من العصيان المدنيّ 1936 حتى توصيات لجنة “بيل” 1937 (32/4)
إعلان العصيان المدني 1936
كان الإضراب العربي شاملًا، بل كان يتعمق كل يوم، إذ انضم إليه بحارة يافا، ومن بعدهم بحارة حيفا العرب، ثم المحامون، والأطباء والتجار، ونشط القرويون نشاطًا كبيرًا من أجل إنجاح الإضراب، فعقدوا المؤتمرات تأييدًا لتمرد الشعب، وخلال شهر أيار / مايو 1936، قرر منتخبو المجالس البلدية الانضمام إلى الإضراب.
وحدّدت اللجنة العربية العليا مطالب الشعب في بيان لها صدر في 26 نيسان / أبريل 1936، وأعلنت بأن الإضراب سيتوقف فقط بتحقيق المطالب التالية: إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي، ووقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود.
وكان للصحف العربية اليومية دور بارز في التحريض على استمرار الإضراب بشكل يومي، خاصة صحيفة الدفاع وصحيفة فلسطين، وكذلك بقية الصحف الأخرى، التي نشرت أخبار الإضراب على صفحاتها الأولى، فكانت حلقة وصل هامة بين الناس واللجان القومية التي تكونت في كافة مدن فلسطين.
أما شعوب الدول العربية المجاورة، فقد استجابت للتحرك الفلسطيني بمظاهرات وإضرابات، ففي عمان انطلقت مظاهرة كبيرة في 23 نيسان / أبريل، وأضربت المدن السورية كافة في 24 نيسان / أبريل، ونظمت فيها مظاهرات كبيرة، وفي طرابلس اللبنانية، فقد أعلن الإضراب العام في 25 نيسان / أبريل، وانطلقت فيها مظاهرة صاخبة. ولم يتوقف التأييد عند هذا الحد، إذ استمرت المظاهرات في دمشق وحلب وحمص وحماة وعمان وطرابلس وصيدا وبغداد والموصل، مما أعطى لنضال الفلسطينيين نفسًا وتشجيعًا لاستمرار الإضراب.
قبل نهاية نيسان / أبريل 1936، كان الإضراب شاملًا والعمل والتجارة كانت متوقفة عند العرب، واستمرت الصدامات بين العرب والشرطة الإنجليزية. وعلى إثر ذلك قام المندوب السامي “واكهوب” بإرسال تقرير متشائم إلى وزير المستعمرات، يذكر فيه أن كل أسبوع قادم سيكون أصعب من الوضع الآن، وأكد في تقريره أن اعتقال أكثر من 660 رجلًا لم يقلل من عمليات إطلاق النار وتخريب السكك الحديدية، بل إن هذه الأشياء ستزداد حدتها في الأيام القادمة. وهذا ما كان يحدث فعليًا، فقد تم إعلان العصيان المدني العام في 8 أيار / مايو 1936، وذلك في المؤتمر العام للجان القومية، على أن يبدأ سريان مفعوله في 16 أيار / مايو 1936، وكان هذا معناه أن يمتنع العرب عن دفع الضرائب للدولة البريطانية. ولما ابتدأ العصيان المدني في 16 أيار / مايو، انتقلت الثورة إلى مرحلة جديدة، عندما ابتدأت مجموعات عربية مسلحة بقطع الأسلاك الهاتفية ونسف الجسور وتخريب الطرقات. مما أدى إلى نشوب المعارك الحربية ضد الجيش البريطاني، الذي كان يحاول أن يردع ويقضي على المجموعات المسلحة.
بعدها بيومين، أي في 18 أيار / مايو 1936، أصبح العمل بقوانين الطوارئ ساري المفعول، بعد أن كان قد قررته الحكومة في بداية المناوشات في يافا. وفي نفس اليوم أعلنت الحكومة عن برنامج جديد للهجرة اليهودية، الأمر الذي زاد من حدة الغضب العربي، وأدى هذا إلى اشتداد المواجهات الحربية بين المجموعات العربية المسلحة والقوات البريطانية. وفي نفس هذا اليوم، أي 18 أيار / مايو، أعلن مجلس العموم البريطاني عن نيته في تعيين لجنة ملكية للتحقيق في أسباب الأوضاع في فلسطين، إلا أن أعمال هذه اللجنة لن تبدأ إلا بوقف الإضراب، ولكن هذا القرار لم يؤثر على همة العرب، بل تمسكوا بمواصلة الإضراب حتى تحقيق أهدافه.
استمرار الإضراب والثورة عام 1936
اتسعت الثورة وأحداثها، وشملت جميع مدن فلسطين وقراها، وكانت حوادث تعطيل الطرق والمعابر ونسف الجسور ومهاجمة دوريات الشرطة والجيش يومية، حتى اليوم الأخير للإضراب. وازدادت التعزيزات العسكرية البريطانية إلى فلسطين، وفي محاولة للسيطرة على الثورة كثرة تنقلات القوات البريطانية بدباباتها ومصفحاتها، لمهاجمة مجموعات الثوار المنتشرة في الجبال وأطراف القرى والمدن بعد كل عملية ينفذونها. ونشبت المعارك الكبيرة بين الثوار الذين ازداد عددهم ليصبحوا آلاف مؤلفة، رغم ضعف التجهيزات وقلة السلاح، وعدم توفر التدريب العسكري، حتى إن الكثير من الثوار كانوا يخوضون معارك طاحنة ضد الإنجليز بسلاح يحملونه لأول مرة، وبعد تلقيهم تدريبًا طفيفًا على كيفية استعماله فقط. لكن هذا لم يمنع الثوار من إيقاع الخسائر الفادحة بالقوات البريطانية.
