نفق غزّة
تجري هذه الساعات عمليّة إطلاق سراح المجموعة الأولى من الأسيرات والقاصرين الفلسطينيّين في إطار صفقة تبادل الأسرى، فيما يصف الإسرائيليّون إطلاق سراح مختطفين أو رهائن من غزّة بأنّه “فرح ممزوج بالحزن”. وما يجري هو تبييض للسجون الإسرائيليّة من الأسيرات والأسرى القاصرين الفلسطينيّين.
وفي ظلّ هول الأحداث منذ السابع من أكتوبر، قد لا يستوعب العقل معنى أو حجم أو قيمة هذا التبييض أمام القوّة والغطرسة الإسرائيليّة و”الجبروت” الّذي عبّرت عنه بقتل نحو 15 ألف فلسطينيّ في قطاع غزّة، وحجم الدمار الهائل في شماليّ القطاع. ولا يستوعب العقل كذلك أنّ حركة قد يصل عدد مقاتليها إلى 40 ألفًا تواجه جيشًا يضمّ نحو نصف مليون جنديّ اليوم، ما بين نظاميّ واحتياط، ويستخدم أحدث التقنيّات والأسلحة، وتجري مفاوضات أكثر من ندّيّة، بل أنّ أميركا تفاوضها، ولو بشكل غير مباشر.
والوصول إلى هذه الصفقة والهدنة كان ممكنًا قبل الاجتياح البرّيّ، إذ رغبت كتائب القسّام التحرّر من عبء الرهائن لديها من مدنيّين، خصوصًا الأطفال وكبار السنّ، واقترحت وقف إطلاق النار لخمسة أيّام، لكنّ إسرائيل رفضت وقرّرت التوغّل البرّيّ بحجّة أنّ القسّام لم تقدّم قائمة بأسماء الإسرائيليّين لديها، إذ أبلغت القسّام الوسطاء بأنّها غير قادرة حينها على حصر الأسرى لديها، بل إنّها تريد وقف إطلاق النار لعدّة أيّام لرفع الركام في عدّة مواقع قصفتها الطائرات الإسرائيليّة، وربّما كان احتجز فيها الإسرائيليّون. لكنّ إسرائيل رفضت ذلك، وقالت إنّه في أحسن الأحوال ستقبل وقف إطلاق نار لعدّة ساعات.
بعد نحو أربعة أسابيع على التوغّل البرّيّ، جرت الصفقة دون تغييرات جوهريّة على الصيغة الأولى الّتي اقترحتها القسّام. وتحوّل الحديث الإسرائيليّ عن وقف إطلاق نار عدّة ساعات إلى وقف لأربعة أيّام قابلة للتمديد، وقد تصل إلى عشرة أيّام. ويكذب من يقول إنّ الصفقة جرت بفضل التوغّل البرّيّ والضغط العسكريّ على حماس. هذا غير صحيح مطلقًا. بل بالعكس، الضغط العسكري فشل حتى الساعة. التبادل والهدنة حدثا، لأنّ القيادة الإسرائيليّة لملمت بعض الجرأة لإتمام مثل هذه الصفقة تحت ضغط الرأي العامّ وذوي الرهائن في الأسبوعين الأخيرين.
مأساة الإسرائيليّين لا تنحصر بما حدث في السابع في أكتوبر، بل إنّ المأساة تطول؛ لأنّ إعلامهم بكلّ ألوانه وتوجّهاته يخونهم في كلّ ثانية ودقيقة، ويخفي عنهم الحقيقة، ولا يقدّم حتّى نصفها، عدا عن تغييبه لما حصل من مآسي في قطاع غزّة، حتّى لو من باب التشفّي بالدمار والقتل. هذا الإعلام شريك بإطالة فترة احتجاز الرهائن من الأطفال والنساء، لأنّه يتبنّى ويكرّر ما يملى عليه من الجيش والحكومة، وعدد من المراسلين والمحلّلين العسكريّين يضيفون بعض الدراما على ما لقّنوا به من الجيش، بدلًا من التساؤل والتشكيك بما يسمعون.
مأساة الإسرائيليّين تكمن في إعلامهم وقادتهم وسياسيّيهم، فمثلًا يتساءل صحافيّ إسرائيليّ ماذا سيحصل لو اقترحت القسّام خلال أيّام الهدنة صفقة تبادل تشمل عدّة جنود؟ هل ستوقف الحرب كلّيًّا؟ لكنّه لفت إلى أمر مهمّ، وأجاب بأنّ كلّ ذلك يتعلّق إذا ما أعلمت الحكومة الشعب بمثل هذا المقترح، فما حصل في السابق وعشيّة التوغّل البرّيّ هو أنّها أخفت عن الشعب تفاصيل المقترح، حتّى لا يتحوّل الأمر إلى مسألة رأي عامّ يتبعه ضغط على الحكومة لقبول الصفقة والهدنة قبل التوغّل.
