مهما تهبّ رياح السود… غزّة تغنّي
على مدى 75 عامًا، انشغل جانب من الحركة الإبداعيّة الفلسطينيّة والعربيّة، بمجابهة الاستعمار الصهيونيّ وتداعياته على الواقع الفلسطينيّ، وارتكز الجهد في ذلك على تجلية آثار الاستعمار في الفلسطينيّين حضاريًّا وحقوقيًّا، على صورة يمكن تقعيدها في معادلة محو فلسطين من العالم، وهي معادلة حاول مبدعون كثر حلّها على صور مختلفة، فتمخّضت الحلول عن الصورة المأساويّة للواقع الفلسطينيّ، بمعنًى مبسّط؛ فإنّ العالم ناقص فلسطين، يساوي مأساة مستمرّة وحروبًا مستعرة.
كانت المجالات الإبداعيّة، الكتابة والسينما والموسيقى وغيرها من الفنون، مجالًا للتأكيد على أنّ الفلسطينيّين يستحقّون حياة أفضل، ولكنّها في معظمها سلكت مسلكًا تظلّميًّا، مبنيًّا على تسجيل وقائع أقلّ ما توصف أنّها جرائم بشعة، من قتل إلى تشريد إلى حصار إلى تزوير للحقائق التاريخيّة. لكنّ ثلّة صغيرة انفلتت من هذا العقال، وذهبت إلى صوغ معادلة أخرى هي فلسطين نفسها، وقد تمكّنت هذه الثلّة من التوصّل إلى إجابات جماليّة، تضع المتلقّي في منصّة الحكم: أناس مسالمون يحبّون بلادهم طبيعة وتاريخًا ومعمارًا، إزاء نظام احتلاليّ يسيطر على كلّ شيء ويدمّر.
على مستوى الأغنية، ظهرت هذه الخصومة الجماليّة بشكل أوضح، ربّما لأنّ الأغنية نموذج فنّيّ سهل التداول، وسريع الوصول، أكثر من الشعر والدراسات والمسرح، وربّما السينما أيضًا. ولكي يكون التحليل ناضجًا؛ لا بدّ من اختيار نموذج محدّد أيضًا لبناء المعايير. ولأنّ غزّة هي النقطة الأسخن في الأعوام السبع عشر الأخيرة؛ فقد تكون أنسب النماذج. فكيف خاطبت الأغاني غزّة وكيف خاطبت الأذن العربيّة بها وعنها؟
الحسرة
في عام 2009 أطلق الفنّان السعوديّ راشد الماجد أغنية «يا غزّة» من ألحانه وكلمات تركي الشريف، وقد اشتملت على حسّ عربيّ مشحون بعاطفة الحزن والحسرة، في لحن جنائزيّ، يستمرّ على إيقاع واحد، معبّرًا عن عادة موسيقيّة، مواتية لأجواء التشييع ومشاعره، في تصوير يتجانس مع الكلمات:
في غزّة حقّ، وضاع الحقّ
في غزّة ظلم، وموت حرق
كذا دم العرب أصبح
بلا قيمة ولا له حقّ
نطالع نشرات الأخبار
قبر واحد يضمّ صغار
عدوّ يقتلنا والعالم
يبرّر للعدوّ الأعذار
يظهر في هذه الأغنية الشعور بوحدة الدم العربيّ، وحرمته على الأساس الجماعيّ المتعلّق بالألم المشترك؛ ممّا يُبْعِد العبارات ذات المعاني التضامنيّة؛ فالمسألة أقرب كثيرًا من ذلك؛ إنّها إهانة للعربيّ مهما كان وأينما كان. هذه العبارات الساخنة أخذ الإعلام المرتبط بسياسات تطبيعيّة يخفّضها شيئًا فشيئًا في الأعوام الأخيرة، حتّى ربّى في نفوس المبدعين رقباء داخليّين، يبتعدون بهم عن مشاعر من هذا النوع؛ فصار الأمر مقتصرًا على التضامن، وعلى اللعب في المشاعر الإنسانيّة، بعيدًا عن الشعور بالهوان المشترك؛ ممّا جعل الإنتاج العربيّ الجديد ضئيلًا، وباردًا في أفضل الأحوال.
الحميّة
لا يغيب الفنّان الأردنيّ عمر العبداللات طويلًا حتّى يعود بأغنيات جديدة لفلسطين، فيها من الدعم وتشارُك المأساة عبارات واضحة، لكن في ما يخصّ غزّة، فثمّة أغنيتان في رصيده، يمكن تناولهما بالتحليل، الأولى «يا غزّة يا الجنّة»، وقد صدرت قبل نحو 10 أعوام.