كانت المعارك تنشب خلال النهار، وفي بعض الأحيان على امتداد عدة كيلومترات، بسبب طبيعة عمل الثوار على شكل عصابات، واستعملت القوات البريطانية في هذه المعارك كافة أنواع الأسلحة من دبابات ومصفحات وطائرات حربية. ورغم ذلك كان الثوار يحاربون بشجاعة وبأس وقوة حتى قدوم الليل، وعند ذلك كانت القوات البريطانية تنسحب إلى ثكناتها. وكانت السلطات قد فرضت منع التجول في القرى والمدن، طوال فترة الإضراب من الغروب حتى الصباح، بل وكانت في بعض الأحيان تفرضه لمدة 22 ساعة يوميًا، وتسمح للناس بالتجول لمدة ساعتين فقط لقضاء حوائجهم.
ورغم تكبد الثوار الكثير من الخسائر، إلا أن هذا لم ينل من إصرارهم وعزمهم على محاربة الإنجليز، والتعرض لقوافل اليهود في الطرقات، رغم أنها كانت تسير بحراسة عسكرية، ومهاجمة مستعمراتهم وتكبيدها خسائر فادحة في الممتلكات وأحيانا الأرواح. وكان لليهود مساهمة كبيرة في محاربة الثوار ومساعدة الإنجليز في محاولاتهم لإخماد الثورة. أما عن تعداد الخسائر، وقتلى الجانبين طوال فترة الثورة، فقد كانت على النحو التالي حسب بيان وزير المستعمرات البريطاني إلى مجلس العموم في 15 تشرين أول / أكتوبر 1936، إصابات العرب أكثر من 1000، منهم حوالي 200 شهيد، أما خسائر الجيش والشرطة، فكانت حوالي 300 مصاب منهم 37 قتيلًا. أما اليهود فحسب إحصاءاتهم في 30 أيلول / سبتمبر 1936، فكانت 368 إصابة منها 80 قتيلًا، وعدد الأشجار المقلوعة في المستعمرات حوالي 200،000 شجرة، و 280 حريقًا، وعدد الجسور المنسوفة أكثر من خمسين جسرًا.
أمام تصميم الشعب بالاستمرار في الثورة، قامت السلطات البريطانية بتعديل قوانين الطوارئ، بحيث صارت هذه القوانين تنص على عقوبة الإعدام فيمن يطلق النار، أو يدمر الجسور، أو يلقي القنابل والمفرقعات. واستمر تدفق القوات البريطانية إلى فلسطين بحيث وصل عدد الجيش النظامي إلى أكثر من 25 ألفًا ومثلهم من أفراد الشرطة، لكن كل هذا لم يؤثر ولو قليلًا على حماسة المجاهدين وشدتهم في المعارك، بل إن أعداد حملة السلاح العرب وصل إلى ما لا يقل عن 8،000 مجاهد. كذلك فإن عدد الاعتقالات الكبير، والذي وصل إلى أكثر من 6،000 معتقل، وتنفيذ العقوبات الجماعية خاصة في القرى التي ساهم بعض من أهلها في الهجمات المسلحة، لم يخمد الثورة، بل زادها اشتعالًا وحماسًا.
لم تكتفِ السلطات بتنفيذ عقوبات جماعية ضد القرى، بل قررت أن تنتقم من مدينة يافا التي انطلقت منها الثورة، فقامت بنسف منطقة واسعة من البلد القديمة المكتظة بالسكان، لتفتح طريقًا واسعًا لأدواتها العسكرية. مما أدى إلى تشريد ساكني المناطق المدمرة. وكذلك فرضت غرامات مالية ضخمة ضد مدن فلسطينية أساسية مثل فرض غرامة قيمتها خمسة آلاف جنيه ضد نابلس، وألف جنيه ضد الخليل وغيرها. كما وقامت بنسف الكثير من البيوت في القرى والمدن المختلفة.
في 7 أيلول / سبتمبر 1936، قرر وزير المستعمرات البريطاني، إرسال الجنرال “سير جون ديل” إلى فلسطين، ليقود القوات البريطانية من أجل القضاء على الثورة حالًا، كما أعلن الوزير. وقد وصل فعلًا إلى البلد بعد ذلك بأسبوع تمامًا، كذلك وصلت إلى ميناء حيفا في 22 أيلول / سبتمبر، الفرقة العسكرية الأولى التي تم إرسالها خصيصًا لقمع الثورة، وتوزعت على طولكرم ويافا ونابلس والقدس.
في 30 أيلول / سبتمبر 1936، فرضت السلطات الأحكام العرفية على البلاد، وخولت المخابرات والعسكر في فرض الاعتقال الإداري والنفي والإبعاد، ومصادرة الأموال، وفرض الغرامات على الأفراد والجماعات، وهدم البيوت، وإقامة محاكم عسكرية فظة، تفرض الأحكام القاسية والتي تصل إلى حد الإعدام، لكل من شارك في الثورة.
العرب يتضامنون وملوكهم يتوسطون
زاد التضامن العربي بشكل واضح، عن طريق تنظيم المظاهرات وجمع التبرعات للثورة والمتضررين جراءها، ومن ثم انضم الكثير من المحاربين العرب إليها، من سورية والعراق والأردن. وتجندت القوى الوطنية في مصر والمغرب العربي للتضامن مع الثورة. وقدر عدد المتطوعين العرب، الذين عبروا الحدود للقتال في الثورة بالمئات، بينما قدرهم الإنجليز بالآلاف.
