من سيرة دير بلح النخيل المدمّى
لم يعد أحد يتذكّر الاسم القديم لتلك القرية، الّتي صارت “دير البلح”، فقد كانت تسمّى قديمًا “الداروم أو الدارون” بعامّيّة أهالي غزّة (1). والداروم، ليست نقلًا عن العبريّة كما قد يظنّ السامع أو القارئ، إنّما هي الداروم منذ زمن الكنعانيّين واشتقاقًا عن الكنعانيّة والّتي تعني “الجنوب”، لأنّها واقعة جنوبيّ غزّة المدينة، وفي أقصى جنوب برّ الشام على حافّة البحر المتوسّط، حيث اعتبرت باب غزّة من جنوبها، فقيل “باب الداروم”، كما أطلق على دير البلح الّتي أقيمت لاحقًا عند باب الداروم تسمية ” أوّل الرمل” (2) في إشارة إلى رمال صحراء سيناء الّتي تفصل البرّين الشاميّ والمصريّ عن بعضهما.
كان الداروم، من أقدم مواقع التوطّن في منطقة غزّة تمامًا مثل “تلّ العجول” الواقع للجنوب منه، ولمّا قرّر القدّيس هيلاريون إقامة منسك للغزيّين المتنصّرين في زمن غزّة الوثنيّة سنة 290م، أقامه على باب الداروم المطلّ على البحر، وأطلق عليه اسم “دير الروم”، فكان أوّل وأقدم دير للرهبان يقام في ديار غزّة في حينه (3)، وهناك من ظنّ أنّ تسمية الداروم نحتًا لتسمية دير الروم، فيما الصحيح هو أنّ الداروم تسمية سابقة على إقامة دير الروم، إلّا أنّ مسمّى الموقع صار مقترنًا بالدير بعد إقامته، وفي بيت شعر يعود إلى يوم الفتح العربيّ – الإسلاميّ لديار غزّة، جاء على لسان زيد بن حنظلة التميميّ… يقول فيه:
ولقد شفى نفسًا وأبرأ سقمها
شدّ الخيول على جموع الروم
يضربن سيّدهم ولم يمهلنهم
وقتـلن فلهـم إلى داروم… (4).
إنّ شهرة “النبيذ الغزّاوي” الّذي تحدّثت عنه بطون الكتب، هو ذلك الّذي كان يجري تخميره في الداروم تحديدًا، وقد احترف رهبان دير الروم في داروم غزّة الّذين قيل بأنّ تعدادهم تجاوز الألف راهبًا تقطير العنب وتخميره نبيذًا، ثمّ توريده من غزّة إلى فرنسا والمدن الأوروبّيّة (5)، بعد أن اشتهرت غزّة وكذلك عسقلان بزراعة الكرمة على رمالهما منذ ما قبل الفتح العربيّ – الإسلاميّ، إلى الحدّ الّذي صار فيه نبيذ الداروم مضرب مثلًا. فهذا الشاعر إسماعيل بن يسار النسائيّ يقول في أحد أبياته فيه:
كأنّني يوم ساروا شارب سلبت
فؤاده قهوة من خمـرة دارومِ (6).
ولمّا احتلّ الصليبيّون في حملاتهم البلاد وساحلها، ومنها غزّة في سنة 1100م، استوطنوا دير الداروم (دير البلح) وأقاموا فيه سنة 1149م قلعة مشهورة ذات أبراج أربعة في كلّ زاوية للدفاع عنها. هدم صلاح الدين الأيّوبيّ القلعة والدير، وكلّ حجر في الداروم بعد تخليصها من أيدي الصليبيّين سنة 1192م (7). وكانت هذه اللحظة الزمنيّة الفارقة من تاريخ التحوّل الّذي طرأ على الداروم بإرثه المتّصل بالتنسّك، وتقطير الخمر إلى مرحلة الدير المهجور إلّا من نخيل التمر. ففي الوقت الّذي لم تعد فيه منارة قلعة الدير بعد هدمها، علامة يهتدي بها بحارة السفن الراسية، بات نخيل البلح هو الدليل الّذي يدلّ بحارة غلايين البحر على شاطئ الدير.
