هل هي ردّة أم حكمة وتعقّل؟
أسئلة كبرى سيطرحها الفلسطينيّون على أنفسهم بعد انتهاء الحرب الهمجيّة على غزّة، حول الحسابات والكلفة والنتائج، وليس الإسرائيليّين فقط وإن كانوا مصدومين لم يصبروا، إذ بادرت شرائح واسعة منهم إلى طرح أسئلتهم الحارقة، وانتقاداتهم اللاذعة لقياداتهم، الّتي تتعلّق بأسباب إخفاق دولتهم بمنع الهجوم الفلسطينيّ الصاعق في السابع من أكتوبر.
وبطبيعة الحال، هناك فرق بين دولة استعماريّة ولد منها نظام فصل عنصريّ مهجوس بوجوده، ونزعت عنه منظّمات حقوق إنسان عالميّة الشرعيّة من جهة، ومن جهة أخرى شعب تعرّض لنكبة قبل 75 عامًا متواصلة بوسائل مختلفة من العنف والسيطرة، وتؤمن غالبيّة قياداته ونخبه، بأنّه منخرط في أحد أخطر فصول التحرّر والانعتاق من السجن، سجن الاحتلال ونظام الأبرتهايد، القائم بين البحر والنهر.
ليس موضوع هذا المقال الخوض في تلك الأسئلة الكبرى في وقت يتعرّض الشعب الفلسطينيّ في غزّة إلى مخطّط إبادة فعليّ، وفي الضفّة الغربيّة والقدس، إلى قمع وقتل وهدم البيوت من خلال الجيش والمستوطنين، لأنّ الأولويّة الكبرى والعاجلة لهذا الشعب، وفقًا لقياداته ونخبه، هو تعزيز الصمود وصدّ العدوان ومخطّط التهجير ووقف الحرب الهمجيّة، وإحباط الهدف الإسرائيليّ الإستراتيجيّ المتمثّل بتصفية الحقّ الفلسطينيّ.
هذا المقال يهدف إلى محاولة فهم أو توضيح أسباب غياب الفعاليّة من جانب فلسطينيّي الـ48 تجاه هذا الفصل الدمويّ، حتّى هذه اللحظة، وما إذا كان هذا السلوك يمثّل ردّة أو محدّدًا لتحوّل في النهج الكفاحيّ، أم أنّه مجرّد وقاية مؤقّتة من الجنون الإسرائيليّ، مرتبط بظروف الحرب الحاليّة، والّتي تستغلّها المؤسّسة الإسرائيليّة الرسميّة لتوطيد سيطرتها من خلال اللجوء إلى منظومة إجراءات دراكونيّة، جعلت الشيوخ يتذكّرون حقبة الحكم العسكريّ الّذي اعتمدته إسرائيل لمدّة عقدين كاملين بعد النكبة مباشرة كجزء من نظام السيطرة وإعادة هندسة الوعي، ولمنع عودة اللاجئين، أي أقاربهم.
على خلاف بقيّة التجمّعات الفلسطينيّة، على خلاف نهجهم تجاه شعبهم، بل وعلى خلاف شعوب العالم المنتفضة ضدّ المذبحة، يختفي المواطنون الفلسطينيّون من ساحات التضامن والتفاعل مع أكبر محنة وأشدّها دمويّة وأكثرها خطورة، يتعرّض لها شعبهم في قطاع غزّة والضفّة. بل حتّى تفاعلهم الشفويّ العلنيّ، تراجع بصورة حادّة.
ومن اللافت للنظر، أنّ غالبيّة الفلسطينيّين الّذين يوجدون خارج الخطّ الأخضر، وفي أماكن اللجوء والشتات لا يوجّهون عتبًا أو لومًا على هذا الجزء من شعبنا، باستثناء اللوم بل الغضب الموجّه إلى فئة ضالّة (هي قيادة الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة، وهي لا إسلاميّة ولا وطنيّة) الّتي اختارت أن تكون جزءًا من حكومة الأبرتهايد، وتحمل خطابها العدوانيّ. بل بعض هؤلاء تراهم يكتبون أو يعبّرون عن تفهّمهم لهذا الارتداع المتأثّر بالحملة القمعيّة والترهيبيّة الفريدة، الّتي يتعرّضون لها، وإن كان هناك من يتوقّع منهم أن يكونوا في الساحات والشوارع.