وكان من أبرز هؤلاء المناضلين الشيخ محمد الأشمر وفوزي القاوقجي وسعيد العاص. أما سعيد العاص، فقد تمركز في منطقة الخليل-بيت لحم-القدس، بمساعدة عبد القادر الحسيني، وكان عدد أفراد مجموعتهم أكثر من مائة مناضل، وكانت لهم صولات وجولات كبيرة ضد الإنجليز في معارك طاحنة، مما أدى إلى استشهاد سعيد العاص وجرح وأسر مساعدة عبد القادر الحسيني، في معركة وقعت في 6 تشرين أول / أكتوبر 1936، في منطقة جبال الخليل.
أما الشيخ محمد الأشمر، فقد تمركز مع متطوعيه في منطقة نابلس وطولكرم، وحارب مع مئات من ثوار المنطقة، وأبلى وجماعته بلاءً حسنًا في المعارك الدائرة في المنطقة مع مئات من المناضلين الفلسطينيين.
وصل فوزي القاوقجي إلى فلسطين في نهاية شهر آب / أغسطس 1936 قادمًا من العراق، بصحبة فريق من العراقيين والدروز السوريين، وتمركز في منطقة نابلس، واتخذ من جنين مقرًا له. قام القاوقجي بتنصيب نفسه قائدًا عامًا للثورة بحكم خبرته العسكرية، ودعا الناس للالتفاف حوله وحول الثورة، وأعلن عن استعداده، بل ودعوته إلى النضال حتى تحرير فلسطين. وقد كان لقدوم القاوقجي أثرًا كبيرًا في ازدياد قوة وحماسة الثورة، وحارب الإنجليز في مواقع كبيرة في بلغا، وبيت أمرين، ودير شرف، وجبع، وعزون. وكانت معركة جبع هي الأشد والأقوى، ووقعت في 24 أيلول / سبتمبر 1936، بمشاركة الآلاف من الفلسطينيين، الذين سقط منهم أكثر من ستين شهيدًا. وفي بيت أمرين في 29 أيلول / سبتمبر، كانت هناك واقعة كبرى أيضا مع الجيش الإنجليزي، وكذلك في 8 تشرين أول / أكتوبر 1936 في بيت صور، وكانت هذه آخر معارك القاوقجي في فترة الإضراب الكبير.
هذا ما كان من شأن المتطوعين والمناضلين العرب، أما القادة والملوك، فكان لهم شأن آخر، إذ إن ملوك العرب عبد العزيز آل سعود، ملك السعودية، والإمام يحيى حميد الدين من اليمن، وغازي بن فيصل من العراق، والأمير عبد الله بن الحسين من شرق الأردن، فقد قرروا أن يقوموا بالوساطة بين اللجنة العربية العليا، وبين الحكومة البريطانية من أجل وقف الثورة، على أن تحقق بريطانيا بعضًا من مطالب الشعب. كان التدخل بدعوة من أصحاب بساتين البرتقال، الذين اعتقدوا أنهم سيحوزون على أرباح باهظة بسبب الحرب الأهلية الإسبانية التي أخرجت منافسًا رئيسيًا للبرتقال الفلسطيني من الساحة، وكذلك أراد التجار وقف الإضراب المستمر؛ لأنهم تضرروا منه بشكل كبير.
ولا شكّ أن بريطانيا المحرجة جدّا من هذه الثورة الكبيرة، كانت تضغط على الملوك والأمراء العرب بهذا الاتجاه، مما دعاهم إلى التدخل عند اللجنة العربية العليا، بدءاً من نهاية آب / أغسطس 1936، ولكن دون نجاح يذكر، بسبب عدم استعداد بريطانيا لإعطائهم وعدًا بتنفيذ أيٍّ من المطالب العربية، لكنها فقط وعدت بإرسال اللجنة الملكية للتحقيق، والتي كانت قد أقرّ إرسالها في أيار / مايو 1936. وأصدر نوري السعيد، وزير خارجية العراق، بيانًا في نهاية آب / أغسطس، يعلن فيه عن توصله إلى اتفاق مؤقت مع الحكومة البريطانية، يشمل أربعة بنود وهم: وقف الإضراب، ووقف الهجرة اليهودية مؤقتًا حتى إصدار قرار اللجنة الملكية بهذا الشأن، أما البند الثالث، فينص على سعي الحكومات العربية الثلاث: السعودية والعراق واليمن وإمارة شرق الأردن، لدى بريطانيا من أجل تحقيق المطالب العربية، وأخيرا وقف الثورة مقابل إلغاء الغرامات وإطلاق سراح المعتقلين وإصدار عفو عام عن المطلوبين.
ولكن بريطانيا وعن طريق وزير مستعمراتها، أرسلت إلى الزعيم الصهيوني “حاييم وايزمان”، بأنها لم تفوض نوري السعيد بشيء، وخاصة بما يتعلق بالهجرة اليهودية. وكان تأثير الرسالة كبيرًا على استمرارية الثورة التي اشتدت وتصاعدت، وفي المقابل زادت الإجراءات القمعية وتنفيذ العقوبات.
أما الملوك العرب، فقد استمروا في نداءاتهم للجنة العربية العليا بضرورة وقف الثورة، “حقنًا للدماء، معتمدين على حسن نوايا “صديقتهم” الحكومة البريطانية، ورغبتها في تحقيق العدل”، كما جاء في بيان الزعماء العرب في 8 تشرين أول / أكتوبر 1936.
