“منع الأصوات الفلسطينيّة في الحيّز العام”
“أخبرتهم أنني يهودي وأنهم إذا وجدوني مذنبًا، فإن محكمة ألمانية ستقوم بتغريم يهوديّ بتهمة ’معاداة السامية’. طلبت توضيح المقصود بـ’التظاهرة’، هل كانت ’مسيرة’ الجماعات اليمينية والفاشية قبل بضعة أشهر، حيث لم تتدخل الشرطة على الإطلاق؟ هنا احمرّ وجه القاضي خجلا”. جو، مهندس أميركي يهودي*.
“حاصرتنا الشرطة في ساحة هيرمان دون سابق إنذار، بينما كنت أقف أنا وصديقي مع آخرين، لم يتم إبلاغنا عن السبب، غالبية المحاصرين داخل الدائرة كانت ذات ملامح عربية، والبعض كان يرتدي الكوفية، حتى أن الشرطة أوقفت عدة أشخاص بملامح عربية، كانوا قد خرجوا للتوّ من محطة المترو، وقامت بجرّهم إلى داخل الدائرة المحاصرة، على الرغم أنهم لم يقوموا بأي شيء”. ماتيلدا، طالبة جامعية ألمانية.
“كنت أعتقد أنني لن أُصاب بالصدمة مهما صدرت قرارات مجحفة بحق الفلسطينيين من قِبل السلطات الألمانية، بالتأكيد كنت مخطئًا. كفلسطيني سوري عاش في مخيم اليرموك، وتم قمعه من النظام السوري، أعرف هذا الشعور، بدون مبالغة شعرت بمشاعر مماثلة من الخوف، كيف لا يمكنني أن أتظاهر؟ كيف! ’الحجة’ التي قاموا باستخدامها لمنع التظاهر هي ما جعلتني أهلع، لأنها قابلة للاستخدام دائمًا: ’من المحتمل أن تكون التظاهرة معادية للسامية’”. خالد، طالب جامعي ولاجئ فلسطيني.
في نهاية نيسان/ أبريل 2022، قامت شرطة العاصمة الألمانية برلين، بمنع كافة التظاهرات التضامنية مع فلسطين، والتي تأتي عادةً للتذكير بالنكبة الفلسطينية في أيار/ مايو، كما تم منع وقفة احتجاجية إثر اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في 11 أيار/ مايو 2022، والتي كانت تنوي تنظيمها مجموعة “الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط”، لكن العديد من الفلسطينيين، بالإضافة إلى نشطاء أجانب في برلين، أصرّوا على الاحتجاج والتعبير عن رفضهم للمنع، عبر التجوال في حي نويكولن، ذو الأغلبية المهاجرة، وارتداء الكوفية أو حمل العلم الفلسطيني في ذكرى النكبة في 15 أيار/ مايو 2022.
اعتقلت الشرطة الألمانية في ذلك اليوم 115 شخصًا بتهمة “المشاركة في حدث غير قانوني”، 25 منهم تلقوا في ما بعد غرامات مالية وصل مجموعها إلى 8269,50 يورو، فيما تم إسقاط الغرامات عن البعض، بعد الاعتراض الخطيّ الأول، فضّل آخرون دفع الغرامة تجنّبًا لأي تصادم مع السلطات الألمانية، لكن 12 ناشطا وناشطة، قرروا التوجّه للقضاء، ونظّموا أنفسهم ضمن مجموعة نشرت بيانًا للتوقيع في صفحة خاصة بهم، عبّروا من خلاله عن رفضهم المطلق لمنع التظاهرات في ذكرى النكبة، وانتقدوا “سلوك حكومة برلين وتواطؤها مع الدولة الألمانية، الشريكة في القمع المستمر للشعب الفلسطيني”. في هذا السياق، تخبرني ماتيلدا، وهي ناشطة ألمانية من المجموعة، أنه “بهذه العملية، يصل تجريم التضامن مع فلسطين من قِبل حكومة برلين إلى مستوى جديد من التصعيد”، مشددة على أن “هذا تعبير عن هجومٍ شامل على الحقوق الديمقراطية الأساسية في التجمّع، وحرية التعبير”.
أسلّط الضوء في هذا التقرير على ما حصل العام الماضي، من منعٍ للتظاهرات، والاعتقالات والمحاكمات الجارية حاليا في برلين، من خلال الحديث مع ثلاثةٍ من النشطاء الذين قرروا التعبير عن احتجاجهم، عبر الطعن في المحاكم الألمانية، حيث ورَد في بيانهم المتاح للتضامن عبر التوقيع، بعد سردٍ موجز عن النكبة والقمع الممنهج الذي تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين: “لذا نقوم نحن -نشطاء ومنظمون ومواطنون من ألمانيا والولايات المتحدة وبولندا وسورية وفلسطين، من المسيحيين والمسلمين واليهود وغير المؤمنين على حد سواء- بتنظيم أنفسنا للرد. ندعم من تمّ قمعهم في يوم النكبة. ندعم المتضامنين مع فلسطين في برلين، والذين يعارضون محاولات ألمانيا لمحو الذاكرة التاريخية الفلسطينية”.
