Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

ملاحظات بمرور سنة على طوفان الأقصى

مقدمة:

بغض النظر عن النقاش الدائر حول طوفان الأقصى بين مرحب ومؤيد وبين متحفظ يرى فيه كارثة، وهو نقاش لا يسمن ولا يغني عن جوع حاليا على الأقل، لا يختلف اثنان أن السابع من أكتوبر أحدث تغييرا نوعيا وإستراتيجيا هو الأكبر منذ النكبة وإنشاء إسرائيل كنظام استعماري واستيطاني في فلسطين. بهذا المعنى فهو زلزال فعلي لا تزال موجاته الارتدادية تزلزل كل المنطقة. بعد مرور سنة، لا تزال الحرب تستعر بل وتتوسع مع خطر تحولها إلى حرب إقليمية قد تستمر سنوات، وهذا بحد ذاته يشكل نقيضا مباشرا لكل ما أسست عليه إسرائيل، ماديا ومعنويا، تفوقها وقوة وتميز عقيدتها العسكرية. وفي الوقت ذاته، فإن ما قامت به إسرائيل ردا عليه يرقى لجريمة حرب لا نظير لها، وتسبب بكارثة إنسانية لا تزال تتفاقم يوميا بفعل المجازر المستمرة.

من الصعب توقع مآلات هذا التغيير داخليا في إسرائيل، خصوصا وأن الحرب لم تنته بعد، وهي واقعيا لا تزال في أولها في لبنان، وأما في غزة فيتضح يوميا أن إسرائيل بجيشها الضخم، عددا وعدة، وكل ما يملك من تقنيات التجسس المتقدمة، يغوص في الوحل ولم يسعفه كل ذلك التغول في القتل وارتكاب جرائم الحرب، وخاصة الإبادة الجماعية، في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة. لا يملك أحد أن يقدر في ما إذا كانت الحرب ستستمر سنة أخرى أو سنتين أو سنوات عديدة، ولكن من المؤكد أن ما سيكون بعد السابع من أكتوبر سيختلف تماما عما كان قبله على كل المستويات ولمرحلة زمنية طويلة قادمة، وأن الصراع قد وصل إلى نقطة حاسمة لا يمكن فيها تجسير الهوة، لا باتفاقيات تبادل أسرى أو وقف مؤقت لإطلاق النار، وسيحتاج الموضوع إلى سنوات غير قليلة من المواجهة التي قد لا تكون دائما مستعرة، والتي قد يتخللها فترات هدنة أو فك ارتباط، ذلك أن الحد الأدنى من الشروط التي قد تقبل بها المقاومة سيكون لنتنياهو وحكومته بمثابة استسلام وقبول الهزيمة، وهذا لن يحدث في المدى المنظور. هذا يشير إلى أن المنطقة بصدد فترة طويلة من التصعيد والتوتر مع موجات من العنف والقتل والدمار والكثير من الدماء، كما يجري الآن في الضفة المحتلة. المهم أنه في المدى المنظور لا يوجد هناك أي احتمال لمفاوضات لتكرار أوسلو جديد بهدف تربيع الدائرة. نقول هذا لعلم من يسارع من العرب والفلسطينيين للبحث عن مخارج، ويتطوع بحجج الظروف الإنسانية للمبادرة للتفاوض من وراء الستار بأسماء متنوعة، أشهرها ترتيبات “اليوم التالي” في غزة.

كتب الكثير عن طوفان الأقصى وتحليل تأثيراته، ولكن سأحاول من خلال هذه الملاحظات مقاربة تأثيرات هذا الزلزال في بعض المستويات، التي لها انعكاسات مهمة في فهم الوضع المتغير وتأثير ذلك على إدارة الأزمة، وسأكتفي في هذه الملاحظات بالتطرق للمستوى الإسرائيلي على أن نخصص معالجة خاصة لتاثير السابع من أكتوبر على الوضع الفلسطيني العام وفي الداخل، مع التركيز على الإمكانيات الكامنة للعمل والنضال في الوضع الجديد على قتامته، ورغم والأصح بسبب الثمن الهائل، والذي لا يمكن المبالغة فيه الذي يدفعه شعبنا في غزة وباقي المناطق تحت الاحتلال.