تحمل الأغنية مشاعر الفخر بالمقاومة في غزّة، وتزفّ الشهداء الغزّيّين معتبرة فعلهم رحلة نحو الجنّة، وهو خطاب أساسه الإيمان بالقضيّة الفلسطينيّة، والانحياز إلى المقاومة نقطةَ انطلاق لتحرير فلسطين، كما تنطوي الأغنية على بُعْد إيمانيّ في تحفيز الشعور المشترك للمسلمين، وربّما للمؤمنين:
تحت الركام عشّاق الشهادة
شدّوا الرحال من غزّة للجنّة
تُصْنَع الأمجاد بعزيمة وإرادة
ونحنا التاريخ والتاريخ منّا.
وكمجمل أغاني العبداللات، تقوم الأغنية على لحن شبه تراثيّ بإيقاعات حامية، وموسيقى شعبيّة فيها تثوير للشعور الوطنيّ على الأساسين الحركيّ والتاريخيّ.
أمّا الأغنية الثانية فهي «غزّة»، وقد أطلقها في ألبوم «فلسطين من النهر إلى البحر» 2018، وهو ألبوم خصّ فيه كلّ مدينة فلسطينيّة بأغنية، فجاءت أخواتها تتغنّى ببحر يافا وبسحر رام الله وبعظمة القدس ومرابطيها. أمّا أغنية «غزّة» فقامت مقام أغنيته السابقة، بلحن يحمل الملامح ذاتها، لكن بصورة أكثر احتفاء، بما يشبه أغاني الزفّة والأعراس، ويحمل ضمنًا شعورًا بالفخر بما يقدّمه الفلسطينيّون في غزّة من بطولات، وفيه تنحية للألم على الضحايا؛ ممّا يعكس إيمانًا بضرورة التضحية من أجل تحقيق الانتصار:
عالميدان يا غزّاوي عالميدان
يا ابن فلسطين يا شامخ مثل الفرسان
فلسطين حرّة أبيّة والنصر للغزّاويّة
تكثفيف فلسطين كلّها في غزّة هنا، له دلالة على أهمّيّة المدينة في الحركة النضاليّة، والوعي العربيّ بذلك. تشتمل الأغنية على عبارة “فلسطينيّة بنعلنها/ غزّة ما بنستغني عنها”، مؤكّدة على ضرورة المؤازرة والتضامن وعدم الخذلان، في ما يحيل إلى الحاصل الآن فيها من مساعي التهجير القسريّ بحقّها.
حتّى الآن، لا تبدو تلك الأغاني موجّهة إلى غزّة، رغم أنّها كُتِبَت ولُحِّنَت على هذا الأساس، والسبب قد يكمن في غياب المدينة ملامحَ وحضارة، وأساس ذلك الحصار المطبق على القطاع. فقد تمكّن فنّانون عرب من زيارة الضفّة الغربيّة وإحياء حفلات فيها، إلّا أنّ أحدًا لم يبلغ غزّة، وهو ما جعل الصورة ناقصة؛ فكيف تولّى مَنْ يعرفون غزّة جيّدًا هذه المهمّة؟
غزّة في أغنية الغزّيّ
محمّد عسّاف، ابن غزّة، واحد من ألمع رموز فلسطين الفنّيّة، وفي رصيده مجموعة كبيرة نسبيًّا من الأغاني الموجّهة إلى مدينته، اختلف الخطاب فيها – ربّما لاختلاف الظرف الّذي أطلق كلًّا منها فيه – ففي أغنية «ارفع راسك هذا سلاحك»، من كلمات الشاعرة الفلسطينيّة الغزّيّة هند جودة، تظهر مشاعر التحدّي، وليس الفخر فحسب؛ لأنّ الغزّيّ يدرك أنّه هو مَنْ يصنع هذا الواقع، فتبدو لغة الخطاب شخصيّة أكثر ممّا تبدو عليه في الأغنيات الّتي تأتي من خارج القطاع:
ارفع راسك هذا سلاحك
أصل الكرامة إنسان
ابن بلاد الشمس الحرّة
ابنك يا غزّة ما ينهان
وفي الأغنية أيضًا عبارات تدلّ على العزم على حمل المهمّة على الأكتاف بدون معين، وفيها وضوح في طلب الشهادة، تظهر في عبارات مثل: “خدوا دمّي وهاتوا حرّيّة”. ومع ذلك لم تُظْهِر الأغنية ملامح المدينة، كما لم تعتنِ بالصورة الحضريّة لها، ولم تستطع تصويرها بعيدًا عن الحرب، أو حتّى قريبًا منها، بل في قلب الحرب؛ فهذه صورة يرى الغزّيّ نفسه عليها، وكأنّ دخان القصف، يحجب رؤية ساحل المدينة المطلّ على العالم الآخر.
أمّا خالد جمعة، الشاعر الفلسطينيّ الغزّيّ أيضًا، الّذي كتب أغنية «بحرك غزّة» لمحمّد عسّاف، ضمن ألبوم «قصص عن فلسطين»، فقد اضطلع بهذه المهمّة الصعبة، وصوّر المدينة خارج قلب الحرب، لكن دونما حذف الدخان من المشهد:
بحرك غزّة ما له حدود
صيّاد ومركب وزنود
مهما تهبّ رياح السود
مركبنا لا بدّ يعود
وفي الموّال في المقدّمة، تسيطر اللهجة الغزّيّة على العمل، كما يشتمل الموّال على توصيف للتضاريس الفلسطينيّة:
بتغنّي البلد مواويل وانت قوافيها
والموج فجر بيسيل يخضّر سوافيها
يا مين درى هالبلد نرجع سوا فيها
والبحر يحضن جبل ويعود اللّي غاب
ويستبدل جمعة بالتوصيف الإنشائيّ والإخباريّ لشحذ العزيمة والنضال تعابير شعريّة، يقرنها بالبيئة الغزّيّة البحريّة:
بحّر وافرد ألف شراع
يا اسمر يا ابو عيون وساع
بحرك حقّك مهما ضاع
بيرجع لو عليت السدود
في هذه الأغنية وحدها، يمكنك أن تشمّ رائحة غزّة، أن ترى الناس يتحرّكون قرب البحر في صورة عاديّة للحياة المأزومة. هي واحدة من الأعمال المهمّة الّتي استطاعت الإفلات من ضراوة الاستعمار وجرائمه؛ لتعلّق صورة طبيعيّة لمدينة غير طبيعيّة، بالمفهومين الاجتماعيّ والسياسيّ. وقد تمكّن اللحن أيضًا من مساندة الكلمات على نحو بارّ، فاختار ياسر عمر مقام البيات وإيقاع اللفّ، وهي عناصر بارزة في التراث الفلسطينيّ، وأضاف إليها لازمة “هيلا هيلا” بصوت الكورال مستحضرًا بيئة البحّارين وأصواتهم.
إلّا أنّ خالد جمعة نفسه، لم يتمكّن من الإفلات من مشاعر الحزن على مدينته، الّتي تتحدّى بأظافرها الملوّنة، وحشًا لا يعرف لغة سوى الدار والإبادة، وهو ما تجلّى في أغنية «غزّة يا بنت بنوت»، الّتي لحّنها سعيد مراد، وغنّتها ريم تلحمي في ألبومها «يحملني الليل»:
غزّة يا بنت بنوت
لأنّه الموت ما حبّ الصوت
لحقها جوّا غرفتها
خاف من صوت ضحكتها
مدّ ايده ع شفّتها
بفكّر إنّه سكّتها
وغزّة لسّا بتغنّي
وبتمشّط بغرّتها
ميّزة هذه الأغنية أنّها استبدلت مرّة أخرى بمفردات العدوان التقليديّة أخرى شاعريّة، صوّرت غزّة فتاة متمسّكة بالحياة، لا بالحرب، وصوّرت المقاومة على أنّها ضحكات واهتمام بالهندام والشعر، وليس مجرّد صواريخ. وكأنّ جمعة يعيد صياغة الصورة المأخوذة عن مدينته، على نحو يقول: إنّنا نقاتل الظلم لنحيا لا لنغرق بالدماء، وقد أضاف للأغنية أداء ريم تلحمي الدراميّ، الّذي قدّم تصويرًا صوتيًّا للمشهد، يعين على التشبّع بصورة الفتاة القويّة بحبّها للحياة، لا بحبّها للموت.
شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ «بائع النبيّ» عن «دار موزاييك»، عمّان، «أؤجّل موتي» عن «دار فضاءات» في عمّان، وترجمة «الوطن – سيرة آل أوباما»، عن «مؤسّسة العبيكان»، الرياض.
المصدر: عرب 48