حصار مفاجئ
في ذلك اليوم، كان خالد وماتيلدا من ضمن النشطاء الذين قرروا التجوال في حي نويكولن في برلين، حيث تتواجد الجالية والكثير من المطاعم والمتاجر العربية، وقاما بارتداء الكوفية الفلسطينية، تعبيرا عن رفضهما لقرار منع تظاهرات ذكرى النكبة، فـ”التجوال أمر طبيعي، وليس ممنوعًا”.
يحدّثني خالد أنه بعد احتساء القهوة في أحد المقاهي في المنطقة، وجولة قصيرة برفقة ماتيلدا، قرَّرا التوجّه إلى ساحة هيرمان، وهي إحدى الساحات المعروفة في الحيّ، حيث تُقام عادةً الكثير من الفعاليات والأنشطة، لكنه صُدِم بالتواجُد الضخم لمئات العناصر من الشرطة وعشرات السيارات الخاصة بها، بالإضافة لتواجُد بعض الصحافيين، وكأنهم بانتظار حدثٍ ما.
تقول ماتيلدا: “لاحظنا على الفور أن تواجُد الشرطة كان أكثر من المعتاد في ذلك اليوم. كانت مركبات الشرطة في كل مكان، وعناصر الشرطة كانوا يرتدون بدلاتٍ واقية ثقيلة. التقينا هناك بأصدقاءٍ آخرين، تحدّثنا قليلًا، وكنا ننوي الذهاب سويةً لتناول الشاورما، ولكن قبل أن نتمكن من مغادرة الساحة، حاصَرنا عناصر الشرطة فجأة، كان الأمر فوضويًا للغاية”.
“كوميديا رديئة”
أما جو، فقد كان برفقة ثلاثة أصدقاء يهود، ونظرًا لأنهم جميعا يسكنون في منطقة قريبة من ساحة هيرمان، قرروا التجوال هناك أيضا، وبخاصة بعد معرفتهم بقرار المنع.لم يكن جو يرتدي الكوفية، أو أي علامة ترمز إلى فلسطين، وقال: “عندما اقتربنا، رأينا مئات من عناصر الشرطة يقفون في الجوار، بعضهم يرتدي معدات مكافحة الشغب، لكن لم يكن هناك تجمّع واضح للناس، ورغم ذلك رأيت كيف كانت الشرطة تقوم باعتقال البعض، أحدهم كان يحمل العلم الفلسطيني، وشاهدت كيف تم تعنيفه من قِبل الشرطة أثناء اعتقاله”.
ويضيف جو: “كنت على متن دراجتي، وأردت الانتقال إلى وسط الساحة لمتابعة ما يجري عن كثب، لكن الشرطة قامت خلال دقائق معدودة ودون سابق إنذار، أو الإدلاء بأي معلومات، بإلقاء القبض علينا، وإدخالنا إلى دائرة محاصِرة للموقوفين، كان اختيارهم للأشخاص عشوائيًا، إذ تواجد بيننا متسوقون، وكذلك عائلات”.
ويسرد خالد تفاصيل عن فوضوية الاعتقال وتعنيف الشرطة للبعض، بالقول: “كان هنالك نحو 30 شخصًا محاصرًا في الدائرة نفسها. كان الأمر أشبه بكوميديا رديئة، ذلك أن الجميع باستطاعته دخول الدائرة دون أي حواجز، لكن لا يمكنه المغادرة، وهذا ما حصل لأحد الشبان الذي زوّد صديقته بزجاجةٍ من المياه المعدنية، لكن عناصر الشرطة رفضوا أن يغادر الدائرة، وبالتالي تم اعتقاله معنا. قامت الشرطة بتعنيف البعض أثناء الاعتقال، وبخاصة من كانوا يرتدون الكوفية، إذ قاموا بسحبهم عنوةً إلى مركبات الشرطة”.
ويتابع: “بقينا ما يقارب الساعتين محاصرين، ثم أخبرونا أننا شاركنا في تجمع غير قانوني، ويجب أن نذهب الواحد تلو الآخر لتسجيل البيانات، إما طواعية أو بالإجبار”.