النخيل
لم يسبق، وأن استرخى غرس في ذاكرة رمل الجنوب، مثلما استرخى نخيل البلح. فالنخلة كانت الشجرة الأشدّ حضورًا في قاموس الناس ونظامهم الرمزيّ ما بين دير البلح والعريش جنوبًا على حافّة البحر. والموت وقوفًا، بما يعنيه من صبر وثبات في شيم وقيم أهل الرمال، مستمدّ من طبيعة نخلة البلح الّتي لا تموت إلّا واقفة. وتسمية الدير بالبلح بدل الداروم، مردّها إلى كثرة نخيل الدير وشهرته، وحتّى تسمية العريش الساحليّة شماليّ سيناء متّصلة بعرائش بيوت أهلها المبنيّة تاريخيًّا من سعف نخيل البلح المشهور فيها.
ليس النخيل طارئًا على رمال ساحل فلسطين، فهو قديم قدم البشر فيه، وقيل إنّ اسم فينيقية يعني “بلاد النخيل” (8). وقد اعتبر الشاميّون القدماء وكذلك المصريّون النخلة شجرة “الحياة في جنّة عدن”. وفي سيناء جبل معروف بـ “جبل سربال” من أشهر جبالها بعد جبل موسى، والمطلّ على مدينة الطور. يقال إنّ اسم الجبل “سربال” مشتقّ من “سرب بعل أو نخيل الإله بعل” في إشارة إلى نخيل بلح فيران على سفحه، حيث كان بدو سيناء يحجّون إليه، ويقدّسون نخيله (9).
احتفى أهالي غزّة ودير البلح ورفح وحتّى العريش، ببلح النخيل رطبًا قبل أن يجفّ ويصير تمرًا، وهذا الشيخ الطباع في معرض حديثه عن دير البلح في كتابه، يشيّد ببلح نخيلها بالقول: “وبلحها ممّا يؤكل رطبًا ويدّخر جافًّا، فكانوا يقتاتونه في سنين المحلّ وأوقات الشدائد والحصار” (10).
لم يترك بلح الدير أهله يومًا، خصوصًا في المآسي والملمّات الّتي دارت على غزّة وديارها. والبلح “الحيّاني” الّذي ذاع صيته في الدير، لحمار لونه القاني، حكاية شعبيّة متّصلة بالحرب والدم تناقلتها الأجيال في دير البلح منذ زمن.
بلون الدم
يقول أهل الدير في حكايتهم، إنّ بلح نخيلهم لم يكن أحمر إنّما أصف بلون الذهب. وقد ولد نخيلهم مع ولادة قريتهم الدير الّتي تسمّت به بعد تدمير قلعة الداروم في زمن صلاح الدين. كانت النخلة حين تشيح بطولها معانقة السماء، تبدو مثل عمامة سماويّة مذهّبة بالبلح، لتدلّ غلايين البحر (السفن) على شاطئ الدير وترسو فيه.
تعوّد أهل النخيل على قطف بلحهم رطبًا، ما بين أواسط أيلول ومطلع تشرين أوّل من كلّ عام. وفي أيلول ذلك العام الّذي لم ينم فيه أحد من أهالي الدير بحسب ما ظلّت ترويه مسنّات القرية، وقفت غلايين البحر في عرضه، دون أن تقترب من الشاطئ على غير عادتها. باتت الغلايين الليل كلّه، ترقب نخيل الدير من عرض البحر، وفي صباح اليوم التالي اقترب غليون منها، وعلى متنه ثلّة رجال ملوّحين بسكاكينهم وسيوفهم متوعّدين أهل النخيل، ومطالبين إيّاهم بتسليم الذهب المعلّق في نخيلهم. إذ تبيّن أنّهم من قراصنة مالطة الّذين لم يكن ساحل البلاد يسلم منهم في حينه، وقد خمّنوا البلح الأصفر ذهبًا، فأرادوه سلبًا.
“هذا بلحنا الأصفر، ونعيش منه” قال أهالي الدير للقراصنة ساخرين، ولمّا هم القراصنة لقطعه، استنفر أهالي الدير بالحجارة وطردوهم. في ذات الليلة هاجمت غلايين القرصان الدير ونخيله، وكان الأهالي قد استعدّوا وأعدّوا من جريد النخل عصيًّا للدفاع عن حرمة دير ديار نخلهم.
دار اشتباك، فكانت أكبر معركة دامية على حرمة النخيل جرت تحته، وممّا يروى أنّ نساء الدير كنّ يهزجن: “يا بلحنا بالأحمر مدمّى… أصفر ذهب اسم على مسمّى…” وذلك لدبّ الحمية والحماسة في عروق رجالهنّ المقاتلين.