والحقيقة، يعيش غالبيّة فلسطينيّي الـ48، حالة من الفجيعة على ضحايا الحرب الإباديّة، ومن والاكتئاب الشديد لشعورهم بالعجز التامّ عن القيام بأيّ نشاط شعبيّ يمكن أن يضغط على إسرائيل بوقف الحرب، أو حتّى جمع تبرّعات الّتي لا يمكن أن تصل في الظرف الحاليّ، بل العجز أحيانًا حتّى التعبير علنًا عن حزنهم. لكن، هناك أيضًا شعور بعدم الرضا عن الذات، بل بتأنيب ضمير لدى الكثيرين، لأنّه في العادة ينتظر منهم أن يتحدّوا ويسكروا القيود المفروضة، مهما كان الثمن.
وقبل تلخيص بعض الأسباب الّتي تشرح هذا الصمت، من خلال الحديث ومتابعة مباشرة لحديث الناس، لا بدّ من التذكير بحقيقة تاريخيّة؛ اعتاد الفلسطينيّون في إسرائيل أن يخرجوا إلى الشوارع تضامنًا مع شعبهم عندما تكون إسرائيل هي البادئة بالهجوم. والحالات الّتي بادروا هم بأنفسهم إلى إطلاق حراك شعبيّ عارم ومؤثّر، عندما تعلّق الأمر بقضايا تخصّهم مباشرة وخاصّة قضيّة الأرض. وأهمّ هذه الحالات انتفاضة يوم الأرض عام 1976، ومظاهرات أراضي الروحة في منطقة أمّ الفحم عام 1998، وحملة التظاهر وإغلاق الشوارع ضدّ مخطّط برافر التهجيريّ عام 2013.
وعودة إلى الأسباب الكامنة خلف التزامهم البيوت منذ انفجار الوضع في قطاع غزّة.
السبب الأوّل والمباشر أنّه في هذه الحرب، كان الطرف الفلسطينيّ هو المبادر بعمليّة عسكريّة غير مسبوقة بمستوى التخطيط والتنفيذ، وبمستوى خطورتها، وقد وصفها غالبيّة المحلّلين العسكريّين الإسرائيليّين، وفي العالم، بأنّها أكبر ضربة إستراتيجيّة تتعرّض لها المنظومة الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة. لقد رأى الجميع انهيار وهم السجن، عقيدة بنيامين نتنياهو وفريقه الأمنيّة، الّتي تنصّ على حشر مليونين ونصف فلسطينيّ إلى ما لا نهاية في ظروف شديدة البؤس والحرمان والموت الفعليّ والبطيء، وبفصل قطاع غزّة عن الضفّة الغربيّة، وإدامة الانقسام داخل الحركة الوطنيّة.
هذه العمليّة الّتي قامت بها حركة حماس شملت قتل وخطف مدنيّين منهم أطفال، وليس فقط عسكريّين، ما أدّى إلى تضخّم الغضب الرسميّ والشعبيّ بصورة غير مسبوقة، وأجّج حالة الانتقام ليس فقط من حركة حماس، بل من كلّ فلسطينيّ، المرأة والرجل والطفل والرضيع، داخل القطاع، بل أيضًا رغبة في الانتقام من فلسطينيّي الـ48 إذا ما تحرّكوا، رغم أنّ قتل المدنيّين وخطف الأطفال أساءهم أيضًا، وأصيب الكثيرون بالذهول. وللتوضيح، ليست تلك الحرب المجنونة مجرّد انتقام، بل هي أيضًا فرصة لتنفيذ مخطّطات تهجيريّة قديمة – جديدة.