لأوّل مرّة يتقدّم العرب على إسرائيل عدّة خطوات في الحرب، ليس عسكريًّا فقط، وعلى طول أكثر من شهر ونصف، فقدرة إسرائيل على التقدير الاستخباريّ والسياسيّ فشلت في السابع من أكتوبر، وهي لا تزال حتّى اليوم غير قادرة على توقّع الخطوات التالية للقسّام أو حماس تحديدًا في قضيّة الرهائن. بمقدورها أن ترفض بداية كلّ خطوة، لكنّها تضطرّ لاحقًا للتعامل مع الأمر الواقع.
مأساة الإسرائيليّين، عدا عن حجم القتلى والضحايا المدنيّين في السابع من أكتوبر، تكمن أيضًا في أنّ قادتهم يتصرّفون كسياسيّين لا كقادة، حساباتهم تتعلّق باستطلاعات الرأي وعدد المقاعد في الكنيست، وهي ليست حسابات إستراتيجيّة، فلو كانت كذلك، لحزنت وحدّت أوّلًا على ما حصل في السابع من أكتوبر، وعالجت الخلل الإستراتيجيّ في أجهزتها ورؤيتها، لكنّ غريزة الانتقام أعمتها وخاطرت بمدنيّيها وجنودها المحتجزين في غزّة.
***
قبل السابع من أكتوبر، قالت إسرائيل للعرب طبّعوا معنا وتخلّصوا من القضيّة الفلسطينيّة، وقد سمّى ذلك “الكتّاب العرب المعتدلين” والمعتلّين بنفسيّة المهزوم بـ”السلام الثنائيّ” أو “الاتّفاقيّات الثنائيّة” بين إسرائيل ودول التطبيع العربيّة. قالت لهم “انفضوا أياديكم من الفلسطينيّين”، أو “الفلسطينيّون شأن ثنائيّ معنا لا علاقة لكم به”. اقتنع بعض العرب بذلك وطبّعوا ووقّعوا، والبعض الآخر كان في طريقه إلى ذلك مع التشديد على “ضرورة تحسين شروط حياة الفلسطينيّين الاقتصاديّة”.
بعد السابع من أكتوبر، تقول إسرائيل للعرب إيّاهم، تحمّلوا أنتم عبء القضيّة الفلسطينيّة. خذوا الفلسطينيّين من غزّة إلى دياركم، أو رتّبوا لهم اللجوء في الغرب. لقد حاولنا ذلك مع مصر ولم ننجح، يقولون، فلنجرّب فكرة التهجير واللجوء مع العرب والغرب مجتمعين.
بعد السادس من يونيو 1967، سعى الفلسطينيّون إلى “توريط” الدول العربيّة في مواجهة مع إسرائيل، وبعد السابع من أكتوبر 2023 تريد إسرائيل “توريط” العرب بمصير الفلسطينيّين في غزّة.
***
يريد غالانت تحويل بيت حانون الحدوديّة شماليّ غزّة إلى بلدة مهجورة ومدمّرة، ويستعير محلّلون إسرائيليّون بإيعاز منه مثال بلدة القنيطرة السوريّة الّتي هجرت ودمّرت بعد حرب أكتوبر 1973، ليصبح “مثال بيت حانون” عبرة للفلسطينيّين إذا فكّروا بمقاومة إسرائيل. ويريد غالانت أن تكون بيت حانون أو أطراف منها جزءًا من شريط أمنيّ على طول القطاع، لكن بعد نحو أربعة أسابيع من التوغّل البرّيّ، ما زالت الأخبار القادمة من بيت حانون تفيد بأنّها تقاتل رغم الخراب، كذلك الحال في جاراتها بيت لاهيا. لا ندري من سيخرج أوّلًا من بيت حانون. المؤكّد أنّ غالانت إيّاه لن يطول عمره في وزارة الأمن أو حتّى في السياسة كذلك. فهذه العنتريّات ليست تعبيرًا عن إستراتيجيّة حقيقيّة وواقعيّة، بل هي أمنيّات في لحظة غضب إلى حدّ الجنون. لم تعد إسرائيل تتحكّم بالواقع في فلسطين والمنطقة كما يظنّ غالانت ومن على شاكلته، فميزان القوّة وقع من بين يديه وانكسر، ودخلت إسرائيل إلى نفق غزّة اللامتناهي.
المصدر: عرب 48