استجابت اللجنة العربية العليا لنداء الملوك العرب، بعد الحصول على إجماع داخل اللجنة، والحصول على موافقة مندوبي اللجان القومية، على أن يسري مفعول قرار وقف الإضراب ابتداء من صباح يوم الاثنين الموافق 12 تشرين أول / أكتوبر 1936، وكان هذا التاريخ هو نهاية لأكبر إضراب عام شهدته فلسطين، بل والمنطقة كلها. وعاد المجاهدون العرب، وعلى رأسهم القاوقجي والشيخ الأشمر إلى بلادهم.
كانت الحصيلة النهائية للثورة حتى نهاية الإضراب أكثر من ألف شهيد، وهو ليس العدد الذي كانت قد أعلنته السلطات وهو 200 شهيد فقط. مع نهاية الإضراب أعلن المندوب السامي أن موعد وصول اللجنة الملكية للتحقيق، والتي أقر مجلس النواب البريطاني، قبل عدة أشهر تسييرها إلى فلسطين، سيكون في 11 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1936، وستبدأ عملها فورًا عند وصولها.
لجنة “بيل”: أعضاؤها وسير عملها
قطع وزير المستعمرات البريطاني على العرب فرحتهم بقدوم اللجنة، عندما صرح أمام مجلس العموم البريطاني في تشرين ثاني / نوفمبر 1936، وذلك قبل سفر اللجنة، بأن “وقف الهجرة طوال فترة عمل اللجنة يعرقل عملها، وفيه استباق لما ستقرره، ولذلك سيسمح بهجرة 1،800 عامل يهودي، في الستة أشهر التي تبدأ من شهر تشرين أول / أكتوبر، وذلك غير أصناف الهجرة الأولى التي ستستمر وفقًا للقانون”. على أثر هذا التصريح أعلنت اللجنة العربية العليا عن مقاطعتها للجنة الملكية القادمة، وأنها لن تشهد أمامها.
وصلت اللجنة، كما كان مقررًا لها في الحادي عشر من تشرين ثاني / نوفمبر 1936، برئاسة اللورد “ويليام روبرت پيل”, الوزير البريطاني السابق، وكان في السبعين من عمره. وكان نائبه السير “هوراس لامبورد” الذي كان ضابطًا إنجليزيًا من الطراز القديم، وكان على رأس الوفد الإنجليزي في مفاوضات مؤتمر لوزان عام 1923، والذي أفضى إلى معاهدة سلام مع تركيا. والسير “لوكاس هاموند” والذي كان نائب حاكم “بيهار” في الهند، ومن ثم حاكم “أصام” في الهند أيضا. والقاضي سير “ويليام موريس كارتر”، والقاضي سير “هارولد موريس”. أما صاحب التأثير الأكبر في لجنة “بيل” فكان البروفيسور “راجينالد كوبلاند” والذي كان صاحب آراء هجومية، ولديه قوة إقناع شديدة، كذلك كانت آراؤه داخل اللجنة نابعة من مواقف مسبقة، ويقال إن قرارات لجنة “بيل” كانت تعبر عن آرائه هو تقريبًا.
تم تعيين اللجنة على يد الملك “إدوارد الثامن” في 7 آب / أغسطس 1936، وكانت مهمتها أن تحقق في أربعة أشياء: أولًا، الأسباب الأساسية للإضراب الفلسطيني وثورته. ثانيًا، كيف من الممكن تنفيذ صكّ الانتداب على الطرفين، العرب واليهود. ثالثًا، السماع إلى شكاوى العرب واليهود. رابعًا، اقتراح خطوات عملية حتى يلغى الغبن الذي لحق بالعرب، ومنع تكراره مرة أخرى.
بعد وصول اللجنة، قامت بالتجول لمدة شهرين في كافة أنحاء فلسطين، ثم أكملت مهمتها في سماع الشهود، وجمع المعلومات في إنجلترا.
قام اليهود بفعل كل ما يمكنهم عمله، من أجل إقناع اللجنة بادعاءاتهم، ولذلك وضعوا مجموعة من الخبراء برئاسة “ليونارد ستاين”، وهو أحد قادة الصهيونية في بريطانيا، من أجل تحضير كل المواد اللازمة لقيادات الحركة الصهيونية: “حاييم وايزمان” و”دافيد بن غوريون” و”موشي شرتوك”، ليستعملوها في شهاداتهم أمام اللجنة. وقد شهد أمام اللجنة 38 صهيونيًا، وقدمت الحركة الصهيونية للجنة مذكرة مكونة من 300 صفحة. أما العرب اللذين قاطعوا اللجنة في البداية، ثم عدلوا عن هذا، فقد شهد منهم 14 شخصًا، وقدموا مذكرة من 13 صفحة فقط.
“كوبلاند” يُنبئ “وايزمان” باقتراحه للتقسيم
عقدت اللجنة 66 جلسة، 31 من هذه الجلسات كانت مفتوحة للجمهور. جلساتها الأولى كانت سريّة، وفيها قدم الموظفون البريطانيون شهاداتهم. أما أكثر الجلسات بعدها، فكانت بأغلبها من أجل الاستماع إلى شهادات ممثلي الحركة الصهيونية، وأولهم كان “حاييم وايزمان” الذي قدم شهادته في الجلسة الثامنة، وكانت هذه الجلسة العلنية الثالثة. وقدم الحاج أمين الحسيني، أول العرب الذين مثلوا أمام اللجنة، شهادته أمام اللجنة، في الجلسة رقم 56، وكان ذلك في 13 كانون ثانٍ / يناير 1937، وكان هذا التأخير بسبب المقاطعة العربية للجنة عند وصولها البلاد كما تقدم.