في الأسبوع الأوّل من الحرب، حاولت طلائع من الجيل الشابّ والحركة الطلّابيّة أن تعوّض عن الحرمان من التظاهر في الشوارع بالكتابة للتعبير عن تعاطفهم مع شعبهم والمطالبة بوقف الحرب، ولكنّ جهاز القمع الإسرائيليّ كان لهم بالمرصاد، فأقدم على حملة ملاحقة واعتقالات واسعة وفوريّة وعنيفة، وفصل طلّابًا من الجامعات، وقدّم العديد بمن فيهم أساتذة جامعات لمحاكم مدنيّة ومحاكمات تأديبيّة. كذلك لاحق كلّ من حاول التخطيط لتنظيم وقفات تضامنيّة، واعتقله قبل الوصول إلى مكان التجمّع أو التظاهر. لقد تحوّلت المطالبة بوقف الحرب مخالفة قانونيّة، لأنّها وفق هذه المكارثيّة تعني أنّك تطلب ذلك لمصلحة حركة حماس.
السبب الثاني، ربط المواطنون الفلسطينيّون وقادتهم بين الخطط القمعيّة المعدّة سلفًا، والّتي كانت حدثتها ووسعتها الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، بعد انتفاضة الكرامة والوحدة عام 2021 مباشرة، تحضيرًا لسيناريوهات مماثلة في المستقبل. ومع أنّ تلك الانتفاضة ذات طبيعة شعبيّة مدنيّة، استمرارًا لنهج اعتمده الناس وجميع أحزابهم وحركاتهم الوطنيّة بلا استثناء منذ النكبة، إلّا أنّ هذه الأجهزة أعملت قمعًا شديدًا بحقّهم، وأصدرت أحكامًا خياليّة بالسجن على متظاهرين وصلت أحيانًا إلى تسع سنوات، على من اتّهم برمي حجر على سيّارات شرطة أو لمواطنين يهود، أو حتّى على من اتّهم بإشعال إطار سيّارة في شارع. ويأتي هذا التصعيد الإسرائيليّ في سياق التحوّل نحو الفاشيّة والتطرّف اليمينيّ القوميّ واليمينيّ في الدولة والمجتمع. وإنّ استلام هذه الأجهزة الأمنيّة من قبل وزراء شديدي التطرّف، وضعوا نصب أعينهم تلقين فلسطينيّي الـ48 درسًا، والسعي إلى ارتكاب نكبة ثانية بحقّهم، يأتي ضمن هذا التحوّل الفاشي المتدرّج والمتصاعد خلال العقدين الماضيين.
لماذا كلّ هذا العداء لهذا الجزء من شعبنا؟
السبب الأوّل، الشعور بالحسرة والندم الشديد في أوساط الحكم في إسرائيل لعدم إكمال مهمّة التطهير العرقيّ الّتي نفّذتها العصابات الصهيونيّة بين عامي 1947 – 1948، حيث تمكّن حوالي 150 ألف فلسطينيّ من النجاة، ولذلك أسباب مختلفة.
السبب الثاني، هو مضاعفة عددهم بالتكاثر الطبيعيّ عدّة مرّات (أصبح مليون ونصف تقريبًا) وقدرتهم على تطوير تجربتهم الثقافيّة والسياسيّة، وتحوّلهم إلى رقم سياسيّ في معادلة الصراع ضدّ نظام التمييز العنصريّ والمصادرة، وتمكّنهم من الانتقال منذ أواخر الستّينيّات إلى مرحلة البناء الذاتيّ وإعادة بلّورة هويّتهم الوطنيّة الفلسطينيّة، والتفاعل مع قضيّة شعب فلسطين ككلّ، رغم كلّ ما مرّوا به خلال الحكم العسكريّ وبعده.
السبب الثالث، هو تطوير تجربتهم في المرافعة على الصعيد الدوليّ، بحيث ساهموا في كشف زيف ادّعاء دولة إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطيّة، فطرحوا بصورة منهجيّة تناقض يهوديّة الدولة مع ديمقراطيّتها، ورفضها منح المساواة للمواطنين الفلسطينيّين. كان اللجوء إلى المؤسّسات الدوليّة قبل التسعينيّات يواجه بحملة ترهيبيّة غير مسنودة بالقانون الإسرائيليّ، من خلال اعتبار لجوء مواطنين فلسطينيّين إلى هذه المؤسّسات خيانة للدولة.
