذا الجزء من شعبنا، الّذي لا يزال مستهدفًا من الحركة الصهيونيّة، أن يواصل تطوير دوره وتصوّره لحلّ الصراع الكولونياليّ، حلّ يقوم على المبادئ الكونيّة الإنسانيّة كالتحرّر والعدالة والمساواة، للجميع، بديلًا عن الحلّ الصهيونيّ الإباديّ غير الأخلاقيّ. وهذا ضمن أمور أخرى، يتطلّب توطيد العلاقة مع القوى اليهوديّة الإسرائيليّة التقدّميّة، والمناهضة لحرب الإبادة، والداعية إلى العدالة الكونيّة، والمساواة الكاملة بين البحر والنهر.
المصدر: عرب 48