أولا: المستوى الإسرائيلي

لقد قوض طوفان الأقصى العديد من المقولات والفرضيات والمقاربات عن إسرائيل مجتمعا ونظاما سياسيا، خصوصا وأن بعض هذه قد تحول إلى أساطير، بعضها لتعظيم شأن وقوة إسرائيل خصوصا في سياق طرح ضرورة التصالح معها، أو للتقليل من شأنها في نوع من التبجح والكذب أو الهروب للأمام. سأستعرض هنا أكثر هذه المقولات انتشارا وتأثيرا، وهي أن إسرائيل حساسة جدا للخسائر البشرية، سواء كان هؤلاء من المدنيين أو من العسكريين، ولهذا فهي تتجنب حروب الاستنزاف وتسعى للحسم السريع. وقد توطدت هذه المقولة أثناء حرب الاستنزاف للجيش الإسرائيلي في لبنان وقيام حركة الأمهات الأربع، والتي عمليا أدت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000 تحت ضربات المقاومة والخسائر البشرية التي تكلفها. شملت هذه المقولة أيضا ما يتعلق بافتداء الأسرى والاستعداد الإسرائيلي لدفع كل ثمن مطلوب لاستعادة الأسرى، كما كان في صفقة شاليط على سبيل المثال. ويعزي البعض هذا الاستعداد إلى قضية رون أراد واختفائه بعد وقوعه في الأسر عام 1986 بعد إسقاط طائرته في لبنان. وكان بوسع إسرائيل إطلاق سراحه في عدد كبير من المناسبات وذلك طيلة سنوات، ولكنها تخلفت عن ذلك رافضة دفع الثمن المطلوب، وكان ثمن المماطلة اختفاء تام لرون أراد حتى اليوم. اعتبر ذلك ولا يزال فشلا هائلا عسكريا وإنسانيا وأخلاقيا للدولة، ومثل كيا في الوعي الجمعي الإسرائيلي. وليس من باب الصدفة أن أبا عبيدة استخدم أكثر من مرة مصير رون أراد كورقة لحث الحكومة الإسرائيلية للموافقة على وقف إطلاق النار وإجراء تبادل الأسرى. هذه المقولة لم تعد صالحة، وقد نُسفت تمام في السابع من أكتوبر، وينبغي الانتباه إلى هذا التغيير العميق في المجتمع اليهودي. يبدو أن حجم المفاجأة والعدد الهائل من القتلى بين المدنيين والجنود في يوم واحد، والفشل المدوي للجيش الذي لا يقهر، والذي لم يستطع العقل الإسرائيلي العنصري والمصاب بلوثة الفوقية والاستعلاء استيعابه، كل ذلك مصحوبا بحملة التضليل والتضخيم والأكاذيب غير المسبوقة من قبل أبواق الدعاية، أي وسائل الإعلام الإسرائيلية التي هدفت إلى شيطنة الفلسطينيين، ما جعل الإسرائيليين مستعدين لدفع أي ثمن من أجل الانتقام والثأر، والاستعداد لارتكاب جرائم حرب ومجازر الإبادة الجماعية التي تقشعر لها الأبدان، وكذلك لتحمل خسائر بشرية واقتصادية هائلة، والاستمرار في التأييد الشعبي الواسع لاستمرار الحرب، وحتى الآن لا تزال أكثرية اليهود تؤيد توسيعها في لبنان وضرب إيران. إن تشخيص هذا التغيير مهم جدا، إذ أنه من ناحية نتنياهو وحكومته الفاشية فقد شكل هذا التغير قوة دافعة للمزيد من التصعيد والذهاب للنهاية دون خشية أو حساب لرأي عام معارض، وهذا ما يفسر فشل كل محاولات أهالي الأسرى لتشكيل رأي عام ضاغط على الحكومة للموافقة على صفقة تبادل، رغم أن حملات الضغط التي قادها أهالي الأسرى لم تعارض الحرب، ولم تطالب بوقفها لكي تتموضع في قلب الإجماع الإسرائيلي معتقدة أنها ستحصد تأييدا جارفا. رغم ذلك، فشلت فشلا ذريعا في جعل موضوع تحرير الأسرى هدفا أهم من تحقيق النصر وسائر أهداف الحرب التي وضعتها حكومة الاحتلال. ليس أهم من ذلك للتدليل على تغيير جدي في استعداد المجتمع اليهودي لتحمل الخسائر البشرية والاقتصادية في سبيل تحقيق انتصار موعود. فهم هذا التغيير مهم لأن له تأثير كبير على مجريات الحرب وخاصة على طولها واتساعها. هذا لا يعني أن هذا التغيير دائم وأن حجم الخسائر لم يعد مهما بالمرة، ومع بدء الحملة البرية في لبنان من المتوقع أن يعود هذا الموضوع لواجهة نشرات الأخبار وللعصف في المنصات الاجتماعية.