والسبب الرابع هو العامل الديمغرافيّ. كما هو معروف شكّل هذا العامل، أي الوجود الفلسطينيّ في الوطن الّذي وعدتهم به الإمبرياليّة البريطانيّة، عائقًا أمام مشروعهم الكولونياليّ، الّذي أرادوه عرقيًّا يهوديًّا خالصًا. وبما أنّ الظروف المحلّيّة والدوليّة الّتي كانت قائمة عام 1948، لم تتح استكمال التطهير العرقيّ الّذي نفذ بوحشيّة، ظلّ الوجود الفلسطينيّ الباقي في الوطن مصدر قلق دائم لنظام الأبرتهايد.
والسبب الخامس والأخير هو زيادة التلاحم بينهم وبين بقيّة الشعب الفلسطينيّ، وتعزّز الوعي بالمصير الواحد بعد توحيد منظومة القهر الصهيونيّة وصولًا إلى قانون القوميّة، الّذي ينفي أيّ حقّ وطنيّ أو سياسيّ للفلسطينيّين.
يظلّ السؤال الّذي يشغل هذا الجزء من شعبنا ونخبه في هذا الظرف العصيب؛ هل هذا الارتداع شبه الكامل الّذي يتجلّى في غياب الفعل الجماهيريّ حتّى الآن، هو نابع من حكمة وتعقّل، أم من خوف مبالغ فيه، وهل هناك ما يمكن عمله أو تجريبه غير تلك المحاولات الّتي أحبطت أو أخفقت في تحريك الناس أو بعضهم. وهل من شأن الخضوع لحملة الترهيب أن يحدث انتكاسة وطنيّة وسياسيّة على المدى الطويل؟
لن يحدث هذا. فواقع التجربة التاريخيّة يؤكّد أنّه سلوك ظرفيّ وعابر. لقد قطع هذا الجزء من شعبنا مرحلة طويلة وتحوّلات عميقة في الوعي والانتماء. كما أنّ سياسات إسرائيل ومخطّطاتها العدوانيّة وغير الإنسانيّة، ستظلّ أيضًا دافعًا لتعزيز هذا الوعي، وحافزًا على الإصرار على مقاومة الظلم. إنّ هذه الحرب الهمجيّة الّتي تشنّها إسرائيل ضدّ شعبهم، والّتي تجري بالبثّ الحيّ، أضافت أطنانًا من الغضب والحقد على هذه السياسات لدى الأجيال الجديدة، وشكّلت مصدر معرفة وتثقيف حول القضيّة الفلسطينيّة، ومأساة التشريد الأوّل، أكثر تأثيرًا من آلاف المحاضرات والكتب. إنّهم يتابعون مداخلات وتغريدات آلاف المؤثّرين عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، الفلسطينيّين والأجانب واليهود، الّذين يشرحون هذه الرواية بطريقة مبسّطة وجذّابة، ومؤثّرة في الوجدان.
والأهمّ من كلّ ذلك، هو الصمود الأسطوريّ لشعبهم، وإرادته الفولاذيّة وقدرته على الفعل التحرّريّ في أصعب الظروف، وأشدّها حلكة. وبهذا الصمود أعاد القضيّة الفلسطينيّة، والحقّ الفلسطينيّ، إلى الطاولة، ناسفًا مخطّطات تجاهلها وتصفيتها إلى الأبد.
وبطبيعة الحال، سيواجه فلسطينيّو ال٤٨، بعد هذه الحرب، مجتمعًا إسرائيليًّا، مشحونًا بمقادير إضافيّة من الحنق والكراهية ضدّهم، في أماكن العمل، في الشارع، في الجامعات، وغيرها. وتتطلّب مواجهة هذه الخطر الجديد، توطيد وحدة وتضامن الناس، وتعزيز الهيئات التمثيليّة، والمؤسّسات المهنيّة، وكذلك تعزيز التعاون مع القوى اليهوديّة الديمقراطيّة المناهضة للاحتلال والعنصريّة، وكذلك أحرار العالم، لمواصلة النضال من أجل التحرّر والعدالة، والسلام، كبديل عن الاستعمار والحروب والقتل.
المصدر: عرب 48