كانت شهادة “حاييم وايزمان” قوية من وجهة النظر الصهيونية، فقد أشار إلى الضائقة التي يعاني منها اليهود في أوروبا، وأن ستة ملايين يهودي يعيشون “مسجونين” في أماكن لا يمكنهم الخروج منها، بحيث أن العالم صار مقسومًا إلى أماكن لا يمكن لليهود العيش فيها، وهناك أماكن أخرى لا يمكنهم الدخول إليها. لذلك فإن فلسطين هي المكان الوحيد في هذا العالم الواسع، الذي يجب أن يجمع هؤلاء “المساكين”.
أما “بن غوريون”، فقد كان هجوميًا في خطابه، وادعى أن الكتاب المقدس هو بوصلتهم الوحيدة، أي اليهود، ولهم كامل الحق في الوجود داخل فلسطين، ولا يمكن لأحد أن يمنعهم عنها، لأنها الأرض الوحيدة التي يراها اليهود وطنهم القومي، و”لا يوجد أي شعب آخر يرى بأن فلسطين هي موطنه”. وصرح “بن غوريون” أمام اللجنة بأنه يريد للوطن القومي اليهودي الذي سيقام، أن يكون جزءً من رابطة الدول البريطانية.
ومثل “زئيف جابوتنسكي” أمام اللجنة في لندن، وتكلم عن دولة اليهود في فلسطين والأردن، وبناء جيش يهودي تحت رعاية بريطانية، وعن وجوب حل مشكلة يهود أوروبا. وقال للجنة أن العرب لن يعارضوا الدولة اليهودية إلى الأبد، “سترون ان العربي ذكي وعادل، وعندما تكون هناك عدة دول عربية خالصة، فإن تحويل فلسطين لدولة يهودية على يد بريطانيا، سيكون أمرًا عادلًا، يتفهمه العرب إذا غيروا نظرتهم إلى هذا الأمر”.
أما الحاج أمين الحسيني، فقد قدم شهادته أمام اللجنة في 12 كانون ثانٍ / يناير 1937، بعد ضغوط كبيرة على اللجنة العربية العليا من قبل الملوك والأمراء العرب، ومن داخل اللجنة من قبل راغب النشاشيبي للتعامل مع لجنة “بيل”. وفي شهادته عرض الحاج الحسيني المشكلة الفلسطينية، وتحدث عن وضع سكان فلسطين العرب في زمن الدولة العثمانية مقابل وضعهم في فترة الانتداب، وصرح أمام اللجنة أن وضعهم قد ساء في العصر البريطاني، مما أغضب أعضاء اللجنة. كذلك قال إن فلسطين كانت جزءاً من الأرض العربية التي وعدت بريطانيا أنها ستحصل على الاستقلال بعد الثورة العربية الكبرى. وحاول أن يوصل فكرة أن الدولة اليهودية هدفها النهائي هو هدم الأقصى وقبة الصخرة ومسجد عمر وكنيسة القيامة، من أجل بناء هيكل سليمان، ولكن ذلك أثر سلبًا على أعضاء اللجنة. وبالنسبة للحل فقد صرح أنه يكون بإنهاء الانتداب، وإعطاء الاستقلال للعرب ليقيموا دولتهم على أرض فلسطين. ولما سألته اللجنة عن وضع ال 400،000 يهودي بعد قيام الدولة العربية، رد عليها بأن المسلمين كانوا يشكلون ملاذ اليهود عبر التاريخ، من بطش أوروبا المسيحية بهم، ولكنه من ناحية أخرى، قال إن فلسطين الصغيرة المساحة لا يمكن لها أن تستوعب هذا العدد من اليهود، ولما سأله اللورد “بيل” إن كان هذا يعني أن الدولة التي ستقوم، ستهتم بتقليل عدد اليهود حتى ولو كان هذا بطرق غير عنيفة، أجابه الحسيني: “كل هذا يجب تركه للمستقبل”.
لم يستطع الحاج الحسيني أن يدحض المقولة بأن شراء اليهود لأراضي العرب كان بمحض إرادتهم، أي العرب، وأنهم لم يجبروا على ترك أراضيهم لليهود. وعن سؤال اللجنة حول التجنيد الإجباري للجيش البريطاني، كما كان الأمر في الدولة العثمانية، في حالة قيام دولة عربية تحت الوصاية البريطانية، كانت إجابته بالإيجاب بدون أي تردد.
فيما بعد أدلى جمال الحسيني، وعوني عبد الهادي، والدكتور حسين الخالدي، وعزة دروزة، وعبد اللطيف صلاح، وفؤاد سابا بياناتهم أمام اللجنة. كذلك استمعت اللجنة إلى المطران حجار، وجورج منصور، وعيسى البندك، والدكتور طوطح، وجورج أنطونيوس.