ثانيا: العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة

ولا في أي مرحلة في تاريخ العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، اتضح جليا للعيان مدى اعتماد إسرائيل شبه الكلي على أميركا كما اتضح طيلة فترة الحرب على غزة. حتى في حرب أكتوبر 1973 التي قامت فيها الإدارة الأميركية (الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كسنجر) بتزويد إسرائيل بقطار جوي من المساعدات العسكرية، لم تعامل إسرائيل من قبل الولايات المتحدة بهذا القدر من الرعاية والحرص، وكأنها طفل هش يواجه وحشا كاسرا.

كيف من الممكن فهم قيام الرئيس بايدن وطاقمه بزيارة إسرائيل في زيارة خاطفة استمرت 7 ساعات أيام قليلة بعد السابع من أكتوبر، وقراره بإرسال أسطول كامل يشمل حاملة طائرات ومدمرات وقوات البحرية لشرق المتوسط؟ حتى في أصعب الظروف والخطر الوجودي الفعلي الذي واجهته إسرائيل في الأيام الأولى لحرب أكتوبر ،1973 لم يقم الرئيس الأميركي آنذاك ووزير خارجيته بزيارة كهذه، يضاف إلى ذلك قيام بلينكن بأكثر من 10 زيارات للمنطقة، والمشاركة غير المسبوقة للإثنين في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، في خطوة لا يقوم بها حتى الحلفاء، ما يحمل الولايات المتحدة مسؤولية مباشرة، أخلاقية وقانونية، عن الحرب ونتائجها بما فيها جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ما يعني بالضرورة مساءلتها في نفس الدعوى القضائية أمام محكمة العدل الدولية. لنذكر أن هذا التصرف يجري دون اتفاقية دفاع مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة (بسبب معارضة إسرائيل). أضف إلى ذلك، القرار السريع والخاطف بمنح دعم هائل مدني وعسكري، دعم غير مسبوق وصل إلى 17.9 مليار دولار، إضافة للدعم السنوي بقيمة 4 مليار دولار.

هذا فعلا يؤشر وبشكل فاضح إلى وجود علاقة خاصة بين الدولتين، لا يمكن تفسيرها بمفاهيم ومصطلحات السياسة المعروفة والمستخدمة عادة، مثل تبادل المصالح والهيمنة الاستعمارية والتحالفات وما إلى ذلك. إنها أشبه بعلاقة التعايش أو التكافل (سمبيوزا) الموجودة في الطبيعة بين أحياء منتمية لسلالات مختلفة، ولا نعهدها موجودة من قبل في العلاقات بين الدول، حتى بين تلك المنتمية لحلف عسكري مثل “ناتو”. في هذا النوع من العلاقات لا يمكن قطعيا أن يضغط أحد المتعايشين أو يهدد الطرف الثاني، فكلا الطرفين المتعايشين يتساويان في العلاقة، حتى لو كانت هناك فوارق ضخمة في الحجم والقوة والحاجة بينهما. استمات نتنياهو في خطابه في الكونغرس يوم 24 تموز/ أيلول 2024، في محاولة إثبات وجود هذا النوع من العلاقة بين البلدين. الاستنتاج الأهم هنا، أنه وفي المدى المنظور لا يمكن التعويل على إمكانية أن يقوم رئيس أميركي ديموقراطي باتخاذ مواقف أشد حزما مع إسرائيل، خصوصا في فرض حظر أو على الأقل فرض شروط على التصدير للسلاح، ووقف أو تقليص الدعم المالي بمليارات الدولارات سنويا.

فقط تقويض هذه العلاقة السمبيوزية من جذورها ممكن أن يقود تدريجيا إلى تغيير جذري في طبيعة العلاقة، وهذا يتطلب إستراتيجيات عمل مختلفة جذريا، إذ لا يمكن التعويل على قيام الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة بممارسة أي دور في تغيير هذه العلاقة، بل بالعكس، بعض الأنظمة متماهية معها وتحسد إسرائيل، وتتمنى انتصارها بالحرب على المقاومة، وصارت تتعامل هي أيضا مع إسرائيل على أنها أميركا أو بوابتها إليها على الأقل. ربما أهم مستويات العمل المطلوب حاليا في هذا الصدد، هو تنظيم وتعظيم دور الجاليات الإسلامية، وخاصة العربية والفلسطينية في أميركا، وتشديد التعاون في ما بينها ومع المنظمات المدنية الشبابية والطلابية في الجامعات، والتحالف مع الحركات الشعبية المناصرة للأقليات ولحقوق الإنسان.

