من لجنة التقسيم 1938 حتى تشكيل اللجنة الأنجلو أميركيّة 1945 (32/6)
بعد انطلاق الثورة من جديد أواخر عام 1937، أعلنت حكومة بريطانيا في الرابع من كانون ثانٍ / يناير 1938، عن نيتها إرسال لجنة فنية إلى فلسطين، تكون مهمتها محصورة في النظر في تفاصيل إمكانيات تنفيذ اقتراح التقسيم الذي قدمته لجنة “بيل” في حينه، وكان مرفوضًا بشكل قاطع من قبل العرب، مما أدّى بهم، أي العرب، إلى العودة إلى الثورة المسلحة من جديد. في نهاية شهر شباط / فبراير 1938 تم تعيين أعضاء اللجنة الفنية. كان رئيس اللجنة هو السير “جون وودهيد”، أما أعضاء اللجنة فكانوا السير “أليسون راسيل”، والسيد “بارسيڤال واترفيلد”، والسيد “توماس رايد”.
وصلت اللجنة إلى فلسطين في 27 نيسان / أبريل 1938، وكانت الثورة قد أصبحت مشتعلة بكل قوّة، كذلك فإن وصولها كان بعد شهر من تعيين مندوب سامي جديد وهو السير “هارولد ماكمايكل”، وكان هذا بعكس المندوب السامي السابق “واكهوب”، يعتقد أن مستقبل بريطانيا مرتبط بتحالفها مع العالم العربي والإسلامي. أمضت اللجنة، والتي سميت على اسم رئيسها أو لجنة التقسيم، الثلاثة أشهر القادمة في بحث موضوع التقسيم المقترح من قبل لجنة “بيل”، ولم تلتقِ اللجنة مع أي ممثل للعرب في فلسطين، بل إن كل لقاءاتها كانت مع ممثلي اليهود والحكومة. غادرت اللجنة البلاد في الثالث من آب / أغسطس 1938، والثورة الفلسطينية قد وصلت ذروتها وأوج قوتها.
نشرت اللجنة نتائج بحثها في التاسع من تشرين ثاني / نوفمبر 1938، الذي خلصت فيه إلى استحالة تنفيذ اقتراحات لجنة “بيل”، حيث إنها لم توافق على مبدأ طرد العرب من المنطقة المخصصة للدولة اليهودية، كما جاء في اقتراحات لجنة “بيل”، بل إن اللجنة خلصت إلى أن الدولة اليهودية يجب أن تضم أقل عدد من العرب وأقل مساحة أراضٍ عربية، ولتحقيق هذا يجب تصغير مساحة الدولة اليهودية المقترحة، بحيث يضم الجليل الأوسط والغربي إلى الدولة العربية، وليس كما اقترحت لجنة “بيل” بضم كل الجليل إلى الدولة اليهودية، ورغم ذلك كان ما يزال هناك حوالي 190 ألف عربي في الدولة اليهودية مقابل 300 ألف يهودي، وبذلك يشكل العرب حوالي 40٪ من الدولة اليهودية. كذلك كان للعرب أكثر من ثلثي الأراضي الزراعية للدولة اليهودية المصغرة والمقترحة من لجنة التقسيم.
وفي اقتراح آخر للجنة، وبسبب الإشكالية المذكورة أعلاه، تم تصغير الدولة اليهودية أكثر، بحيث تكون مساحتها مليون وربع دونم، وتقع بين مستعمرة “زخرون يعكوڤ” شمالًا، حتى مستعمرة “رحوڤوت” جنوبًا، وتشمل تل أبيب وما يجاورها. بينما تكون الدولة العربية عبارة عن 7،4 ملايين دونم، وتشمل مدينة يافا – الواقعة داخل حدود الدولة اليهودية- ومرج ابن عامر، ومنطقة الكرمل، وجبال السامرة، وجبال الخليل، وسهل غزة. أما الجليل والنقب وجيب منطقة القدس، فيبقوا تحت الانتداب البريطاني.
توصلت الحكومة البريطانية، مع إعلان توصيات لجنة “وودهيد” إلى نتيجة مفادها أن التقسيم غير عملي، ولا يمكن تنفيذه على أرض الواقع، ولذلك أصدرت في نفس يوم إصدار توصيات اللجنة بيانًا أعلنت فيه تخليها عن التقسيم، وأن “الأساس الأثبت لإقامة دعائم السلام والتقدم في فلسطين هو الوصول إلى تفاهم بين العرب واليهود”. بناءً عليه أعلنت بريطانيا أنها تنوي عقد مؤتمر في لندن يبحث في قضية فلسطين من جديد، وأنها ستدعو إلى المؤتمر ممثلين عن العرب واليهود والدول العربية، لإجراء مشاورات حول مائدة مستديرة في شأن مستقبل فلسطين، والهجرة اليهودية إليها.
مؤتمر لندن (سانت جيمس) 1939
أعلنت الحكومة البريطانية أنها لن تتدخل بتركيبة الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر لندن، بل إنها أفرجت عن المنفيين إلى جزيرة سيشل في السابع من كانون أول / ديسمبر 1938، ونقلتهم على متن سفينة خاصة إلى مصر. ولكنها في المقابل لم تقبل أن يحضر الحاج أمين الحسيني إلى لندن، باعتبارها إياه المحرض الأول على الثورة. بالإضافة إلى ذلك دعا وزير المستعمرات البريطاني الدول العربية وهي العراق ومصر والسعودية واليمن وشرقي الأردن إلى المؤتمر، وكذلك فرنسا بصفتها منتدبة على لبنان وسورية.
افتتح مؤتمر لندن في السابع من شباط / فبراير 1939 في قصر “سان جيمس”. في حين اجتمع الوفد العربي مع الوفد البريطاني في ساعات الصباح، قام الوفد اليهودي بالاجتماع بهم، أي البريطانيين، في ساعات بعد الظهر، وذلك لأن العرب كانوا قد أجمعوا على عدم الاجتماع بالوفد الصهيوني. عن الجانب الفلسطيني شارك جمال الحسيني بصفته رئيسًا للوفد، وحسين فخري الخالدي، والفرد روك، وموسى العلمي، وعوني عبد الهادي، وأمين التميمي، ويعقوب الغصين، وراغب النشاشيبي، ويعقوب فراج، وجورج أنطونيوس. أما الوفد السعودي، فكان برئاسة الأمير فيصل بن عبد العزيز، وعضوية الأمير سعود وفؤاد حمزة، وكان الوفد المصري مؤلفًا من الأمير عبد المنعم رئيسًا وعضوية علي ماهر باشا، وحسن نشأت باشا، وعبد الرحيم عزام. تكون الوفد العراقي من نوري السعيد رئيسًا وعضوية توفيق السويدي. وترأس وفد اليمن سيف الإسلام الأمير حسين بن الإمام، وضم وفد شرقي الأردن رئيس الوزراء توفيق أبي الهدى رئيسًا، وعضوية نجيب علم الدين.
تألف الوفد اليهودي من ما ينيف عن أربعين عضوًا، برئاسة “حاييم وايزمان” و”دافيد بن غوريون”، وكان من أبرز أعضائه “يتسحاك بن تسڤي”، وشارك فيه ممثلون عن يهود بريطانيا وأميركا وفرنسا وبلجيكا وبولندا وجنوب أفريقيا. أما الوفد البريطاني، فكان برئاسة رئيس الوزراء “نيفيل تشامبرلين”، ومعه وزير الخارجية اللورد “هاليفاكس”، ووزير المستعمرات “مالكولم مكدونالد”.
خلال المؤتمر الذي استمر حتى السابع من آذار / مارس 1939، عاد كل طرف إلى مطالبه التي لا يمكن له التنازل عنها. دعا “حاييم وايزمان”، الزعيم الصهيوني، بريطانيا إلى عدم التخلي عن اليهود وعن وعد بلفور في أحلك الظروف، وتلخصت طلباته بثلاثة أشياء وهي: تقديم كل مساعدة ممكنة لتسهيل هجرة يهودية إلى فلسطين، والمساعدة في توطين اليهود وأن تهبهم الحكومة كل الأراضي الغير صالحة للزراعة، وإنشاء قوة دفاع يهودية تقوم بالدفاع عن المستعمرات اليهودية، وتقدم مساعدة حقيقية لبريطانيا من خلال تخفيف العبء عن الجيش.
أما العرب، ومن خلال جمال الحسيني، فقد أصروا على مطالبهم بعدم الاستناد إلى وعد بلفور، ووقف الهجرة اليهودية إلى البلاد، ومنع الحركة الصهيونية من شراء الأراضي العربية، وإعطاء العرب استقلالهم وإقامة دولتهم كما حدث مع العراق. وفي المقابل يكون العرب مستعدين لعقد معاهدة مع بريطانيا تضمن لها مصالحها في المنطقة، والالتزام بالمحافظة على حقوق الأقلية اليهودية.
خلال المؤتمر، قدمت بريطانيا اقتراحًا بإنهاء الانتداب وعقد مؤتمر حول مائدة مستديرة في فصل الخريف عام 1939، يوضع فيه دستور دولة فلسطين تحت الحماية البريطانية، على أن تتمتع الأقلية اليهودية بحماية مع ضمانات معينة. فقام العرب بمطالبة بريطانيا، بتنفيذ ذلك فورًا خوفًا من إعطاء اليهود فرصة للضغط على الحكومة للتخلي عن اقتراحها هذا، لكن الغضب اليهودي من الاقتراح أدّى إلى سحبه من قبل الحكومة البريطانية بحجة أنه “أسيء فهمها”.
لم يصل المؤتمر إلى صيغة نهائية، حيث إن الحكومة عرضت في 15 آذار / مارس 1939، عدة اقتراحات للحل، لكنها رفضت أساسًا من الوفد الصهيوني؛ لأنها تضمنت إقامة دولة فلسطينية بعد فترة انتقالية مدتها عشرة أعوام، وتبرم هذه الدولة حلفًا مع بريطانيا، وكانت بريطانيا مصرّة على اقتراحها، إلا أنه لم يتم الإعلان عنه بسبب احتلال تشيكوسلوفاكيا على يدي الألمان في 17 آذار / مارس، مما تسبب في إنهاء المؤتمر وعدم نشر نتائجه حتى إصدار الكتاب الأبيض.
الكتاب الأبيض عام 1939
في 17 أيار / مايو 1939، أصدرت الحكومة البريطانية “بيان الخطة السياسية الصادرة من حكومة جلالته” بخصوص فلسطين، فيما سمي بالكتاب الأبيض الثالث (أو الرابع إذا أخذنا بعين الاعتبار الكتاب الأبيض الذي صدر بخصوص الملكية الإسلامية لحائط البراق والصادر عام 1928)، أو ما يسمى بكتاب “ماكدونالد” وزير المستعمرات البريطاني. وكان هذا الكتاب عبارة عن السياسة البريطانية الخاصّة، بعد أنها “لم ترَ أن باستطاعة وفود العرب أو وفود اليهود قبول المقترحات التي عرضتها حكومة جلالته عليهم، كأساس لتسوية متفق عليها” في مؤتمر لندن.
وصرحت حكومة بريطانيا، في البند الرابع، “بعبارة لا لبس فيها ولا إبهام، أنه ليس من سياستها أن تصبح فلسطين دولة يهودية، وهي تعتبر في الواقع، أنه مما يخالف الالتزامات المترتبة عليه نحو العرب بموجب صك الانتداب، والتأكيدات التي أعطيت للشباب العربي فيما مضى أن يُجعل سكان فلسطين العرب رعايا دولة يهودية خلافًا لإرادتهم”. وكان هذا بعد مقدمة تحاول فيها الحكومة أن تفسر “الغموض المحيط ببعض العبارات الواردة في صكّ الانتداب، كعبارة “وطن قومي للشعب اليهودي”، كما جاء في نص الكتاب الأبيض. ووجدت الحكومة “في هذا الغموض، وفي ما نشأ عنه من الريبة حول الأهداف التي ترمي إليها الخطة السياسية، سببًا أساسيًا للقلق والشحناء بين العرب واليهود”. ورأت الحكومة أن “اقتراح التقسيم الذي أوصت به اللجنة الملكية (لجنة “بيل”)” كان من شأنه أن يوفر “مصلحة السلام ورفاه جميع أهالي فلسطين”، “غير أنه وجد أن تشكيل دولتين مستقلتين ضمن فلسطين إحداهما عربية والأخرى يهودية، ليس من الأمور العملية”.
كذلك استند “ماكدونالد” في كتابه الأبيض هذا، على كتاب “تشرتشل” الأبيض عام 1922، والذي يؤكد أن وعد بلفور لا “يرمي إلى خلق فلسطين يهودية برمتها، وأن حكومة جلالته لا ترمي بدورها إلى مثل هذا الهدف، ولم يخطر ببالها في أي وقت من الأوقات، أن يزول الشعب العربي أو اللغة أو الثقافة العربية في فلسطين، أو أن تصبح مسيطرًا عليها، وأن تصريح بلفور لا يرمي إلى تحويل فلسطين بكليتها إلى وطن قومي يهودي، بل إن وطنًا كهذا سيؤسس في فلسطين”. وأكد “ماكدونالد” على أن كتابه هذا، يعتمد وعد بلفور اعتمادًا كاملًا، وتفسيراته في صك الانتداب وكتاب “تشرتشل” والذين أصدرا عام 1922. وهو بذلك يبقي على وعوده لليهود بوطن قومي، مع تفسيرات جديدة (وأحيانا) قديمة توحي بالتنصل من جعل فلسطين يهودية من أجل إرضاء العرب، أو إعطاء شرعية لأهداف “حكومة جلالته”.
والهدف الأول “الذي ترمي إليه حكومة جلالته هو تشكل حكومة فلسطينية مستقلة خلال عشر سنوات، تكون مرتبطة مع المملكة المتحدة بمعاهدة تضمن للبلدين متطلباتهما التجارية والحربية في المستقبل”. وأن “الدولة المستقلة يجب أن تكون دولة يساهم العرب واليهود في حكومتها على وجه يضمن صيانة المصالح الأساسية لكل من الفريقين”. وأن “يكون تشكيل الدولة المستقلة مسبوقًا بفترة انتقالية، تحتفظ فيها حكومة جلالته خلالها بمسؤولية الحكم”، وخلال هذه الفترة “ستتاح لكلا فريقي السكان فرصة الاشتراك في إدارة الحكومة”. وبعد خمس سنوات على هذا، تشكل هيئة خصيصًا لبحث موضوع وضع دستور لدولة فلسطينية مستقلة.
أما بخصوص الهجرة اليهودية، فقد أشار الكتاب الأبيض بأن بريطانيا لم تدعم “الرأي القائل بأن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين لا يمكن تحقيقه إلا إذا سمح للهجرة بالاستمرار إلى ما لا نهاية”. وأن تسمح حكومة جلالته “بزيادة توسع الوطن القومي عن طريق الهجرة إذا كان العرب على استعداد للقبول بتلك الهجرة، ولكن ليس بدون ذلك”، في المقابل لا تستطيع الحكومة البريطانية “أن تقبل باقتراح وقف كل هجرة أخرى إلى فلسطين في الحال”، لأن ذلك “يؤثر تأثيرًا سيئًا في مصالح العرب واليهود على السواء”، ولأنها، أي الحكومة، “تلمّ بالمحنة القاسية التي يعانيها الآن عدد كبير من اليهود في بعض الدول الأوروبية”. ولذلك فإنها تسمح “بإدخال 75،000 مهاجر يهودي خلال السنوات الخمسة التالية، اعتبارًا من أول شهر نيسان من السنة الحالية”. وبعدها “لا يسمح بهجرة يهودية أخرى إلا إذا كان عرب فلسطين على استعداد للقبول بها”. كذلك فإن “حكومة جلالته مصممة على قمع الهجرة غير المشروعة”.
بالنسبة لانتقال الأراضي العربية لليهود، أشار الكتاب الأبيض إلى أنه “لا يوجد الآن في بعض المناطق أي مجال لانتقال الأراضي من العرب إلى اليهود، في حين أنه لا بد من وضع القيود على انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في بعض المناطق الأخرى وسيمنح “المندوب السامي سلطات عامة تخول منع تنظيم انتقال الأراضي”، وسيبدأ العمل بهذه السلطات من تاريخ نشر الكتاب الأبيض، “ويحتفظ المندوب السامي بها طوال فترة الانتقال”.
الموقف العربي من الكتاب الأبيض
لم يقبل العرب ما جاء في الكتاب الأبيض عام 1939، وكان محمد حمود رئيس الوزارة المصرية أول المعترضين عليه، بل صرح بأنه لا ينصح عرب فلسطين بالموافقة عليه. وكذلك كان شأن الحكومة العراقية، وملك السعودية حيث اعتبروه غير كافٍ ولا ينصف العرب. أمّا الأمير عبد الله، فقد وافق على الكتاب الأبيض، ووافقه في ذلك حزب الدفاع الفلسطيني.
رفض زعماء الثورة الفلسطينية الكتاب الأبيض، كونه لا يمنحهم أو يعدهم بالعفو العام، وليس فيه أي ذكر للمصالحة مع المفتي أمين الحسيني. وكذلك كان من أمر اللجنة العربية العليا، التي أصدرت بيانًا مفصلًا تعلن فيه عدم موافقتها على الخطة السياسية البريطانية، وذلك في 30 أيار / مايو 1939. ورأت اللجنة بأن الخطة السياسية لا تحقق مطالب العرب، ولا تختلف هذه الخطة عن ما اقترحته بريطانيا في مؤتمر لندن، وتم رفضه من الوفد الفلسطيني ووفود الدول العربية المشاركة في المؤتمر.
وعزت اللجنة عدم موافقتها على سياسة الكتاب الأبيض لاستناده إلى صك الانتداب، وذلك لأن كل معاناة العرب منبعها الالتزامات البريطانية المذكورة في هذا الصكّ. كذلك رأت اللجنة أن إقامة الدولة ذات الأغلبية العربية بعد عشر سنوات، لا يمكن أن تتم إذا كان أحد شروطها هو موافقة ومشاركة اليهود في ذلك، حيث إنهم سيعتمدون الامتناع عن المساهمة في أي دولة لا تكون يهودية. ورفضت اللجنة اقتراح بريطانيا حول كيفية تركيبة السلطة التنفيذية المقترحة خلال الفترة الانتقالية، حيث إن الأمر لا يعدو تعيين بعض الموظفين الفلسطينيين، وخلوّ الخطة السياسية من أي مقترحات حول تشكيل هيئة تشريعية منتخبة خلال الفترة الانتقالية.
كذلك رفضت اللجنة مقترح الحكومة البريطانية في أن تكون شريكة في وضع دستور البلاد بعد الفترة الانتقالية، خاصة وأن هذا الدستور، حسب الخطة، يجب أن يأخذ بالحسبان تثبيت الوطن القومي اليهودي في فلسطين. ورفضت اللجنة، أيضًا، المقترح الداعي إلى استمرار الهجرة اليهودية لخمس سنوات أخرى، بل طالبت بوقفها وقفًا باتًا، ولا ترضى دون ذلك. وأصرت اللجنة على ضرورة منع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود بشكل قاطع ونهائي.
صدر هذا البيان، الذي رحّب باعتراف بريطانيا بحقوق العرب من حيث المبدأ، رغم أن أعضاء اللجنة العربية العليا لم يكونوا مجمعين على رأي واحد، حيث إن البعض كان يعتقد بوجوب الموافقة على الخطة السياسية؛ لأن ذلك سيؤدي إلى الحصول على تنازلات أخرى من الحكومة البريطانية. أما الآخرون فرفضوا الكتاب الأبيض؛ لأنه لا يمنح الفلسطينيين حقهم في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الموقف اليهودي من الكتاب الأبيض
قبل إعلان الكتاب الأبيض، دعا “مالكوم ماكدونالد” إلى بيته “حاييم وايزمان” وأطلعه على الخطة السياسية البريطانية للفترة المقبلة، مما أدى إلى خروج “وايزمان” من بيته غاضبًا بشكل كبير على “ماكدونالد” ودولته، حيث إنه لم يتوقع هذه الخطة التي اعتبرها وأعضاء الوكالة اليهودية تراجعًا عن صداقة بريطانيا للحركة الصهيونية، وصاروا يطلقون على الكتاب الأبيض اسم “الكتاب المخزي” أو “الكتاب الأسود”، حيث إن فرحة “وايزمان” وزملائه بعد نتائج لجنة “بيل” والتقسيم قد اختفت مرّة واحدة، وأكثر ما أغاظ اليهود هو بند وقف الهجرة أو تحديدها بخمسة وسبعين ألفًا خلال السنوات الخمس المقبلة بعد إصدار الكتاب الأبيض.
أما منظمة “الإيتسل” الصهيونية، فقد نفذت عمليات إرهابية ضد العرب حالما تم نشر الكتاب الأبيض، ففي ليلة 28-29 أيار / مايو 1939 قام أعضاء المنظمة بالهجوم على قرية عربية في الساحل، مما أسفر عن قتل رجل وامرأة وجرح أربعة آخرين. في يوم 29 أيار / مايو تم تفجير قنبلتين في سينما في القدس، مما أدى إلى جرح 18 شخصًا منهم ثلاثة شرطيين بريطانيين. وفي نفس اليوم انفجرت قنبلة في دكان خضرة لصاحب عربي، فلقي خمسة مصرعهم، وجرح 19 شخصًا. واستمرت عمليات منظمة “الإيتسل” حتى نشوب الحرب العالمية الثانية في بداية أيلول / سبتمبر 1939، ففي الثاني من آب / أغسطس 1939، تم تفجير أربع قنابل في استوديوهات الراديو في القدس، وفي السادس منه وضع “الإيتسل” قنبلة كبيرة في ملعب الكريكيت عند مصافي البترول في حيفا، ولكنها لم تنفجر.
استنكر المؤتمر الصهيوني الحادي والعشرين، والذي انعقد في جنيف بتاريخ 16 آب / أغسطس 1939، سياسة الكتاب الأبيض، وأبدى رفضه القاطع لما جاء فيه، ودعا إلى مقاومته لعدم شرعيته. ومع هذا أعلن المؤتمر تأييده لبريطانيا بسبب أخطار الحرب القادمة. وكان تصريح “بن غوريون” بشأن معارضة الكتاب الأبيض هو الأكثر دقة في وصف تعامل القيادة الصهيونية مع الكتاب الأبيض: “سنحارب الكتاب الأبيض كأن لا حرب هناك، وسنقاتل في الحرب كأن لا وجود للكتاب الأبيض”.
كذلك، يمكن اعتبار الكتاب الأبيض، بأنه كان من أهم العوامل التي أدت إلى تحول القيادة الصهيونية إلى الاعتماد على أميركا بدل الاعتماد الكامل على السياسة البريطانية في ما يخص فلسطين وإقامة الوطن القومي لليهود في أراضيها. ناهيك عن ازدياد قوة ونفوذ الطائفة اليهودية في أميركا، بسبب أنها كانت أكبر وأغنى مجموعة في الحركة الصهيونية، مقابل تدهور حالة اليهود في أوروبا بفعل الحرب العالمية الثانية، والتي عصفت بالقارة الأوروبية بشدة ابتداء من الفصل الأخير من عام 1939.
من الجدير ذكره هنا، أن “حاييم وايزمان” كان قد توجه إلى الرئيس الأميركي آنذاك “فرانكلين روزفلت” من أجل إرجاء إعلان الكتاب الأبيض، وبالفعل توجه الرئيس عن طريق السفير في لندن من أجل طلب تأجيل، وذلك في آذار / مارس 1939، ونجح في ذلك فعلًا. ولكن محاولة “وايزمان” في شهر أيار / مايو من نفس العام، فشلت لأن “روزفلت” كان يرى أن عليه أن يقف خلف بريطانيا في صراعها مع ألمانيا النازية، ولأن الكتاب الأبيض حسب وجهة نظره كان يساهم في تقوية الإمبراطورية البريطانية استراتيجيًا. ويعزي البعض إلى فشل “وايزمان” في إقناع الرئيس الأميركي، إلى ضعف التأييد في أميركا للمشروع الصهيوني بسبب عدم بذل جهود كافية من قبل الحركة الصهيونية من أجل جلب التأييد السياسي الأميركي، خاصة وأن أميركا كانت مؤيدة للمشروع الصهيوني بحماسة كبيرة، والدليل على ذلك تصريح الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون”، عام 1919، والذي أعلن فيه تأييده الكبير للصهيونية. وقرار الكونغرس الاميركي رقم 322، والذي تم نشره في 30 حزيران / يونيو 1922، الداعي إلى دعم الانتداب البريطاني في فلسطين وتنفيذ وعد بلفور، والتأكيد على الحق المطلق لليهود في الاستيطان في فلسطين وإقامة وطن قومي لهم بين النهر والبحر، كما جاء في القرار.
تشرتشل والتحول الصهيوني نحو أميركا
عندما فشلت القيادة الصهيونية في إقناع بريطانيا بالتحول عن سياسة الكتاب الأبيض، ابتدأت في تقوية نشاطها في أميركا، ولذلك عقدت مؤتمرًا في فندق “بلتيمور” في نيويورك، وذلك في شهر أيار / مايو 1942، أعلنت فيه عن رفضها للكتاب الأبيض عام 1939، ودعت للهجرة إلى فلسطين بدون قيد أو شرط، تحت إشراف الوكالة اليهودية، والعمل على إنشاء قوة يهودية عسكرية معترف بها من قبل الحلفاء، وإقامة دولة يهودية في فلسطين وشرق الأردن فيما يسميه الصهاينة بأرض الميعاد، مما يعني تنازل الوكالة الصهيونية عن تأييدها لخطة لجنة “بيل” لتقسيم فلسطين. وفي 6 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1942، تبنّى المجلس العام للمنظمة الصهيونية مشروع “بلتيمور” باعتباره السياسة الرسمية الصهيونية.
ابتدأ مركز ثقل الضغط الصهيوني يتجه إلى أميركا، رغم أن “وينستون تشرشل” كان رئيس الحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية، وقد أراد خلال فترة حكمه أن يلغي سياسة الكتاب الأبيض عام 1939، ولكنه لم ينجح في ذلك، لأنه اصطدم بمعارضة حكومته الائتلافية، بل إنه صرف النظر كليًا عن دعم الصهيونية في إعادة فكرة التقسيم، وذلك لأن منظمة “الإيتسل” اغتالت اللورد “موين” وزير شؤون الشرق الأوسط، والذي كان ينفي حق اليهود التاريخيّ في فلسطين، ويعارض وعد بلفور، وتم ذلك في القاهرة بتاريخ 6 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1944. هذا على الرغم أنه، أي تشرتشل، كان من أشد المؤيدين للصهيونية، حيث كان صاحب الكتاب الأبيض الأول عام 1922، عندما كان وزيرًا للمستعمرات، والذي فسر فيه وعد بلفور، وكيفية تطبيقه، وكان أساس سياسة الانتداب في فلسطين حتى صدور الكتاب الأبيض عام 1939. وقد حاول تشرتشل سابقًا، وقبل توليه رئاسة الحكومة، أن يمنع التصويت لصالح الكتاب الأبيض عام 1939، داخل مجلس العموم البريطاني، عندما عرضه “ماكدونالد” على المجلس في آب / أغسطس 1939، ولكن مساعي تشرتشل فشلت، حيث صوت المجلس بأغلبيته لصالح الكتاب الأبيض، بحيث أصبح هذا الكتاب السياسة المعتمدة لبريطانيا بخصوص المشكلة الفلسطينية، وعليه قررت بريطانيا بأن تقوم بتنفيذه حتى لو رفضه العرب واليهود على حدّ سواء.
وبالعودة إلى أميركا، التي حدث تغيير جذري سريع في اهتمام الولايات المتحدة بالصهيونية، والمشكلة اليهودية الناتجة عن فتك ألمانيا النازية باليهود، وخلال عام 1942 أصبح الرأي العام الأميركي منصبًا على ضرورة التدخل بصورة الحل الذي يجب أن يكون في فلسطين بعد الحرب. وكان ليهود أميركا دورًا كبير في هذا التحول. ولكن تجاوب أوساط السلطة الأميركية للفكرة الصهيونية، لم يكن نابعًا فقط من تضامنهم مع يهود أوروبا، بل لأن اكتشاف أول بئر نفط كبير في الظهران الواقعة غرب المملكة السعودية عام 1938، وإعطاء حقوق إنتاج البترول لشركة أميركية جعل أميركا تتحول إلى دولة ذات مصالح كبيرة في الشرق الأوسط، كما كان لبريطانيا وفرنسا في غرب آسيا، ولذلك كان لما يجري في فلسطين أهمية كبرى بالنسبة لهم.
وهكذا أصبحت حكومة الولايات المتحدة واقعة تحت ضغط الكونغرس والرأي العام المدعوم بيهود أميركا الأغنياء، بضرورة إيجاد حل للمسألة اليهودية، ولهذا تم تكوين “لجنة فلسطين الأميركية” وذلك في تشرين ثاني / نوفمبر 1942، والمكونة من 68 من أعضاء مجلس الشيوخ و 143 من مجلس النواب، والتي قامت فور تأسيسها بإصدار بيان تهاجم فيه الكتاب الأبيض وتطالب بإلغائه.
هنا استغلت الدعاية الصهيونية هذا التحول، وعملت بكل جهدها على استصدار قرار رسمي من مؤسسات الدولة الأميركية، يضم دعمًا لإقامة دولة يهودية “حرّة وديموقراطية” في فلسطين. وتحت تأثير الدعاية الصهيونية الحثيثة، قدم مشروعي قرار في نفس الوقت لمجلس السينات ومجلس الشيوخ الأميركيين وذلك في بداية عام 1944، وتضمن المقترحان تأييدًا وتبنيًا لمشروع “بلتيمور” الآنف الذكر، لكن وزير الحرب الأميركي “هنري ل. ستيمسون” تدخل في الأمر وطالب بتأجيل هذا، حتى لا يؤثر سلبيًا على مجريات الحرب العالمية، خاصة في ظل التحضيرات الحثيثة لعملية “نورماندي”. تجاوب صهاينة أميركا مع الوزير الأميركي وتم التنازل عن المقترحين، ولو إلى حين.
الرئيس روزفلت وازدواجية الموقف من قضية فلسطين
كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، شديد التأييد للمشروع الصهيوني، وفي نفس الوقت كان الصهاينة يضغطون عليه من أجل أن يقدم لهم مساعدة في تنفيذ برنامجهم، لذلك قام بإرسال مندوب عنه إلى الشرق الأوسط لتحري الوضع، وهو الجنرال “باتريك ج هارلي”، الذي أعد تقريرًا في أيار / مايو 1943، وأرسله إلى روزفلت يتضمن النقاط والاستنتاجات التالية: يجب إقامة دولة يهودية في فلسطين، ويمكن أن تضم إليها شرق الأردن. نقل السكان العرب من فلسطين إلى العراق. ولم يكتفِ بذلك، بل اقترح المحافظة على تفوق اليهود على باقي الشرق الأوسط في مجال التنمية الاقتصادية. هذا التقرير زاد من إيمان روزفلت بوجوب إقامة دولة اليهود في فلسطين، بل وأنه صرح لوزير الخارجية الأميركي في عام 1944، إن فلسطين يجب أن تكون لليهود فقط، ويجب ألا يبقى فيها عربيّ واحد. وفي خريف نفس السنة، وفي رسالة لروزفلت أعلن عن تأييده لفتح الهجرة اليهودية غير المحدودة، وإقامة دولة يهودية ديمقراطية وحرة في فلسطين.
كذلك كانت الحملة الانتخابية لروزفلت عام 1944، تتضمن وعودًا للصهاينة بأن الولايات المتحدة ستقوم بمساعدتهم على إقامة دولتهم، وذلك ليضمن الصوت اليهودي الأميركي، حيث إن الحزبين الديموقراطي والجمهوري كانا يتنافسان على التقرب من اليهود، ولذلك قاما بنشر الوعود الكثيرة للجالية اليهودية الصهيونية، وخاصة في موضوع الهجرة بدون قيود إلى فلسطين.
فاز روزفلت بالرئاسة الأميركية للمرة الرابعة في انتخابات عام 1944، وحصل على أكثر من 90٪ من أصوات اليهود، بفضل مواقفه المؤيدة لهم، والتي سرعان ما أصبحت أقل حماسة، بعد أن قام روزفلت بلقاء الملك عبد العزيز آل سعود، على متن بارجة أميركية حربية في البحيرة المرّة في قناة السويس، وذلك بتاريخ 14 شباط / فبراير 1945، أي بعد انتخابه بفترة قصيرة. كان هذا اللقاء قصيرًا، ولكنه كان مؤثرًا بشكل كبير على موقف روزفلت من القضية الفلسطينية وفهمه لها، حيث إنه أراد من الملك السعودي أن يساعده بإيجاد حل لمشكلة اليهود في أوروبا بعد الحرب العظمى، وذلك لأن فلسطين صغيرة جدًا بالنسبة للأراضي الواسعة التي يمتلكها العرب. وعندما سأل الملك عبد العزيز عن رأيه في هذا الأمر، أجابه بأن على الجاني أن يدفع الثمن، وكان حريًا لروزفلت أن يعطيهم أفضل الأراضي الألمانية ليسكنوا فيها، بدل أن يطلب فلسطين صغيرة الحجم والتي استوعبت أكثر من كفايتها من اليهود.
تغير موقف روزفلت بعد أن “ازداد فهمه للقضية ككل وللقضية الإسلامية والقضية اليهودية، خلال خمس دقائق من الحديث مع ابن سعود”، كما قال في خطاب له لمجلسي الشيوخ والنواب، في الأول من آذار / مارس 1945. وبعد هذا بأسبوع وقع رسالة إلى الملك عبد العزيز يعده فيها بأنه كرئيس للولايات المتحدة لن يقدم أبدًا على أي عمل عدائي ضد العرب، وأن أميركا لن تغير سياستها اتجاه فلسطين دون التشاور مع العرب واليهود.
من جهة أخرى، كان روزفلت، وذلك قبل رسالته إلى العاهل السعودي، قد أرسل برقية تحية إلى اجتماع يهودي انتخابي في تشرين أول / أكتوبر 1944، وجاء في البرقية أنه سيعمل بعد انتخابه على إلغاء الكتاب الأبيض 1939، وفتح هجرة اليهود إلى فلسطين، وأنهم يستطيعون التحدث باسمه عن موافقته على برنامج مؤتمر “بالتيمور”.
ماتت هذا الازدواجية السياسية بعد موت روزفلت في 12 نيسان / أبريل 1945، أي بعد أقل من أسبوع من رسالته لعبد العزيز، ليبدأ عهد الرئيس “ترومان” والذي كان حادًا في دعمه وتأييده للمشروع الصهيوني، بل عمل بكل قوة، وجهد لتنفيذه على أرض الواقع.
الرئيس ترومان يطرح هجرة كبيرة ليهود أوروبا
لم يمهل الموت روزفلت بعد رسالته للملك عبد العزيز آل سعود، ومات في 12 نيسان / أبريل 1945، ليخلف نائبه “هاري ترومان” الحكم بعده، حتى موعد الانتخابات المقبلة في نهاية عام 1948. كان للرئيس ترومان تأثيرًا كبيرًا وفعالًا على ما يجري في فلسطين، إذ إنه وبادعاء عدم قدرته على السكوت عن الوضع المأساوي لليهود اللاجئين في أوروبا بعد خسارة ألمانيا للحرب، صار يضغط بشكل كبير على حليفته بريطانيا من أجل أن يهاجر 100 ألف يهودي إلى فلسطين خلال فترة قصيرة، مما لا يتلاءم مع الخطة السياسية البريطانية بشأن فلسطين، كما جاء في الكتاب الأبيض عام 1939، وقد أدّى هذا إلى أزمة سياسية مع بريطانيا، رغم العلاقات الوثيقة بين الدولتين الأبرز في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية التي كانت توشك على الانتهاء.
حال تسلم ترومان رئاسة الولايات المتحدة، وتحديدًا في 20 نيسان / أبريل 1945، زاره رئيس لجنة الطوارئ الصهيونية الأميركية، الحاخام “ستيڤن رايز”، من أجل تذكيره بتعهد روزفلت خلال الانتخابات التي لم يمر عليها إلا عدّة أشهر، بتأييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بدون قيود من بريطانيا وغيرها. وقد أبلغه ترومان بأنه سيبقى على العهد الذي أعطاه روزفلت، وهو يؤيد بدوره الهجرة غير المقيدة إلى فلسطين.
قام “حاييم وايزمان” والوكالة اليهودية بإرسال مذكرتين إلى حكومة بريطانيا في أيار / مايو وحزيران / يونيو 1945، تتخللان طلبًا لهجرة 100 ألف يهودي فورًا إلى فلسطين، بدون أي علاقة لما جاء في الكتاب الأبيض 1939. في نفس الوقت، وتحديدًا في يونيو / حزيران 1945، أرسل ترومان مفوضًا إلى أوروبا من أجل أن يفحص وضع اللاجئين في أوروبا، وخصوصًا اليهود، من أجل تقديم إحصائيات حول الأعداد التي يجب مساعدتها، وكان هو “إيرل هاريسون”، عميد كلية الحقوق في جامعة بنسلفانيا.
قبل أن يعرض “هاريسون” استنتاجاته على الرئيس الأميركي، اجتمع هذا مع وينستون تشرتشل والرئيس “أتلي”، الذي سيخلف تشرتشل في رئاسة الحكومة بعد فوز حزب العمال البريطاني في الانتخابات، وكان هذا الاجتماع على هامش مؤتمر “بوتسدام” في ألمانيا، والذي انعقد في 17 تموز / يوليو 1945. في هذا الاجتماع سأل ترومان، الذي تلقى قبل ذهابه إلى المؤتمر عريضة من 37 حاكم ولاية أميركية تدعوه إلى طرح مسألة تكثيف الاستيطان اليهودي في فلسطين على المؤتمر، السيدين الإنجليزيين عن رأيهما في هجرة العدد الأكبر من اليهود الأوروبيين الذين يمكن توطينهم في فلسطين. وكانت الإجابة أنهما يريدان أن يعرفا إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للمساعدة في ذلك، فأجابهما بالنفي. ولكن عند عودته من القمة التي استمرت حتى 2 آب / أغسطس، أعلن على الملأ في مؤتمر صحفي أنه سيسمح بإدخال أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين، وقد أدّى هذا الأمر إلى أن رئيس الحكومة البريطاني المقبل “أتلي” ووزير خارجيته “بيفن”، صارا ينظران إلى الرئيس الأميركي بنظرة عدم الثقة.
ترومان ينتقل إلى الضغط على بريطانيا
لم يتوقف ترومان عند هذا الحد، بل أرسل في 24 تموز / يوليو 1945، رسالة إلى وينستون تشرتشل يطالبه فيها بإلغاء كل القيود التي فرضها الكتاب الأبيض على الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبشكل فوري، ويسأله في نفس الرسالة عن رأيه في حل القضية الفلسطينية. ولكن تشرتشل استقال في 26 تموز / يوليو ولذلك لم يتسلم الرسالة. وقام باستلامها مكانه رئيس الحكومة الجديد “أتلي”، وذلك في 31 تموز / يوليو 1945، وطلب بعض الوقت من أجل النظر في موضوع الرسالة. ولكن ترومان وفي نهاية مؤتمر بوتسدام قال لأتلي “أن الشعب الأميركي كله يؤمن بضرورة عدم إغلاق أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية”.
في نفس هذه الفترة، وذلك في الأول من آب / أغسطس 1945، عقدت الحركة الصهيونية اجتماعًا لها في لندن، وقرر هذا الاجتماع وبضغط من “بن غوريون”، أن تطالب الحركة الحكومة البريطانية بإصدار 100 ألف تصريح هجرة ليهود أوروبيين إلى فلسطين. وبالفعل توجه “بن غوريون” على رأس وفد صهيوني إلى وزارة المستعمرات، وهناك قدم مذكرة إلى الوزير “چلينڤيل هول”، يطالبه فيها وبطريقة حادّة أن يصدر التصاريح فورًا، وأن تعترف بريطانيا بأن فلسطين ستصبح دولة يهودية. أصيب الوزير البريطاني بصدمة كبيرة من تصرف الوفد الصهيوني، وقال بأن تصرف ضيوفه “كان مختلفًا عن كل التجارب التي مرّ بها”. كان جواب الوزير الرسمي، والذي أرسله إلى “بن غوريون” في 25 آب / أغسطس، على أن يعطي 2000 تصريح فوري للهجرة إلى فلسطين، وهذا العدد هو ما تبقى ممّا ذكر في الكتاب الأبيض. فيما بعد سيطلب من العرب الموافقة على هجرة 1500 يهودي شهريًا إلى فلسطين. تمّ رفض عرضه رفضًا قاطعًا من القيادة الصهيونية.
قامت القيادة الصهيونية بهذه الخطوة الجريئة، نظرًا لأن دعاية حزب العمال البريطاني خلال الانتخابات كانت متحيزة، بل ومتحمسة بشدة، لمطالب الحركة الصهيونية حتى وصل به الأمر إلى المطالبة بإخراج العرب من فلسطين ليحل اليهود محلهم، ودعا إلى جعل فلسطين برمتها دولة يهودية وهو بذلك أعلن عن تأييده مشروع مؤتمر بلتيمور آنف الذكر. ولكن ما حدث بعد فوز حزب العمال بالانتخابات، وخصوصًا لدى وزير الخارجية الجديد “بيڤن”، الذي وصل إلى نتيجة أن التأييد الكبير للحركة الصهيونية من قبل حزبه، يشكل خطرًا على مصالح بريطانيا في الشرق الأوسط، ولذلك قرر أن يستمر بسياسة الكتاب الأبيض عام 1939، وبناءً عليه يجب وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين حالًا، وأن تحديدها منوط بموافقة عربية، كما جاء في نص الكتاب الأبيض.
قدم “هاريسون” مفوض الرئيس الأميركي إلى أوروبا، تقريره إلى ترومان في النصف الثاني من شهر آب / أغسطس 1945، موصيًا فيها بهجرة 100 ألف يهودي إلى فلسطين، بعد أن قام بعمليات حسابية حول عدد اليهود الذين يعانون بصورة كبيرة في مخيمات اللاجئين. وذكر “هاريسون” في تقريره أنه يعرف بالمذكرة الصهيونية للحكومة البريطانية بضرورة الموافقة على هجرة 100 ألف يهودي إلى فلسطين، وأعترف أن ذلك كان له تأثير كبير على حساباته التي قدمها للرئيس الأميركي. وأضاف في تقريره أن عددًا من يهود أوروبا ليس لهم أيّ إمكانية لحلّ مشاكلهم المستقبلية إلا بالهجرة إلى فلسطين، “لأنهم سيستقبلون هناك استقبالًا حسنًا”، كذلك نصح بالموافقة على طلب الوكالة اليهودية حول أعداد المهاجرين اليهود، لأن ذلك “يساهم في حلّ مقبول لمستقبل اليهود الذين لا يريدون العودة إلى البلاد التي هجروا منها”.
تشكيل اللجنة الأنجلو – أميركية 1945
قرر الرئيس الأميركي أن يأخذ باقتراحات “هاريسون” بشكل كامل، ولذلك أرسل التقرير إلى “أتلي”، رئيس وزراء بريطانيا، في 31 آب / أغسطس 1945، وأردفه برسالة مطولة يعلن فيه تأييده لتوصيات “هاريسون”، وأن الحل يجب أن يكون بهجرة أكبر عدد من اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، ولم ينسَ أن يذكر “أتلي” بما قال له في مؤتمر بوتسدام.
ردّ “أتلي” على رسالة ترومان في 16 أيلول / سبتمبر 1945، موضحًا في رسالته أن الهدف الرئيسي، الذي تريده القيادة الصهيونية عند مطالبتها بهجرة 100 ألف يهودي إلى فلسطين، هو القضاء على سياسة الكتاب الأبيض، وأن اليهود لا يستعملون التصاريح التي حصلوا عليها بموجب لقائهم الأخير مع وزير المستعمرات “چلينڤيل هول”، والتي تعطيهم إمكانية تهجير 1،500 يهودي شهريًا. كذلك ذكّر الرئيس الأميركي بما وعد به سابقيهما، روزفلت وتشرشل، باستشارة العرب قبل أي تغيير في سياسة الهجرة إلى فلسطين. وقال أيضًا إنه سيعمل على توفير تسهيلات لهجرة اليهود، ولكن بعد أن تأخذ الأمم المتحدة مسؤولية الوضع القائم في فلسطين.
استمر “أتلي” ووزير خارجيته “بيڤن” في موقفهما حتى نهاية تشرين أول / أكتوبر 1945، حيث أرسل “أتلي” إلى ترومان رسالة أخرى بتاريخ 25 تشرين أول /أكتوبر، يقول فيها أن تسوية القضية الفلسطينية هو أمر مختلف عن حل مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا.
تسارع الأحداث في فلسطين، وخاصة تصاعد العمليات العسكرية الصهيونية ضد المصالح البريطانية، أدت بوزير الخارجية البريطاني إلى أن يتخذ قرارًا بتعيين لجنة تحقيق ترسل إلى فلسطين، وتقدم تقريرها للحكومة البريطانية، كما فعلت لجان سابقة عُيِّنت سابقًا لغرض مشابه، كلجنة “شو” ولجنة “بيل” وغيرها. لكن هذه المرّة قررت الحكومة البريطانية أنه وبسبب تدخل ترومان وضغطه القوي على الحكومة البريطانية بالتخلي عن سياسة الكتاب الأبيض عام 1939، عليها أن تشركه في لجنة مختصة ترسلها الدولتان من أجل التحقيق والوصول إلى حلّ للنقاش الدائر بينهما. وعليه قام “بيڤن” بالإدلاء ببيان في مجلس العموم البريطاني، وذلك في 13 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1945، بأن حكومة بريطانيا “تدعو الولايات المتحدة إلى التعاون معها في تأليف لجنة تحقيق أنجلو أميركية تتحرى المشكلة الأوروبية وتعيد النظر في القضية الفلسطينية، على ضوء هذا التحري”.
قبلت أميركا اقتراح الحكومة البريطانية بشرط أن تكون وظيفة اللجنة هي فحص تأثير هجرة اليهود إلى فلسطين على أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفحص حالة اليهود في أقطار أوروبا حيث كانوا ضحية للاضطهاد النازي والفاشي، وما الذي من الممكن عمله لتمكين هؤلاء اليهود من العيش بعيدًا عن التحيز والعنصرية، لذلك على اللجنة تقدير عدد اليهود الذين يودون الهجرة إلى فلسطين، أو هم بحاجة ماسة للهجرة إلى فلسطين. كما اشترطت الولايات المتحدة على بريطانيا أن تقوم اللجنة بتقديم توصياتها إلى الحكومتين البريطانية والأميركية لمعالجة مشاكل فلسطين، وإيجاد حلّ لها.
وهكذا تشكلت اللجنة الآن.
المصدر: عرب 48