سقط من أهالي الدير شهداء، ولا أن يسقط البلح عن نخيلهم سلبًا، وذلك في وقعة بلّل فيها الدم رمل أرض الدير، وخضّب بلح نخيله الأصفر بلونه الأحمر. ومنذ ذلك العام ونخيل دير الداروم يثمر بلحًا بلون الدم تكريمًا وتخليدًا لشهدائه، فصار اسم الدير “دير البلح” (11).
في المواسم
لم يبق من الداروم بعد خرابه غير موسمه الّذي ظلّ عامرًا في دير البلح، ويطلق عليه على أهالي غزّة أحيانًا “موسم الدارون”، وهو موسم يصادف عيد الفصح أو عيد القيامة. غير أنّ معظم أهالي غزّة بمسيحيّيها ومسلميها كانوا يقصدون هذا الموسم بعد صبغ البيض وصنع كعك الموسم المحشوّ بعجوة تمر نخيل الدير والعريش.
في شهر تشرين أوّل من كلّ عام، وبعد انتهاء أهالي الدير من قطاف بلحهم الحيّانيّ (الأحمر) كان بعضه ينقل على ظهر الجمال جنوبًا نحو دير طور سينا. مع العلم أنّ بلاد صحراء التيه (سيناء) كانت غنيّة بنخيل البلح في العريش وغيرها، إلّا أنّ رهبان دير الطور قد آثروا بلح دير البلح الأحمر مخصوصًا لاستخراج العرق والسبيرتو منه (12)، فيما يحمل أهالي غزّة والدير بلح العريش المجفّف في جلد المعزى بعد دهنه بالزيت أو السمن ليظلّ صالحًا، إلى ديارهم طمعًا فيما يعرف بـ “عجوة العريش” المشهورة الّتي كان يصنع منها كعك المواسم والأعياد في كلّ بلاد غزّة وسيناء.
كانت أكبر ملمّة ألمّت بنخيل بلح دير البلح في الحرب العظمى الأولى (1914-1918)، حين قطع الأتراك شجر النخيل ليصنعوا منه سقوفًا لمتاريسهم في جبهة غزّة. وقد كان الجيش ومتطوّعيه أيضًا يأكلون لبّ النخيل، يسمّونه “الجمار”، وهو مادّة بيضاء اللون طيّبة الطعم، ومن أجل الحصول عليها كان لا بدّ من قطع الشجرة؛ لأنّ اللبّ متوفّر في رأسها (13). وكان نخيل عريش سيناء، قد تعرّض لنكبة مشابهة من قبل في زمن حروب الصليبيّين، حين غزوا العريش، وقطعوا نخيلها وحملوه خشبًا عبر البحر إلى بلادهم (14).
ما يزال تمر بلح نخيل دير البلح وسيناء يحمل مع أهله في غزّة إلى يوم حربهم هذا، إذ يرافق البلح المقاتلين في الأنفاق والخنادق تمامًا كما لم ولن تتخلّى البنادق، مستعرًا البلح تمرًا بسعراته المدمّاة حرارة.
إحالات:
(1) الطباع، الشيخ عثمان مصطفى، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي هاشم، مكتبة اليازجي، غزّة، 1999، ج1، ص151.
(2) المبيض، سليم عرفات، غزّة وقطاعها: دراسة في خلود المكان… وحضارة السكّان، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1987، ص260.
(3) الطباع، المرجع السابق، ج1، ص151.
(4) المرجع السابق، ج1، ص153.
(5) المبيض، سليم عرفات، المرجع السابق، ص 205.
(6) الطباع، المرجع السابق، ج1، ص153.
(7) العارف، عارف، تاريخ غزّة، دار أضواء السلف، ص 136.
(8) ج. كونتنو، الحضارة الفينيقيّة، ترجمة: محمّد عبد الهادي شعيرة، شركة مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، 2001، ص30.
(9) شقير، نعوم، تاريخ سينا والعرب، مؤسّسة هنداوي، المملكة المتّحدة، 2018، ص33.
(10) الطباع، المرجع السابق، ج1، ص154.
(11) حكاية “البلح الأحمر” الشعبيّة في دير البلح، تناقلها أهل الدير منذ أجيال، وقد كتبت على شكل قصّة قصيرة. راجع: محجوب عمر، البلح الأحمر، دار الفتى العربيّ: سلسلة الأفق الجديد، 1985.
(12) شقير، نعوم، المرجع السابق، ص256.
(13) العارف، عارف، المرجع السابق، ص287.
(14) شقير، نعوم، المرجع السابق، ص196.
المصدر: عرب 48