“التنميط العنصريّ”
تشير ماتيلدا إلى بيان شرطة برلين، الصادر بتاريخ 12 أيار/ مايو 2022، بشأن حظر 5 تجمعات مختلفة لإحياء ذكرى النكبة، وتنوّه إلى إشارة البيان إلى “المستوى العالي من الانفعال”، وهذا يوضح بحسب رأيها، وجهة النظر العنصرية لدى شرطة برلين تجاه العرب، وتتساءل باستنكار: “طبيعة التظاهرات أيًا كانت، عادةً ما تكون عاطفية، لكن انفعالية الألمان تُعتبر هنا مشروعة، أما انفعالية العرب تساوي الاستعداد لاستخدام العنف؟”.
وتتابع ماتيلدا حديثها بشأن عنصرية الشرطة الألمانية، وتحديدًا في حي نويكولن: “هنا يسكن ويعمل العديد من الفلسطينيين والعرب. تتمتع شرطة برلين بحقوق خاصة بموقعين في الحي ’مهددان بالجريمة’، بحسب تعريفهم، الأمر الذي يمكنها على سبيل المثال من فحص الأشخاص، ’بغض النظر عن الاشتباه’. ومن المعروف أن الشرطة في هذه المناطق تستخدم التكتيك المتمثل في التنميط العنصري”.
“كيف أحاسَب على شيء لم أرتكبه؟”
وفي هذا السياق، يحدثني خالد قائلا: “شهدت أكثر من مرة عنف الشرطة في سورية، وكذلك في ألمانيا، ولكن عندما يكون هنالك ما يخص القضية الفلسطينية في ألمانيا، فإن عنف الشرطة يتضاعف، بحسب ما شهدته من مظاهرات، لأسباب مختلفة”.
يذكر اللاجئ الفلسطيني خالد أن “المستقبل في برلين مرعب”، مضيفا: “هذا ما يجتاحني عندما أفكر بهذا الحدث. كيف يتم معاقبتي على شيء لم أرتكبه حتى؟ قمع حرية التعبير في ما يخص القضية الفلسطينية في ألمانيا، يسير ضمن خطوات تشريعية مرعبة”.
يؤكد جو شكوك كلّ من ماتيلدا وخالد، ويقول: “أنا من ذوي البشرة الفاتحة، عاملوني (عناصر الشرطة) بلطفٍ أكثر بكثير من الأشخاص الذين لا يبدو أنهم ألمان (لون بشرتهم أغمق)”.
ويضيف جو: “لقد رأيت حالتين على الأقل، حيث تعرّض أشخاص يحملون علمًا (فلسطينيا)، أو يرتدون كوفية، للهجوم، أو تمّ التعدي عليهم بشدة”.
منع الأصوات الفلسطينية في الحيّز العام
صوّرت الشرطة وأخذت بيانات الموقوفين، بعد التهديد باستخدام العنف عبر “تدابير قسريّة”، إن لم يتعاونوا، و”عاملتهم كالمجرمين”، وفيما تمّ فرْض حظر تجوالٍ على من يسكن الحي منهم، وأن يلزموا بيوتهم لمدة 24 ساعة إلا للطوارئ، حصل آخرون على تعليمات بمنع دخول نويكولن وحي كرويتسبيرغ المجاور لمدة 24 ساعة أيضًا.
تقول ماتيلدا عن ذلك، إن الشرطة، “تتعامل عبر هذه الوسيلة، لتجنّب خطرٍ ما، أو منع ارتكاب جريمة جنائية”، وتشير إلى أن “هذا يعكس كيفية تعاملهم مع الفلسطينيين والأشخاص المتضامنين في برلين، وأن وجودنا وحده مُجرَّم، ويُنظر إليه على أنه تهديد لـ’الأمن والنظام العام’”.
وتؤكد أن “هذا يجسد محاولة للترهيب، واستعراضا للسلطة من قِبل الشرطة، إنها نتيجة منطقية للسياسة الألمانية السائدة، التي تحاول بكل قوتها منع ظهور الأصوات الفلسطينية في الحيز العام”.
بعد فترة من المظاهرات المذكورة، وصلت رسائل بريدية من الشرطة تفيد بفرض غرامات مالية بحقّ 25 ممن تم اعتقالهم في ذلك اليوم. وقرّر خالد وجو وماتيلدا، و9 آخرون، رفض دفع الغرامة المقدرة بأكثر من 300 يورو للشخص، والتوجّه للقضاء كحركة احتجاجية على ما حصل من اعتقال وتعنيف، بالإضافة للتعبير عن رفضهم لمنعهم من ممارسة حرية الرأي والتظاهُر، والتي يكفلها الدستور الألماني.