ولا بد من الذكر هنا أن البروفيسور “راجينالد كوبلاند”، الذي ذكرنا سابقًا أنه كان صاحب التأثير الأكبر على قرارات اللجنة، كان قد عرض مشروع التقسيم على “حاييم وايزمان” خلال جلسة مغلقة للجنة، وذلك قبل شهادة الحاج أمين الحسيني، إذ قال ل”وايزمان” بشكل فجائي: “ما رأيك بأنه عندما يأتي الوقت المناسب، تقسم فلسطين إلى دولتين فيدراليتين برعاية اتفاقات دولية، تصبحا فيما بعد مستقلتين كمصر والعراق، ولديهما علاقات وثيقة مع بريطانيا”. فرد عليه “وايزمان” بخبث قائلًا: “ولكن ليس هناك أغلبية يهودية واضحة، لأن مستوطناتهم موزعة في جميع أنحاء البلاد”. فردّ عليه “كوبلاند” قائلًا في نهاية الجلسة: “سيكون السهل الساحلي دولة يهودية مستقلة مثل بلجيكا، ولديها علاقات قوية مع بريطانيا. أما باقي أنحاء فلسطين والضفة الغربية، فتصبح دولة عربية مثل السعودية، هذه هي الفكرة النهائية”.
يقول سكرتير “وايزمان”، “يحزكيل سحروڤ”، بان “وايزمان” كان قد فرح بدرجة كبيرة جدًا، لم يستطع أن يخفيها بعد أن أسرّ له بما كان من اقتراح “كوبلاند”، إذ إن الدولة اليهودية التي طالما حلم بها، أصبحت فكرة في طور التنفيذ. ليس هذا فقط، بل إن “وايزمان” قام بدعوة “كوبلاند” إلى مستعمرة “نهلال” في نهاية الأسبوع الأول من شهر شباط / فبراير 1937، وذلك قبل رجوع أعضاء اللجنة إلى بلادهم، وتحدث معه طوال اليوم عن مشروع التقسيم، وفي نهاية اليوم وقبل أن يغادر “كوبلاند”، قال “وايزمان” لسكان “نهلال” الذين تجمهروا حولهم: “في هذا المكان، وضعنا أسس الدولة اليهودية!”.
تقرير توصيات لجنة “بيل”
في 7 تموز / يوليو 1937، نشرت لجنة “بيل” نتائج تحقيقاتها وتوصياتها للحكومة البريطانية. كان التقرير مجحفًا للعرب، مؤيدًا لليهود، فلم تكتفِ اللجنة بالمساواة بين قضية العرب واليهود، بقولها “إن الروح القومية عند العرب شديدة القوة، كما الحال عند اليهود”، بل إنها رأت أن القضية اليهودية هي ذات الأهمية القصوى، فالوطن القومي (اليهودي) “يجنح إلى إسراع الخطى في تقدمه، لا لمجرد رغبة اليهود في الهروب من أوروبا، بل بسبب القلق السائد حول ما سيحل بفلسطين في المستقبل”، وذلك لأن “الحكم القائم في مستعمرات التاج، لا يلائم أناسا ديموقراطيين ومثقفين ثقافة عالية، كجماعة الوطن القومي (اليهود)”. وهذا يتضمن خطابًا استعماريًا متعاليًا. واستمرارًا لما تقدم، وصفت اللجنة اليهود في بند الأراضي، بأنهم “عنصر وافر الذكاء والنشاط، مدعم بمقادير كبيرة من المال”، وهذا العنصر “على اصطدام دائم مع شعب متوطن في البلاد، ولكنه يعتبر فقيرًا بالنسبة إلى ذلك العنصر (أي اليهود)، ويختلف عنه في مستوى الثقافة، وهذا من شأنه أن “يؤدي مع الزمن إلى رد فعل خطير”. أي إن التقرير كان قد اختزل نضال العرب ضد إقامة الوطن القومي لليهود، بأنه ناتج عن مستوى متدنٍ من الثقافة والفهم وإدراك الجدوى الاقتصادية من قدوم اليهود إلى البلاد، حيث إن العرب يدعون أن “قدرة البلاد الاقتصادية لا يمكنها استيعاب المهاجرين، دون أن يكون لغير هذه الاعتبارات الاقتصادية شأنًا في ذلك، وهو مبدأ غير ملائم في الوقت الحاضر”. بناءً على هذا فقد أوصت اللجنة بأن تحدد هجرة اليهود في الخمس سنوات القادمة بحيث لا يزيد عددهم عن 12،000 مهاجر سنويًا وذلك لتهدئة العرب، علهم يفهمون فيما بعد أهمية الهجرة اليهودية إلى البلاد، لأن”الوطن القومي لليهود تعتمد حياته الاقتصادية إلى حد بعيد على استمرار الهجرة”. وأشارت اللجنة في تقريرها أن “اللجنة لا يمكنها أن توافق على الرأي القائل بأن الدولة المنتدبة بعد أن سهلت إنشاء وطن قومي، لها ما يبررها في إغلاق أبوابه”.
وعزت اللجنة “أن عدم كفاية الأراضي يعود إلى تكاثر العرب أكثر مما يعود إلى ابتياع الأراضي من قبل اليهود”. رغم ذلك رأت اللجنة أنه “يجب أن لا يسمح بانتقال الأراضي (إلى اليهود)، إلا حيثما يمكن استبدال الزراعة الواسعة بالزراعة الكثيفة”. وكذلك “يجب على الحكومة أن تعمد، في الوقت الحاضر، وليس بعد مضي عدد كبير من السنين، إلى تسهيل حشد اليهود في المناطق الجبلية”، حتى يتم “تحريج الأراضي على مقياس واسع، ولزوم وضع برنامج بعيد الأمد لإنشاء الغابات”.