وفي هذه الفترة الحساسة بالذات قبيل انتخابات الرئاسة القربية، يجب العمل بحيث يتعلم الحزب الديموقراطي درسا موجعا بأنه يقامر بفقدان الحكم بسبب هذا الدعم اللامحدود لإسرائيل. عملية تغيير جدي في طبيعة العلاقة بين أميركا وإسرائيل هي عملية طويلة وبطيئة، وتحتاج طول نفس وعمل النملة، وقد رأينا بذور النجاح في تحول الرأي العام في كل الجامعات في السنوات الأخيرة إلى رأي عام داعم ومساند لفلسطين. ويحتاج هذا النشاط إلى توفير الدعم المالي، ومن الضروري أن يأتي ذلك من الجاليات نفسها. البداية جيدة وواعدة، خصوصا وأنها بدأت وبشكل تلقائي كرد فعل للمجازر والإبادة.

ثالثا: من الدولة الصليبية إلى الدولة المارقة والمنبوذة وفاقدة الشرعية

من نتائج طوفان الأقصى والحرب الإجرامية التي شنتها إسرائيل الأكثر أهمية والأبعد تأثيرا، ذاك الانهيار التام للصورة التي تعبت إسرائيل في بنائها، عشرات السنين من الدعاية الكاذبة لبناء سردية مزيفة وصورة مصطنعة قناع فوق قناع: إسرائيل الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط الحارسة الأمينة لقيم وحضارة الغرب في وجه الشرق الهمجي والإرهاب الإسلامي، دولة الهايتك والشركات الناشئة (start-up nation). ولكن في حقيقة الأمر، قامت إسرائيل كدولة وكمشروع استعماري، تبنى بطرق وأساليب مختلفة نموذج الدولة الصليبية، التي بقي بعضها ما يقارب القرنين (الحادي عشر حتى الثالث عشر)، ظلت نبتات غريبة معادية لمحيطها العربي والإسلامي، وفي حالة حرب مستمرة معه.

إسرائيل ربيبة الغرب الاستعماري، تكشفت على أنها دولة عنصرية فاشية ترتكب أبشع أنواع الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، والغالبية الساحقة من المجتمع اليهودي الإسرائيلي يؤيد ذلك ويسير كالقطيع وراء غرائزه البهيمية في الانتقام والثأر، مقنعا ذلك بأكاذيب الخطر الوجودي والحرب من أجل الحفاظ على الوجود. سقطت الأقنعة وتكشفت حقيقة هذه الدولة، التي لم يعد من مصطلحات السياسية الواقعية ما يصلح لوصفها، كالقول إنها ديموقراطية إثنية لليهود فقط أو دولة اليهود أو دولة الفصل العنصري – الأبرتهايد، ودولة استعمارية استيطانية، وهذه كلها أوصاف صحيحة ولكنها لم تعد تكفي لتعريف هذا النظام. إسرائيل بعد ما ارتكبته من جرائم أصبحت دولة مارقة دمرت بيديها أسس الشرعية الدولية، وهكذا أصبحت فاقدة للشرعية بواقع الحال، ويجب التعامل معها عالميا على هذا الأساس.

تابعوا تطبيق “عرب ٤٨”… سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

لقد قوضت بنفسها شرعيتها التي استمدتها من القرارات والقانون الدولي، عندما داست على هذه القرارات والقوانين بارتكابها أخطر الجرائم التي واجهتها الإنسانية منذ النازية. هذا ليس تشخيصا ووصفا بلاغيا، وإنما تغيير أساسي وجوهري في المنظومة المعرفية (البرادايم) لأسس التعامل مع هذا النظام. هذا يعني التبني الفعال والمثابر لإستراتيجية نضال جديدة لكافة مؤسسات وفصائل وأحزاب الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجده، وكذلك لكل حلفائه ومناصري الحق الفلسطيني والعدالة، من أجل مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ونبذها، وملاحقة قادتها وجلبهم للعدالة. هذه الإستراتيجية هي التجسيد الأفضل والأكثر سلمية، لجعل هذه الدولة المارقة تدفع الثمن على جرائمها وفظائعها بحق الشعب الفلسطيني.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *