هل “الفرح نوع من المقاومة”؟
استكثر البعض على أهل غزّة تعبيرهم عن الفرح بالتوصّل إلى وقف إطلاق النار. يمكن فهم أسباب تعكّر مزاج وغضب نظام ومجتمع الأبرتهايد الهمجيّ إزاء مظاهر الفرح تلك، الّتي اجتاحت غزّة، وكذلك عموم شعب فلسطين وأحرار العرب والعالم. لكن لا يمكن فهم تلك القلّة الّتي أزعجها هذا الشعور الإنسانيّ الّذي تدفّق بعفويّة وبصدق، رغم الألم الفادح والجراح العميقة. ويعود ذلك الانزعاج إلى خيبات أمل تلك القلّة، الّتي كانت تنتظر من الناس التعبير عن انكسار وانهيار، وكذلك انقلاب الناس على حركة المقاومة، والكفر بأيّ شكل من أشكال الاعتراض على مشروع إباديّ توسّعيّ ومتوحّش.
ذلك التعبير عن الفرح ليس فرحًا بمعنى البهجة والسرور، إذ لا يعقل أن يبتهج المرء المكلوم بعد كلّ هذا الدمار والقتل والمحو، بل هو تعبير إنسانيّ عن لحظة انتهاء أو توقّف حرب إبادة وتصفية جماعيّة للناس، وعن توقّع انفراجة حقيقيّة للكابوس، والبدء بكيّ الجراح، وتوفّر الفرصة لملمة الأشلاء، من أجل مواصلة الحياة على هذه الأرض. هذا الشعب المظلوم، الّذي تفرّد بعناده وصبره، وإيمانه، وجبروته، عبّر ببساطة عن رغبته في الحياة، وعن مقته للموت، وعن انتصاره على الطرد.
نعم يدرك هذا الشعب أنّه لم ينتصر بعد، أنّه لم يستقلّ في بلده، أنّه لم يوقف نهب وتهويد الأرض، ولكنّه يعرف أنّه تحرّر نفسيًّا، وحرّر إرادته، وحرّر أعدادًا كبيرة من الناس في العالم من أساطير الصهيونيّة، وأساطير “العالم الحرّ” القاتل. كما يعرف أين أصابت قيادته وأين أخطأت، بل ربّما من خلال هذا التعبير عن الفرح، يرسل رسالة، إضافة إلى كونها موجّهة إلى عدوّه أساسًا، وإلى أنظمة العار العربيّة، يرسلها إلى قيادته أو كلّ قياداته، بضرورة المراجعة، وامتلاك القدرة على النقد الذاتيّ. إلى تلك القيادة، في فرعها المقاوم، الّتي اجتهدت وأخطأت في الحسابات، وتلك القيادة الذليلة المتعاونة مع المستعمر، وأيضًا تلك القيادة الّتي تواجه مخاض الولادة، ولادة من قواعد شعبيّة وفئات نخبويّة وطنيّة وتحرّريّة، وهي الّتي عجزت، رغم الجهود المبذولة، وما تزال، عن تحريك الشارع، وإحداث النقلة النوعيّة التنظيميّة المطلوبة.
لقد ظهرت سمات الوجوم والعبوس، تجاه مظاهر التعبير عن الفرح على وجه طرفين، الأوّل؛ نظام الأبرتهايد الإباديّ، والثاني؛ سلطة أوسلو وأبواقها. إنّ وصف الهباش، أحد معاول الهدم والخراب، الالتفاف بأنّه تافه هو تعبير عن الحالة الرثّة الّتي يمثّلها، وعن تلك الصدمة ممّا تحقّق في هذا الاتّفاق لصالح وقف إطلاق النار، وليس ذلك مفاجئًا تمامًا. فقد بات مكشوفًا حقيقة انتظار سلطة أوسلو لهزيمة غزّة ورفع الراية البيضاء. هذه القيادة، الّتي لم يكن مطلوبًا منها إعلان ثورة مسلّحة في الضفّة الغربيّة، مساندة لغزّة، بل موقف سياسيّ صلب، ونضال شعبيّ مدنيّ، أيّ مقاومة شعبيّة لا عنفيّة حقيقيّة، واسعة ومتواصلة. وهي استراتيجيّة معقولة كان يمكن أن توفّر الكثير من الضحايا والشهداء، وأن تحدث انشقاقًا أوسع داخل مجتمع المستعمر وحلفائه في الغرب. ولكنّ ذلك لم يحصل. لقد اختزل فريق أوسلو وظيفته بالعمل الدبلوماسيّ المتردّد، وبالتنسيق الوثيق مع المحتلّ، وبالتجنّد لصالح خطاب ودعاية المستعمر.
لقد كانت إسرائيل تتوقّع انفجار مظاهر الفرح، بعد سريان مفعول اتّفاق وقف النار، وإطلاق مئات أو آلاف الأسرى الفلسطينيّين، ولذلك استبقت تنفيذ الاتّفاق بإجراءات دراكونيّة لمنع حدوث هذه المظاهر خاصّة عند استقبال الأسرى الفلسطينيّين، في بيوتهم. غير أنّ ذلك لم يجدِ.
منذ زمن طويل لم تعد إسرائيل تتسامح مع أيّ شكل من أشكال المقاومة الشعبيّة، وحرّيّة التعبير، ليس فقط في غزّة والضفّة والقدس، بل أيضًا داخل إسرائيل بحدود ١٩٤٨. وما فرضته من إجراءات وقوانين عنصريّة وقمعيّة شديدة هو امتداد لمسار قمعيّ عدوانيّ متصاعد بدأ قبل الحرب. فمن خلال الحرب الإبّاديّة والعقوبات المفروضة علّ كلّ من يتجرّأ ويدعو إلى وقف الحرب، سعت وتسعى إسرائيل إلى كسر روح هذا الشعب، ودفعه إلى تذويت الخضوع والعبوديّة في المرحلة الأولى، أو التهجير في المرحلة الثانية، أو القتل والإبادة الفيزيائيّة في المرحلة الثالثة والأخيرة. وعندما فشل التهجير، وعجزت إسرائيل عن فرض شروطها على حركة حماس والفصائل المتحالفة معها، انتقلت إلى تصعيد مخطّطها القديم-الجديد في الضفّة الغربيّة، وبحدّة أكبر، إذ تحاول نسخ ممارساتها في غزّة، وهي تهدف في الوقت ذاته إلى لجم التمدّد المعنويّ في الضفّة الغربيّة.
إنّ التعبير عن الفرح هو تعبير عن الرغبة في الحياة بحلوها ومرّها. هو تعبير عن رفض الاستسلام وعدم الانكسار، لأنّ انكسار الروح يعني انتهاء الحياة… انتهاء الحلم … وهذا لن يحصل.
ولهذا يعتبر الكثيرون أنّ التعبير عن الفرح هو شكل من أشكال المقاومة في سبيل التحرّر والعدالة.
المصدر: عرب 48