وحسب اللجنة أنه “لا يمكن حل المشكلة بمنح العرب أو اليهود كل ما يصبون إليه”، وأن من سيحكم فلسطين في النهاية هو “لا هذا ولا ذاك”، وليس “في إمكان أي من هذين العنصرين أن يتولّى حكم فلسطين بأسرها بإنصاف”، ولذلك اقترحت اللجنة “فكرة التقسيم، والتي قد أهملت في السابق على اعتبار أنها ليست عملية، فالتقسيم تلازمه مصاعب جسيمة”، أما اللجنة فقد رأت “أنه إذا درست هذه المصاعب درسًا دقيقًا، فلن تبدو بأنها مما يتعذر التغلب عليه”، حيث إن هذه المصاعب تساوي “مصاعب بقاء الانتداب أو أي تدبير آخر”، أما التقسيم فمن شأنه أن “يفسح مجالًا لتوطيد السلام في النهاية”، وهذا “ما لا يمنحه أي مشروع آخر”، ولهذا اقترحت اللجنة أن يتم تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: عربي يكون جزءاً من إمارة شرق الأردن، بحيث تتحول هذه إلى مملكة تربطها علاقات وثيقة مع بريطانيا، ويشمل هذا الجزء مناطق غزة وبئر السبع وصحراء النقب والخليل ونابلس، والقسم الشرقي من مناطق طولكرم وجنين وبيسان، ويضم إليه مدينة يافا؛ لأن “يافا في جوهرها مدينة عربية، ويجب أن تكون جزءًا من الدولة العربية”.
أما الجزء اليهودي، فيرتبط أيضا بمعاهدة مع بريطانيا، ويشمل الساحل من حدود لبنان إلى المجدل وسهول سارون ومرج ابن عامر وبيسان ومنطقة الجليل الشرقية ومنطقة الجليل الغربية، فالحدود المقترحة “تستلزم إدخال أراضي الجليل الجبلية الواقعة بين صفد وسهل عكا في المنطقة اليهودية”، وذلك لأن هذا القسم من فلسطين “هو الجزء الذي احتفظ اليهود بمقام لهم فيه، بعد تشتتهم حتى اليوم”، أما “عواطف اليهودية العالمية بأجمعها، فإنها متعلقة كل التعلق بمدينتي صفد وطبرية”.
يكون الجزء الثالث منتدبًا من قبل بريطانيا نفسها، ويشمل مناطق مدن القدس وبيت لحم والناصرة وممرًا من القدس إلى يافا العربية، ويشمل هذا الممر اللد والرملة. كذلك رأت اللجنة بوجوب بقاء عكا وحيفا وطبريا وصفد منتدبة لفترة من الزمن.
كانت توصيات اللجنة الملكية مجحفة، بشكل كبير، بحق العرب الذين كانوا يمثلون نصف عدد سكان المنطقة اليهودية المقترحة، ويملكوا ثلاثة أضعاف مساحة الأراضي التي يمتلكها اليهود في المنطقة المخصصة لهم حسب التقرير، أما المنطقة العربية، فلم يكن يعيش فيها إلا 7،200 من اليهود مقابل حوالي نصف مليون عربي. كذلك فإن المنطقة العربية كانت تحتوي على أكثر من ثلاثة ملايين دونم زراعي، بما يعادل، تقريبًا، مساحة الأراضي الزراعية في المنطقة اليهودية.
وحتى “يذلل” اقتراح اللجنة الصعوبات التي تحدثت عنها عندما أشارت إلى فكرة التقسيم، وحتى “يكون للتقسيم أثره الفعال في الوصول إلى تسوية دائمة، فيجب أن لا يكون تطبيقه مقتصرًا على ترسيم حدود وتأسيس دولتين، بل يجب أن يشرع، آجلًا أو عاجلًا في تبادل الأراضي وتبادل السكان بالقدر المستطاع”. كذلك أشارت اللجنة إلى “أن وجود الأقليات هو من أعظم العقبات التي تقف في سبيل تنفيذ مشروع التقسيم”، ولذلك “وجب أن تجابه هذه المشكلة بجرأة، وأن تعالج بحزم”. وهذا يعني تهجير العرب القاطنين في الدولة اليهودية إلى الدولة العربية، أي مبادلة 7،200 يهودي بأكثر من 350 ألف عربي.
موقف بريطانيا واليهود من تقرير لجنة “بيل”
في نفس يوم نشر تقرير لجنة “بيل”، أصدر المندوب السامي بيانًا يشيد فيه بتقرير اللجنة الملكية، ويدعو السكان إلى سماع “الحجج الموزونة التي حدت بأعضاء اللجنة الملكية الستة، وهم الخبيرون والمنزهون عن الغرض …”، وطالب أهالي فلسطين “أن لا يكونوا رأيهم فيها (أي الحجج والاستنتاجات)، إلا بعد مدة من التفكير”. ودعا أعضاء اللجنة العربية العليا إلى الاجتماع به في اليوم التالي صباحًا من أجل بحث أمر تقرير اللجنة. في هذا البيان حدد المندوب السامي موقفه الواضح بتأييد التقسيم واستنتاجات اللجنة الأخرى.
أما في بريطانيا، فقد تحدد يوم 21 تموز / يوليو 1937، لبحث تقرير اللجنة في مجلس اللوردات، وفي اليوم التالي في مجلس النواب. وأظهر البرلمان البريطاني عدم تحمسه لمشروع التقسيم، وذلك أن قسمًا من اللوردات والنواب لم يجدوا أن هذا الحل سيكون عمليًا، مما أدّى إلى فتور تأييد الحكومة البريطانية نفسها للتقسيم، رغم حماسة حكومة فلسطين لهذا الأمر. في نهاية الأمر، لم تستطع الحكومة أخذ موقف صريح من موضوع التقسيم؛ بسبب معارضة قسم من البرلمانيين، فقدم “وينستون تشرتشل” اقتراحًا مفاده أن تذهب الحكومة إلى عصبة الأمم، وتعرض عليها المشروع، فان قبلته عصبة الأمم تقدم الحكومة للبرلمان مشروعًا متكاملًا.
