من حرب حزيران إلى الربيع العربيّ… سؤال المصير
أعادت حرب حزيران/ يونيو 1967، طرح السؤال مجددًا على العرب: لماذا هُزمنا، ولماذا تأخرنا ولماذا لم ننهض؛ هل هو عطب ذاتي في “الشخصية العربية” و”العقل العربي”؟ هل هو خلل في التراث الذي لا يعرف إلا الاستبداد وحكم السلطان والعصبية الطائفية والقبلية، ولا يتناسب مع الحداثة والتقدم والديمقراطية؟
في أعقاب “النكسة”، تحوّل سؤال الحداثة والتقدّم عند العرب إلى سؤال ثقافي حضاري، استشراقي إلى حد كبير، واجتهد المثقفون العرب إما بجلد الذات، أو بالبحث عن عُقدة في التراث، أو في نقد الدين، أو في البحث عن المادية في الإسلام، كما فعل ماركسيون، أو التحليل “النفسي” لـ”الشخصية العربية” و”العقل العربي”؛ وقلّة قليلة منهم طرحت السؤال السياسي، عن الديمقراطية والاستبداد والنخب والاستعمار.
وجاءت الثورات الإصلاحية العربية في العام 2013، كما يسميها عزمي بشارة، وما تبعها من قمع دموي وتهجير وتطرف ديني، لتنسف إلى حد كبير، كل الأجوبة “العقلانية” عن سؤال الهزيمة والتخلف والتأخر؛ وقد انعكس ذلك أيضًا على مستويين: الأول، تراجع إلى حدّ الاختفاء لمشاريع سياسية قومية ويسارية، لم تصمد مقولاتها أمام الحراك الشعبي العربي الواسع؛ والثاني، وكأنه انسداد معرفي عربي أدّى إلى تراجع، حتى على مستوى الإنتاج الجدي والحقيقي، الذي يعالج الراهن. فالربيع العربي كان بمثابة تحوّل في البرادايم كما حدده توماس كون، وعلى كافة المستويات، سياسيًا ومعرفيًا؛ لذا، أصبحت المشاريع السياسية، سواءً القومية أو اليسارية أو الإسلامية، عاجزة عن الواقع، وغير قادرة على تجاوزه. فالمقولات الكبرى للمشاريع القومية واليسارية، أو للدقة حاملي هذه المقولات، بدوا عاجزين في وقت المحكّ، وفي وقت الحراكات الشعبية الواسعة، وكذلك الحركات الإسلامية، التي كان دورها مرحليا، لكنها عجزت عن الارتقاء لمستوى الحدث والزمن. ويمكن وضع المصالحة بين الأنظمة العربية مؤخرًا في هذا الإطار، محاولة تجاوز الواقع مع الحفاظ على “البرادايم القديم”.
لقد طرح الواقع تحديات وأسئلة كأنها جديدة، وأكثر تعقيدا، فلم يعد السؤال عن النهضة العربية، والتنوير، والتراث والحداثة، والدين والعلم، والإسلام والديمقراطية، ولا العقل العربي والشخصية العربية، ولا عن الوحدة العربية، أو الطبقية أو جذور المادية في الإسلام، بل إن السؤال جديد – قديم، وهو عن العلاقة ما بين الاستبداد والاستعمار والنخب، وهذه العلاقة انعكست بشكل واضح في عدوان حزيران 1967، فهي لم تكن مجرّد حرب إسرائيلية توسعية، بل كانت حرب إجهاز على مشروع عربي استقلالي عبّر عنه جمال عبد الناصر. وهذا ليس ادعاء ناصريًا، أو تحليلا سياسيا، بل هو واقع تاريخي، يتجاوز إطار “الصراع العربي – الإسرائيلي”، إلى السياق الاستعماري الغربي؛ فلا يجوز مثلا التركيز -كما يحصل مؤخرا- على وصف إسرائيل بأنها مشروع استعماري استيطاني، ونزع ذلك عن الإطار أو السياق الأوسع، وهو الاستعمار الغربي، لكن دون شعارات ومقولات خشبية عن الاستعمار، لا تفيد، ولا ينتج عنها أي شيء، بل قد تشوّش رؤية الواقع التاريخي للمنطقة العربية.
