هذا الطوفان الذي يغمُر المنطقة
لا يمكن وصف الطوفان بأنه كبير أو صغير، جارف أو عارم، فهو طوفان. وقد أراد يحيى السنوار ومحمد الضيف لطوفان الأقصى أن يغمر البلاد ويزلزل المنطقة، وهو ما يحصل فعلا، لكن ليس في الاتجاه الذي طمحا إليه. فلم تُفتح الجبهات كافة على إسرائيل كما دعا الضيف في كلمته المسجلة في صباح السابع من أكتوبر، بل استفردت إسرائيل بكل جبهة؛ استفردت في غزة بداية، ثم في حزب الله، ويشير بنيامين نتنياهو إلى الجبهة المقبلة؛ إيران.
انطلق الطوفان في السابع من أكتوبر 2023، ويبدو أن مدياته غير معروفة، ولا يمكن توقعها. المنطقة تمر بطوفان فعلي منذ السابع من أكتوبر، الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ نحو 14 شهرا، وكذلك الحرب على لبنان، والمواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، وما يحصل في الأيام الأخيرة في سورية بتأثير من تداعيات الطوفان وإضعاف إيران وحزب الله في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وكذلك عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واستقرار الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو. اللامتغير الوحيد في كل ما يحصل هم العرب، أو أنظمتهم.
كل هذه العوامل والمتغيرات واللامعلوم تجعل من التحليل ضربا من التكهنات، والحكم عليها استعجالا، إذ إن مخاض الطوفان ما زال غامضا؛ لأنه لا يزال يتفاعل، ورغم وجود عدة معطيات أو حقائق واضحة، الإبادة والتهجير في قطاع غزة، تمكن إسرائيل من اغتيال قيادة حزب الله وضرب أسلحته الإستراتيجية مثل الصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، وغيرها من المعطيات، لكن تقدير ما سيحصل في لبنان مثلا في المرحلة المقبلة يبدو تخمينا أو أمنيات، فقد سارعت أطراف لبنانية إلى نعي حزب الله وهو في عز القتال مع إسرائيل، فيما دعت إلى نفي الشيعة من المشهد السياسي، لتفاجأ اليوم أن حزب الله لم يمت رغم ما أصابه والشيعة ما زالوا لبنانيين.
وكذلك الحال في فلسطين، فالواقع واضح، إبادة وتهجير وحصار وانقسام. مفاعيل الطوفان ما زالت مستمرة، سواءً في غزة أو الضفة الغربية، وحتى إقليميا مع عودة ترامب. ويظل مصير غزة مجهولا، فيحكم نتنياهو قبضته على مصير القطاع، لكن الواضح هو فرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع وتعطيل إمكانية إعماره بهدف تهجير الغزيين بحيث أصبح قطاع غزة مكانا غير صالح للحياة. وكما سارع لبنانيون لنعي حزب الله وإعلان وفاته، سارع فلسطينيون إلى نعي حماس وإعلان وفاتها، لكن في العجلة الندامة، فما زال التنظيمان يقاتلان، وهما قائمان سياسيا، على الرغم من كل الضربات والاغتيالات.
أما في سورية، فهجوم ائتلاف عسكري من المعارضة على حلب وانهيار قوات النظام بهذه السرعة، ربما المتوقعة على نحو ما بسبب هشاشة النظام، لا بد أنها متأثرة من تداعيات الطوفان، وخصوصا ما تعرض له حزب الله في الشهور الأخيرة، وما أصاب طهران من خسارات جدية في محورها وانشغالها في الدفاع عن نفسها. لكن المعركة لم تنته بل ما زالت في بدايتها، فربما يعد النظام عدة حلفائه من إيرانيين وعراقيين لشن هجوم مضاد.
صمت النظام في سورية على ما حصل من عدوان إسرائيلي متكرر على أراضيه في السنة الأخيرة، لكنه يسارع إلى وصف قوات المعارضة بالإرهاب، والمشكلة لا تُحل بالنعت والوصف، ولا بالقتل والهجوم والهجوم المضاد، بل في أن لسورية شعبا مشردا نتيجة عقلية النظام بغرز الرأس بالرمال. تجاهل الواقع والتعامل معه بالأدوات العسكرية يطيل أمد المشكلة والمعاناة، لتظل سورية مشرعة وضعيفة أمام الاعتداءات الإسرائيلية، لكن النظام يعتقد أنه قوي. قوة سورية في مواجهة إسرائيل من قوة شعبها وليس من قوة نظامها.
أما النظام العربي، فهل يعقل ألا يتأثر شعبيا من كل ما يحصل حوله من إبادة وقتل، ألن يصله الطوفان أيضا؟
في مثل هذا الواقع – الطوفان تكثر سيناريوهات المؤامرة، ويبدع محللو السوشال ميديا بعرض بضاعتهم بحيث تتبعثر الحقيقة وتختلط بالأمنيات، فهذه “التحليلات” لا تهدف إلى فهم ما يحدث حقا، أو بناء على معطيات واضحة، بل تسعى إلى خلق اصطفافات واستقطبات، وكأنها تستبق الأحداث، وكأن الخيار هو ما بين الجولاني أو بشار الأسد (وقد انتفض الناس على حكمهما). لا هذا ولا ذاك طموح السوريين، ولا يوجد إنسان عاقل في الدنيا يطمح للعيش تحت حكمهما. ومن علامات إنكار الواقع والتحجر هي تلك الإشادة بـ”الجيش العربي السوري”، وخصوصا من “عروبيين ويساريين”. صحيح أن للجيش السوري بطولات في مواجهة إسرائيل، لكن جيش اليوم ليس ذاك الجيش. أليس من مآسي العرب في القرن العشرين جيوشهم، عسكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فلا حاجة إلى علامة استفهام هنا، فالواقع واضح.
في الأخير، الطوفان يغمر المنطقة، كل اتجاهاته ممكنة، لكن المؤكد أن ما بعده ليس كما قبله، وليس بمقدور أحد إحكام قبضته عليه، فهو طوفان، ولسنا في زمن سفينة نوح.
المصدر: عرب 48