في عصبة الأمم في “جنيف”
تناقش مندوبو الدول موضوع التقسيم من نهاية تموز / يوليو 1937 حتى نهاية آب / أغسطس 1937، ووصلت النقاشات على أثره إلى أن مشروع قيام دولتين ليس عمليًا، ولكن إن كان هو الحل الوحيد المتبقي، فمن الممكن تجربته على أن تسبقه فترة انتقالية طويلة، حيث لا يمكن إنشاء دولتين حاليًا. وبهذا بقي مشروع التقسيم بدون جهة دولية مخولة، تعمل على المساعدة في تحقيقه.
أما اليهود، فلم يكونوا موحدّين حول رأي واحد حول توصيات اللجنة الملكية، فأما “حاييم وايزمان” السياسي الصهيوني الأول، وسكرتير الوكالة الصهيوني العالمية، فقد كان متحمسًا للتقسيم، لأنه رأى فيه تحقيقًا للحلم الصهيوني، رغم ذلك وبعد إصدار تقرير اللجنة، صار ينظر إلى المشروع المقترح بكثير من النقد، ولكنه استمر في تأييد فكرة التقسيم، بل إنه عمل جاهدًا من أجل إقناع المؤتمر الصهيوني العشرين المنعقد في “زيوريخ”، من 3 إلى 17 آب / أغسطس 1937، بضرورة الموافقة على مشروع التقسيم، ونجح في ذلك بالفعل، فكان قرار المؤتمر على النحو التالي: “لا يقبل الكونغرس باقتراح التقسيم حسب الصيغة التي أتت بها لجنة بيل. ولهذا يخول المجلس الإدارة إلى الدخول في مفاوضات مع حكومة جلالته، لمعرفة الشروط الدقيقة من أجل تأسيس الدولة اليهودية”، وإن كان “هناك خطة واضحة من أجل قيام الدولة اليهودية، بحيث تعرض الخطة على مجلس صهيوني، ينتخب خصيصًا لبحث هذا المقترح”.
بعد انتهاء اجتماع المؤتمر الصهيوني، اجتمع أعضاء مجلس الوكالة الصهيونية، وأعلنوا موافقتهم على ما أقرّه المؤتمر الصهيوني، رغم النقاشات الحادّة داخل المجلس.
الموقف العربي من تقرير لجنة “بيل”
رفضت اللجنة العربية العليا مشروع التقسيم بشكل علني في بيان أصدرته في 8 تموز / يوليو 1937، بعد اجتماع مطول بحثت فيه “ما نشر من تقرير اللجنة الملكية وسياسة الحكومة البريطانية المتضمنين تقسيم البلاد …”، “وإنشاء دولة يهودية في أخصب قسم من البلاد”، ورأت اللجنة أن “هذه البلاد لا تخص عرب فلسطين فحسب، بل العالمين العربي والإسلامي قاطبة”، لذلك ارتأت اللجنة أن “تبادر حالًا بالاتصال بهم (أي أصحاب الجلالة والسمو، ملوك العرب وأمرائهم وزعماء الأمم الإسلامية)، كما ترى من واجبها التشاور مع أصحاب الرأي” في البلاد. ودعت اللجنة “الشعب العربي الكريم المؤمن بحقه الثابت على مطاليبه … أن يظل محافظًا على عهده وميثاقه الوطني…”.
في ذات اليوم، بعثت اللجنة ببرقيات مستعجلة للملوك والزعماء العرب لتوضح فيها أن “الشعب العربي في فلسطين، يرجو من جلالتكم التعضيد والإرشاد في هذا الموقف التاريخيّ العصيب، ويناشدكم بقداسة هذه البلاد والشهامة العربية ….”، “أن تعملوا على إنقاذها من شرور الاستعمار والتهويد والتمزيق”.
رفض الزعماء العرب اقتراح التقسيم وتقرير اللجنة الملكية، وكان أول من أبرق إلى اللجنة العربية العليا رافضًا للتقسيم هو رئيس وزراء العراق، أعلن أن حكومته ستقوم بمقاومة تنفيذ توصيات اللجنة. كذلك أعلنت الحكومة المصرية عن رفضها للتقسيم، وتأييدها للفلسطينيين، وأعلن ملك السعودية وملك اليمن عن معارضتهما للتقسيم، كذلك رئيس وزراء سورية.
أما أمير شرقي الأردن، فلزم الصمت إزاء مشروع التقسيم، ولم تصرح حكومته بأي رأي يخص هذا الأمر.
أما على الصعيد الشعبي، فقد عمت المظاهرات الرافضة للتقسيم مدن الحجاز: الطائف ومكة والمدينة وجدّة وينبع، ثم عمت كافة المدن في السعودية. وأعلن إضراب عام في كافة المدن السورية، وقد شاركت فيه بعض المدن اللبنانية. وعم الإضراب عمان، وجرت فيها مظاهرات كبيرة، ووردت برقيات كثيرة من المغرب العربي برمته، وحتى إن مسلمي الهند قاموا بالتظاهر واستنكار التقسيم ورفضه.
المصدر: عرب 48