إن ما مرّ به العرب في العقد الأخير، هو انفجار وزلزال على كافة المستويات، بما فيها المعرفية، وقد ذهب بمجهود فكري عربي، امتدّ إلى نصف قرن، إلى المكتبات، والخطابات السياسية الكبرى إلى الأرشيف، فقد كان الواقع واضحًا جليًا، أو كما قال ماركس في تحليله لانقلاب نابليون الرابع عشر على فرنسا الثورية: “هنا رودوس، فلتقفز هنا” (Hic Rhodus, hic salta)، لكن جرى الانشغال بالتأويل والتعقيد، وجرى الانفصال عن الواقع والشعب، وهذا ما كتب عنه مؤخرًا برهان غليون في إنتاج جديد.
سؤال المصير
في كتابه الجديد، “سؤال المصير – قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – الدوحة، بيروت، نيسان/ أبريل 2023)، يتناول برهان غليون هذه المسائل في نحو مئتيّ صفحة، ويبيّن العلاقة ما بين الاستعمار والاستبداد والنخب، ويظهر كيف حارب الغرب الاستعماري، كل محاولة عربية للتحديث والتقدم والاستقلال، منذ مصر محمد علي، مرورًا بعبد الناصر، وصولا لعراق البعث وصدام حسين. ويؤكد أن العرب ورجال الدين تحديدًا، لم يقاوموا التحديث والتقدم، بل إن النخب العربية بما فيها الثقافية، قد ساهمت في إنتاج “حداثة رثّة”، وحوّلت العقل والعلمانية إلى دين جديد، وصوّرت الشعب على أنه كسيح وأن التراث هو علّة التخلف، وقد وُصف هذا السلوك من المثقفين، بأنه “الجهاد في غير عدو”، أو أنه “خلع لأبواب مفتوحة”، ما أنتج ردة فعل عكسية لدى الشعوب التي اعتبرت أفكار وقيم الحداثة، مرادفة للاستبداد السياسي والتعسف، والاعتداء على معتقداته، فيما أراد الغرب تحويل الشعوب العربية إلى شعوب كسيحة، وهو ما أطلق عليه “الحداثة المغدورة، أو كيف صنع الغرب الشرق الكسيح”.
لقد وصفت عدة مراجعات لكتاب غليون الجديد، بأنه يطلق مرحلة جديدة في النقاش المعرفي والفكري العربي في أعقاب الربيع العربي، ويعيد تأطير الأسئلة حول واقع العرب، فهو كما يحمل الاستعمار الغربي المسؤولية عن واقعنا، فهو يحمّل كذلك الأنظمة والنخب، مسؤولية ترسيخ الواقع السياسي والاجتماعي المتخلف والتابع، وانعدام المواطنة المتساوية والديمقراطية. ويقول في إحدى استنتاجاته: “يستدعي ذلك القضاء على النظام العربي الاجتماعي الذي قام وما يزال على مبدأ الوصاية المركّبة: وصاية الغرب على مصير الدول والأنظمة الحاكمة، ووصاية الدول على شعوبها، ووصاية المثقفين على الفكر والرأي والعقيدة، ووصاية رجال الدين على الضمير والإيمان والاعتقاد”، وذلك بهدف إعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية. إذ يرى أن هذه “الوصاية المركبة”، “هي البيئة التي أنتجت حركات التمرّد والاحتجاج الإسلاموية، التي لم تتوقف خلال نصف القرن الماضي، والتي انتهت بالثورات الشعبية التي عجزت عن إنجاز أهدافها لغياب النخب المثقفة والسياسية، أو بالأحرى قطيعتها مع شعوبها”.
إن كتاب غليون يوفر على القارئ، أو الباحث الوقت في الغرق في مناقشات وتنظيرات فكرية لنصف قرن عن أسباب تأخُّر العرب؛ نقاشات وتنظيرات مغاربية ومشرقية، قد تكون مهمة في تخصّصها العيني مثل التراث، لكنها في العامّ، “تخلع أبوابًا مفتوحة”، ولا تجيب عن سؤال واقعنا السياسي والاجتماعي.
المصدر: عرب 48