قمع الفلسطينيّ؛ أداة للتصالُح مع الماضي
يخبرني جو بوجهة نظره كناشط يهوديّ، بأن العديد من السياسيين في جميع أنحاء أوروبا، يساوون عمدًا بين إسرائيل واليهود، وأنهم يتّبعون سياسات فاشية ويستخدمون لغة عنصرية ومعادية للسامية، ويحافظون على علاقات قوية مع إسرائيل؛ بهذه الطريقة يمكنهم تجنّب أي اتهام بمعاداة السامية، كالرئيس الهنغاري واليميني المتشدد، فيكتور أوربان، الصديق الحميم لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو.
ويشير إلى أن هؤلاء باتوا يمارسون عنصريتهم ضد المهاجرين، وبخاصة المسلمين، تحت غطاء “مكافحة معاداة السامية”، ويذكر أن ألمانيا تستخدم العنصرية ضد الفلسطينيين كأداة للتصالح مع الماضي.
ويؤكد أنه ليس هناك أي عدل في منع الفلسطينيين من حقهم المشروع في ممارسة النشاط السياسي، أو إحياء ذكرى النكبة، ويعلّق على ذلك قائلًا إن “حظْر أي انتقاد لإسرائيل، يخدم في المقام الأول منظّري المؤامرة المعادين للسامية… ممّا يعرّض اليهود للخطر، أكثر مما يحميهم”.
من جانبها، ترى ماتيلدا الأمر بشكل مشابه، وتؤكد أنه يتم المساواة بين إسرائيل واليهودية بشكل متزايد في ألمانيا، كما يتم تفضيل المصالح الجيوسياسية والاقتصادية على حقوق الإنسان، وحياة الفلسطينيين؛ لكنها تلحظ بالمقابل تضامنًا متزايدًا مع الفلسطينيين، وأنه بفضل النشاط الفلسطيني حول العالم وتوثيق جرائم الاحتلال ونشرها عبر الإنترنت، فإن المزيد من الناس بدأوا بالتشكيك في السياسة الألمانية تجاه إسرائيل.
وتشير إلى تشكّل تحالف مميز في برلين، وتقول إن “الشتات الفلسطيني في ألمانيا آخذ بالازدياد، وتساعد المجموعات اليهودية المتضامنة مثل الصوت اليهودي، أو التحالف اليهودي، في تحريض المزيد من الألمان على إعادة النظر في آرائهم”.
بدأت المحاكمات في منتصف شباط/ فبراير 2023، ولاقت الجلسة الأولى حضورًا تضامنيًا لافتًا، حيث تم التأكيد على الحقوق الأساسية في حرية التعبير، ورفض حظر تظاهرات النكبة. وبينما ينتظر كل من ماتيلدا وخالد جلسات محاكمتهما في نهاية آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 2023، انتهت محاكمة جو بإسقاط الغرامة المالية عنه.
وحاجَج جو القاضي وهيئة المحكمة، بأن حظر التظاهرات أمرٌ مناف لتعزيز حرية التعبير في ألمانيا، وبأنه من الوقاحة العنصرية، إعطاء هذا الحق للنازيين المعادين بوضوح للسامية، بينما يتمّ منعه لإحياء ذكرى النكبة.
وأخبرني جو أنه أعدّ ورقة لتلاوتها على المحكمة، يوضح فيها وجهة نظره كيهودي من حظر التظاهرات، والعنصرية التي يتم التعامل بها مع الفلسطينيين في ألمانيا، تحت غطاء “مكافحة معاداة السامية”، لكن جلسة المحكمة لم تستغرق سوى 30 دقيقة على أكثر تقدير، ولم يتسنَّ له قراءتها، رغم أن القاضي قام بالاطلاع عليها، بداعي الفضول.
ثلاث محاكمات أخرى لناشطين فلسطينيين وآخر سوريّ، تم تأجيل البتّ فيها حتى طلب شهادات عناصر من الشرطة وآخرين، للتأكد من عدة تفاصيل، من ضمنها إذا ما كانت الشرطة قد طلبت حقًا مغادرة المكان قبل محاصرة المعتقلين أم لا، الأمر الذي لم يتم مناقشته في محاكمة جو، التي تم الحسم فيها وإسقاط التهمة عنه بشكل سريع.
بدوره، يقول خالد إنه ليس لديه شعور إيجابي تجاه المحاكمة، ولكنه على الرغم من ذلك، سيذهب ويسرد كل ما حصل “دون زيادةٍ أو نقصان”.
* أسماء النشطاء المذكورين في التقرير، هي أسماء وهميّة، إذ استُبدلت أسماؤهم الحقيقية بها، حفاظًا على خصوصيتهم وسلامتهم.
المصدر: عرب 48